حازم صاغية: تسرّعنا في إنكار البطن التفتيتي لمجتمعاتنا
يوسف بزي
عشر سنوات من التحولات الصعبة. عقد مليء بالوعود الكبيرة والمفاجآت التاريخية، كما بالصدمات والخيبات الشديدة. انعطافات حادة، وانقلاب أحوال، وكوارث هائلة متتالية، هي بحجم التطلعات والأحلام التي حركت شعوب المنطقة ومواطنيها.
هي أولاً سنوات الأفكار والعناوين والشعارات التي طالبت بالتغيير، فتحولت ثورات سلمية أو انتفاضات عنيفة وحروباً أهلية – إقليمية، وفوضى متمادية ومدمرة. لكنها بالإضافة إلى ذلك، هي زمن التحولات العمرانية والاقتصادية و”السوسيولوجية”، والدخول في عوالم شبكات “التواصل الاجتماعي”، ومظاهر لا حصر لها لمستجدات العولمة…
بمزيج من اليأس والعناد، نحاول أن “نفهم”، أن نقرأ ونقيم “مراجعة” شخصية، مع مثقفين لهم صلة حميمة ومؤثرة بالشأن العام، ولهم إسهامهم الواضح في صياغة “الرأي العام” ولغته.
انطلاقاً من حيواتهم الخاصة وسِيَرهم، ومن المكان اللبناني وخصوصيته، إلى مشهد منطقتنا عموماً، وسجالاً مع أسئلة الثقافة والأيديولوجيات والسياسة والأحداث “التاريخية”، التي شهدناها في السنوات الأخيرة، نحاور عدداً من الباحثين والمفكرين والكتّاب اللبنانيين.
ونبتدئ سلسلة الحوارات هذه بلقاء حازم صاغية:
* منذ ثماني سنوات تقريباً، عدت من لندن للإقامة في بيروت. ما الذي توقعته حينها؟ وهل أنت نادم على هذا القرار؟ علماً أن هذه العودة كانت لها مترتبات، منها التعرف على الجيل الجديد، الأمكنة الجديدة، اللغة الجديدة، الأفكار الجديدة.. مقارنة بالثمانينات وما قبلها، إضافة إلى تحولات في العلاقات، في الثقافة، في العمران، في أدوار المدينة ومظاهرها…
ـ عدت من لندن في 2008 ولا أعلم ما إذا كنت لأعود آنذاك لولا مأساتان شخصيتان حدثتا لي في لندن في خلال أسبوع واحد. لكنني في النهاية، أظن أنني كنت سأعود في يوم ما. فأنا ذهبت إلى لندن عشية بلوغي الأربعين، وهو عمر لا يسمح بالاندماج الكامل، الذي ينطوي على نسيان جزئي للأمكنة والهموم التي نغادرها. فحينذاك كنت قد تشكّلت إلى حد بعيد. هكذا، كنت أتابع هناك السياسة البريطانية وأصوّت لحزب العمال، كما أتابع جزئياً الحركة الثقافية والمسرحية. لكن كل هذا لم يبرأ من قدر من المراقبة البرانية التي تنقصها الحماسة. وأظن أن عملي في جريدة “الحياة”، واضطراري إلى متابعة الحياة السياسية العربية، كان يعزّز هذه الوجهة.
بالرجوع إلى لبنان، لا شك أنك تخسر أشياء وتربح أشياء. تخسر الفرص الثقافية التي تقدمها لندن، كما تخسر معايشة مجتمع حديث، بنجاحاته وأزماته وكيفيات تعاطيه مع نفسه. وفي المقابل، تربح، فضلاً عن الطقس الألطف، سهولة الاتصال بالأصدقاء، حيث أن أبسط لقاء في بريطانيا، يستدعي عملية تفاوضية تدوم أكثر من أسبوع.
والحقيقة أنه لم تكن لدي توقعات ضخمة كما أنني لست نادماً، خصوصاً أنّني بعودتي ربحت شذا شرف الدين التي صارت زوجتي، وهذا كسب كبير لحياتي الخاصّة. لا بل يمكنني القول إن العودة أتاحت لي فرصة تعرف إلى من صاروا أصدقاء جدداً، فضلاً عن توثيق الصلة بالقدامى منهم. أما متن الأشياء فلم يتغير كثيراً. فمثلما عشنا من قبل على إيقاع التركيبة الطائفية وتوتّر المنطقة، فإن هذه العوامل ازدادت قوّة وفعاليّة. أما الجديد الذي يمكن الوقوف عنده، فأولاً أن الموضوع المجتمعي المتعلق بالقيم ومسائل الجندر والعمالة المهاجرة والعنصرية… فبات يحتل رقعة أكبر من ذي قبل. وهذا في أغلب الظن ناجم عن صعود جيل جديد بعضه عاش في الخارج وحمل معه قيماً يغلب المجتمعي فيها على السياسي المباشر، خصوصاً أن التجميد أصاب الحياة السياسيّة بعد اتّفاق الطوائف. وهذا الجيل أكثر نقاء من جيلي، لكنه أيضاً أكثر أرثوذكسية وصرامة، وربّما تعصّباً، في أحكامه، وكذلك أقلّ تمكّناً في دفاعه عنها ممّا كنّا في دفاعنا عمّا نؤمن به.
