جنيف2 : الإبحار في بحر الظلمات: سمير سليمان
سمير سليمان
تشير معادلات القوة والسياسة المتعلقة بالثورة السورية , أن مؤتمر جنيف2 الموعود , سيكون شبيها إلى حد بعيد , ظاهريا على الأقل , بالمؤتمرات التقليدية للجامعة العربية بصورتها النمطية . وسيتميز بالتالي , بالميزة التي كانت حكرا لمؤتمرات العرب . ميزة إدعاء أن عقد المؤتمر بحد ذاته , هو إنجازه الوحيد المنشود . وأن جميع المسائل والمشاكل التي عقد المؤتمر في سبيل حلها وتحت عنوانها , بقيت معلقة , أو تم ترحيلها للأمام , للتعامل معها لاحقا حسب موازين ومقتضيات الصراع . وهذا مايدل عليه كل التصريحات المتضاربة إلى حد التناقض , والصادرة عن الدولتين الكبريتين صاحبتا هذا المؤتمر . وهو أيضا , مايفسر أن أيا من الأطراف الدولية الفاعلة في المؤتمر , لاتأخذه على محمل الجد , من وجهة نظر إعتباره فاتحا لحل سياسي ينهي الصراع القائم في سورية .
وفي الداخل السوري , لاينتظر طرفا الصراع , النظام وقوى الثورة , أن يفرض عليهما حل سياسي لايرضي الطرفين معا ولكنه يفرض هدنة . والحل الذي يرضي الطرفين ليس موجودا بعد . وباستثناء هيئة التنسيق ومثيلاتها من متصوفي السياسة , لايصدق أحدا أن مؤتمر جنيف القائم على إرادات متناقضة وعنيدة , يمكن أن يعطي أية توافقات لحل سلمي قابل للحياة . بل على العكس , فقد تعلم السوريون , بطريقة كلب بافلوف , وليس بفضل ذكاء معارضتهم المريضة , أن المؤتمر الدولي قد يكون ” فخا ” للإيقاع بهم , وإجهاض مطلبهم الرئيسي في بناء الدولة الديموقراطية . فلا ينظرون الآن لكل التحركات الدولية حول قضيتهم , إلا بالعين الحذرة الشكّاكة .
بالمقابل , وبموجب خبرتنا ومعرفتنا بقوة وإرادة السياسة الدولية , لايمكن القبول السهل بتشابه هذا المؤتمر الذي تدعو له الدول العظمى , بالمؤتمرات التافهة والجوفاء للجامعة العربية , فهذا مما لايرضيه المنطق , ولا الشرع ( الدولي طبعا ) . فما حقيقة هذا المؤتمر إذن ؟
مؤتمر جنيف 2 يتشابه شكليا فقط مع المؤتمرات العربية , فهو لن يضم أنظمة عجوز ضعيفة وواهنة , وعاجزة عن تحقيق أي قرار تأخذه , كما يحصل مع مؤتمرات العرب ( رغم مظاهر الضعف الواضحة على إدارة أوباما , والذي يحاول تغطيته بحكمته السلمية اللاأخلاقية ) . ولكن سيكون من المقرر له , ومراد منه , أن يبدو كذلك , لسبب بسيط : جميع الأطراف , المتناقضة الإرادات والمصالح , تحتاج إلى المزيد من الوقت , ولاشيء غير الوقت , لكسب رهاناتها المتناقضة . بمعنى أنه لم يصل أي من أطراف الصراع , إلى قبول فكرة أنه لن يستطيع تحقيق المزيد باتجاه مايريد . بل تستمر القناعة أنه يمكن , بل يجب , تحقيق إنتصارات إضافية ذات قيمة تفاوضية .
منذ اللحظة الأولى لإندلاع الثورة في سورية , طلب النظام إعطاؤه الوقت لقمعها , وأعطي له الوقت الكافي لفترة أولى ليواجهها منفردا بأجهزته الضخمة كاملة الإستعداد . ثم مدد الوقت له ليستخدم الجيش وسلاحه الثقيل . ثم أعطي فرصة ثالثة عبر الجامعة العربية و( دابتها ) . ثم فرصة رابعة من الأمم المتحدة و( عنانها ) . وبعدها طلب المدد والسلاح والوقت أيضا , فأعطاه الروس والإيرانيون السلاح وأعطاه العالم الوقت المطلوب تحت عنوان ( الأخضر الإبراهيمي ) . ولما فشل كل ذلك في قمع الثورة , تسلمت إيران قيادة المعركة الميدانية , وتسلمت روسيا قيادة المعركة السياسية , وتوسع نطاق الحرب , وتعددت عوامل التأثير والحسم بعد الإصطفاف العلني لإيران قي المعارك , وانخراط أطراف جديدة في الصراع بشكل حاسم كما فعل حزب الله والميليشيات الشيعية في العراق . كل هذا جعل من الضرورة وضع إطار دولي يبقي الساحة تحت السيطرة الغربية في بعدها الإستراتيجي . دون إستبعاد أو كف يد حلفاء النظام في القتال إلى جانب قوات الأسد .
الوقت المطلوب حاليا ليس بناء على ” طلبية محلية ” من بشار الأسد , إنه طلبية إيرانية – روسية – أمريكية , لتجريب قوى جديدة دخلت في الصراع بالنسبة لمعسكر النظام , ولاستنزاف ذات القوى بالنسبة للمصالح الأمريكية – الإسرائيلية المتطابقة في المسألة السورية . وهذا الوقت اللازم والضروري لاستمرار المقامرة الدولية , سيوفره مؤتمر جنيف 2 . سيكون المؤتمر إذن , إطارا للشروع بمرحلة مقبلة من اشتداد المعارك , بقبول وتواطؤ روسي – أمريكي لاستمرار صراع الرهانات الدولية .
