«جنّة المجتمع المدني المُضاد»؟/ مرزوق الحلبي
كثيراً ما سمعنا عن «الثورة المُضادة» في سياق سياسات إمبريالية واستعمار وإجهاض حركات التحرر. حيثما ظهرت حركة تحرّر أو ثورة ضد الظلم وضد حكّام مُستبدِّين، سعت السلطات أو حلفاؤها الخارجيون إلى إقامة تشكيلات لـ «الثورة المُضادة» لضرب حركة التحرر وطرح نقيض لها. يضربون الأولى بالثانية أو يؤخّرون انتصارها. مشهد انتشر على طول القارات وعرضها التي شهدت ثورات وحركات تحرر، لا سيما في آسيا وأميركا اللاتينية. أمر مشابه يحصل في مساحة ما اصطُلح على تسميته «المجتمع المدني». وهو المصطلح الذي نُطلقه على مجموع المنظمات والمؤسسات والفاعليات التي يُبادر إليها المواطنون في مجتمع ما كجزء من أخذه المسؤولية وزمام الأمور عن شؤونه والقضايا التي تهمّه من دون انتظار الدولة أو إحدى دوائرها.
و«المجتمع المدني» هو تلك الشبكة من المؤسسات غير الحكومية التي تضطلع بسدّ احتياجات لا توفّرها الدولة. ويظهر دور هذه المنظمات في شكل خاص أثناء الأزمات عندما تفشل مؤسسات الدولة أو يتعطل أداؤها. ولهذه المؤسسات دور آخر لا يقلّ أهمية وهو الاضطلاع بدور المؤشّر الأخلاقي والحفاظ على مبادئ حقوق الإنسان والمجموعات المُستضعفة.
وأنا أصوغ هذه السطور أبلغني صديق حقوقي بأن الحكومة الإسرائيلية خصصت مبلغ 50 مليون دولار لـ «فاعليات تصوغ الوعي الجماهيري» – أي ذراعاً لتصميم الوعي العام من خلال مؤسسة خارجية – مجتمع مدني – تستعين بها لإظهار هذه الفاعليات بأنها ذات صدقية ولا تأتي من الحكومة أو إحدى أذرعها! بمعنى: وزارة إعلام خارج – حكومية على بنية تحتية للمجتمع المدني. إنه مثل كلاسيكي لحالة استحداث مؤسّسات مجتمع مدني مضادة لتلك القائمة. إذا كانت وظيفة مؤسسات المجتمع المدني أن تضطلع، مقابل الحكومات أو في مواجهتها ومقارعة سياساتها، بالدفاع عن حقوق الإنسان أو حقوق دستورية أو مواطنية أخرى، فإن حكومات بعض الدول تخصص الموارد الكبيرة لاستحداث «منظمات مجتمع مدني» لخدمة أهدافها السياسية والأيديولوجية، لتعمل في شكل معاكس لمؤسسات المجتمع المدني المعروفة، بحيث تكون مهمة هذه «المؤسسات» الدفاع عن سياسات الحكومة ومصالحها والترويج لتوجهاتها الفكرية الأيديولوجية.
تشهد إسرائيل مدّاً في إنشاء «مؤسسات المجتمع المدني» المُضادة التي تموّلها الحكومة أو أحزابها أو جهات موالية لها لتحقيق مصالح أيديولوجية سياسية واضحة في مواجهة المجتمع والفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر. من هذه «المؤسسات» «إم ترتسو» بالعبرية وتعني «إذا أردتم» على نسق المقولة الصهيونية التي تتوجه إلى الشعب اليهودي بأن إقامة دولة إسرائيل ليست مهمة مستحيلة! وكانت مهمتها مراقبة أساتذة الجامعات والوشاية بهم في حال انتقدوا في محاضراتهم السياسات الرسمية اليمينية، بخاصة ما يتصل بالاحتلال وجرائمه. ومنها أيضاً منظمة «رِجَبيم» (أي كدفّ التراب) وهي مختصّة بمراقبة تطبيقات قوانين البناء والتنظيم على الفلسطينيين على شقّي الخط الأخضر لجِهة محاصرتهم ومنع أي تساهل في التطبيق وشَرْعنة أبنية أقيمت قبل استكمال الترخيص. وهي عادة ما تلتمس دعاوى ومسوغات يمينية متطرفة ضدّ هيئات التنظيم والتخطيط لإجبارها على هدم منازل وأبنية فلسطينية داخل إسرائيل وفي المناطق المحتلة!
وتعمل في إسرائيل منذ سنوات جمعية NGO Monitor وهي منظمة يمينية لا تخفى ولا تتستّر، مهمتها «اصطياد» جمعيات حقوق إنسان إسرائيلية وكشف مصادر تمويلها وشن حملات تشويه وتحريض ضد منظمات إسرائيلية تعمل في مجال حقوق الإنسان في المناطق المحتلة أو داخل إسرائيل. في نهاية المطاف يتمّ تصوير كل منظمة إسرائيلية أو ناشط إسرائيلي ضد الاحتلال مثلاً على أنه ضد أمن إسرائيل ومعادٍ لها، علماً أن منظمة «كسر الصمت» مثلاً هي في أساسها من جنود وضباط غير راضين عن جرائم وأعمال غير إنسانية يقترفها الاحتلال! وهناك جمعية أخرى مختصّة باصطياد النشر الإعلامي المناهض لإسرائيل وتصويره على أنه لا سامٍ أو متعاون مع أعداء إسرائيل، وهي باسم «مِمْري» مهمتها توكيد الرواية الإسرائيلية الرسمية في ما يتصل بالصراع العربي – الإسرائيلي عموماً والاحتلال الإسرائيلي.
وقد انضمّت إلى هذه المنظمات أخيراً منظمة «حقوق إنسان بالأزرق والأبيض»، أنشأها موظف كبير سابق في مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلي مهمتها، وفق ما تنشره عن نفسها، حماية حقوق سكان المناطق المحتلة من المستوطنين والفلسطينيين! وهي تجسّد ذلك المدّ في تبني أوساط المستوطنين الإسرائيليين خطاب حقوق الإنسان في ابتزاز المزيد من الدلال والامتيازات من الحكومات والمؤسسات الإسرائيلية. وفي أكثر من موقع، يأتي هؤلاء إلى المحاكم والإعلام في إسرائيل بدعوى أن تفكيك مستوطنات يشكّل تطهيراً عرقياً أو ردع مستوطنين عن الاستيلاء على أرض فلسطينية هي انتهاكات لقانون الملكية!
تتطوّر في إسرائيل مسالك يتبعها «اليمين» السياسي في الولايات المتحدة وكندا من حيث تطور مجتمع مدني مضاد لحقوق الإنسان من داخل خطاب المجتمع المدني وحقوق الإنسان نفسه. ويصير الأمر في إسرائيل مهزلة تماماً حين يتمّ تصوير الصهيونية وما نشأ عنها في إسرائيل أنهما ضمانة لحقوق الإنسان وليس انتهاكاً ممتدّاً وعميقاً لهذه الحقوق كما للشعب الفلسطيني، ابتداءً من النكبة إلى هذه اللحظات! رويداً رويداً تتحوّل إسرائيل جنة عدن لمؤسسات «المجتمع المدني المُضاد»!
الحياة