ضمن هذا الإطار الموازن للتصعيد القتالي من جهة النظام وداعميه , يأتي قرار الموافقة على تسليح المعارضة السورية . إطار الحرص على ألا يحقق النظام وحلفاؤه إنتصارات حاسمة في الميدان , وبما يسند قوى المعارضة السورية في الإحتفاظ بقواها دون قدرة على الحسم , ويحفظ ماء وجه الغرب من ناحية ثانية . مع الحرص ألا يؤدي ذلك إلى مكسب حقيقي للمشروع الديموقراطي للربيع العربي في حلقته السورية , بل على العكس , التأكد من تلاشي موجة الإنتفاضات هذه في تلك الحلقة , وإظهار فشلها في إنجاز ماكانت تأمله منها الشعوب المنتفضة .
كل ماسبق قوله يأتي ضمن توصيف تخميني لما نراه في اللحظة الراهنة للمراهنات الدولية , باختلاف سوية وشدة ارتباط تلك الرهانات بالصراع في سورية . حيث تأتي إيران في المقدمة من ناحية أهمية رهانها على إنتصار النظام , مما يدفعها للإنخراط المباشر بكل ثقلها للوقوف معه , وبما يجعل من مؤتمر جنيف بلا فاعلية على قدر طاقتها في إعاقته أو تعطيله إن أمكن . فسقوط النظام السوري يعني بالنسبة لإيران خسارة نفوذها الإقليمي في سوريا ولبنان , وتقلصه إلى حد بعيد في العراق والخليج . وهو مايعني أيضا , مواجهتها للغرب في ملفها النووي بلا قوة تفاوضية , وعلى شروط هزيمة استراتيجية مستحقة الثمن . بمعنى آخر , سقوط النظام السوري يعني إنهيار مشروعها الأمبراطوري شرق المتوسط وانحسارها ضمن حدودها الداخلية ومشاكلها الخاصة المتراكمة , وانحسار الطبقة الدينية الحاكمة ونظرية ولاية الفقيه القائمة عليها . إنهيار يناسب الدول الإقليمية ( تركيا , إسرائيل , دول الخليج العربي ) والغرب على حد سواء . وفي الحسابات الأمريكية – الإسرائيلية , فإعطاء المزيد من الوقت للصراع يزيد من شروط هذا الإنهيار , وبلا تكلفة كبيرة , فالسوريون هم يدفع الثمن .
الخطط الروسية ليست مرهونة بالنظام السوري كما هو الحال مع الخطط الفارسية , والروس كانوا سيفعلون , على العموم , مايفعلونه الآن في سورية , في أي منطقة أخرى من العالم تتيح لهم ذلك . فرهاناتهم لاتتحدد بما يريده بشار الأسد وحلفاؤه الإيرانيون , ولاتقتصر على المصالح الروسية في سوريا . بل تتمدد طموحاتهم لما يعيدهم لأمجاد الحرب الباردة . إنما ليس على الأسس القديمة للشيوعية , وإنما على أساس المنطق الرأسمالي في إقتسام النفوذ بالعالم , بما يتناسب وحجم روسيا الحالي , السياسي والإقتصادي , والمعزز بتحالف دول البريكس , وإيران . يشجعهم على ذلك توفرعاملين رئيسيين متزامنين في الغرب , إقتصادي وسياسي : الأزمة الإقتصادية القاسية التي يمر بها الغرب عموما , وأوروبا خصوصا , مما يشل طاقتها التدخلية في السياسة الخارجية , وفشل التجربة الأمريكية في العراق وإفغانستان , وما استتبع هذا الفشل من تراجع وانكفاء في مسؤولياتها الدولية , استغله الرئيس أوباما لتكريس وتبرير ضعفه وتردده . بل قد يذهب المرء للقول أن رؤية الرئيس أوباما وفلسفته الإنسحابية هي سبب رئيسي في بقاء النظام السوري متماسكا بأحضان حلفائه العنيدين . فأوباما قلص حدود الدور الأمريكي في الصراع السوري بما يطابق الرغبات الإسرائيلية , التي تراهن بدورها على ديمومة الصراع حتى الإنهيار الشامل لمحور ” المقاومة ” عموما , وحزب الله على الخصوص . يترافق مع هذا الإنهيار إنتهاء الثورة , واستمرار القتال بشكله الطائفي العبثي .
وفي الداخل السوري , يفرض الرهان الإيراني شكل الصراع الذي يخوضه النظام بالتحالف مع حزب الله وآخرين , ويفرض إسلوبه , وحدته . ويحرص على عدم الفرصة للسياسة كي تتدخل , فالإيرانيون , كما النظام , يعرفون أن عليهم تحقيق إنتصارا ساحقا على الثورة كي لايخسروا كل شيء , ومن وجهة النظر هذه , تظهر الساحة أنهم لايزالون بعيدين عن هذا الحلم , بل سيبقى حلما لن يتحقق , فهم في مواجهة ثورة لاينهيها القمع , بل السياسة . أما الدفع بحزب الله والميليشيات الشيعية من العراق واليمن , فهو يثبت التفكير الإيراني – الأسدي بالذهاب في الصراع العسكري إلى حدوده القصوى . وهو ماسيفرض على الغرب التدخل المباشر الذي يتهرب منه . وعندها سينسى الجميع مؤتمر جنيف2 . وستستأنف سفينة الثورة إبحارها في بحر الظلمات .
خاص – صفحات سورية –