طبعاً، لا يأتي أحدنا بجديد حين يقول إن التطورين اللبنانيّين الكبيرين، اللذين فعلا فعلهما خلال سنوات غيابي، كانا توطد دويلة “حزب الله” وتوطد المشروع النيوليبرالي الذي رعاه رفيق الحريري. وهذان التحولان، كل بطريقته، كانا طاردَين لمن هم مثلي، أي للذين يريدون دولة قوية ومجتمعاً قوياً في وقت واحد. والحال، وكما كتب مؤخراً الصديق حسام عيتاني، أن هذين المشروعين يلتقيان ـ من موقع الضد ـ عند خصخصة الدولة، واحدهما يلغيها كطرف ضامن للأمن والسيادة، والآخر يلغيها كطرف تناط به التقديمات الاجتماعية وتناسق الاشتغال الوطنيّ. وأظن أن انعكاسات عمل هذين الطرفين عطّلت دينامية مجتمعية كان يمكن أن تكون أغنى وأخصب.
أمّا على صعيد حركة الأفكار ومنتجيها، فإذا استثنينا رسائل جامعية موضوعة أصلاً باللغات الأوروبية، ولا أثر لها في الوضع السياسي المباشر، فلا تزال الأسماء الفاعلة والمؤثرة هي نفسها تقريباً.
* تغيرت بيروت كثيراً، مع ذلك لديك خريطة افتراضية للعيش فيها، خريطة مقتصرة على رأس بيروت والحمرا، إلى حد أنك تشعر بالغربة وأنت مقيم في حي الأشرفية (على مبعدة أقل من 2 كلم). هل هذا إصرار على المكان أم على نمط حياة ماضية؟ ما الذي تفتقده؟ كيف تقيّم تجربة معايشة الوسط التجاري، إضافة إلى نفورك من الريف، وما الذي بقي فيك من لندن؟
ـ لا أظن أن المسألة لها علاقة بلندن التي أثّرت فيّ بالطبع لكنْ في جوانب أخرى. فأنا عشت لسنوات في بيت أهلي في منطقة السيوفي في الأشرفية، لكنني كنت أغادر هذا المكان صباحاً ولا أعود إليه إلا ليلاً بقصد النوم. كانت دائماً منطقة رأس بيروت تستهويني، وتمثل لي مكاناً مختلطاً وملتبساً، على عكس الوضوح والانكشاف اللذين تلقاهما في الأشرفية أو في الأرياف، حيث تعلم سلفاً ماذا ستسمع، وماذا ستأكل، ومن ستلتقي. ربما زاد في نفوري من الأشرفية كوني لا أجيد الفرنسية، وهذا في ذاك الزمن، كان يجد في الاعتبار السياسي ما يزيده حدّةً. ولا ننسى أن ما صنع رأس بيروت إنما هو الجامعة الأميركية، وهي ما لم يتكرر في لبنان. فالجامعة اليسوعية مثلاً لم تنجح في توليد مدينة جامعية من حولها، ربما لأن أصول معظم طلابها محلية، وبيوت أهلهم قريبة من الجامعة بما يُضعف فردنتهم وانفصالهم عن أصولهم الأهليّة. إلى ذلك، فشارع الحمرا هو أيضاً استثنائي لجهة امتداده الطويل، وقيام عدد من المقاهي وصالات السينما والمسارح والمؤسسات التجارية على ضفتيه، خصوصاً وأن الصحف أيضاً كانت ذات مرة تعتمده أو تعتمد تفرّعاته مقراً لها.
اليوم، لا شك أن منطقة الحمرا تغيرت كثيراً، فهي أيضاً نمت نمواً عشوائياً، إلا أن عشوائيتها لا تزال أكثر مدينية من عشوائية غيرها. والمدن الكوزموبوليتية هي التي يعيش فيها كل الناس على تعددهم واختلافهم، خصوصاً أننا نشهد منذ عقود، وعلى مستوى عالمي، نشأة كوزموبوليتية شعبية هي عكس الكوزموبوليتية القديمة التي ارتبطت بأُسر ثرية تعيش في المدن البحرية، وتطل على ثقافات ولغات ومآكل شتى. فالعولمة والهجرات ووسائط التواصل الاجتماعيّ وفرت دمقرطة للكوزموبوليتية: فأنت اليوم، ومن دون أن تكون ثرياً أو “ابن عائلة”، تستطيع أن تسمع بوب مارلي وأن تأكل طعاماً مكسيكياً وتتابع أموراً خارج نطاق بلدك…
أما الوسط التجاري في بيروت، فليست مشكلتي معه أنه للأغنياء، كما يقال. فهناك في جميع مدن العالم شوارع مركزية للأغنياء. المشكلة مع الوسط أنه مصنوع للأغبياء من الأغنياء، بدليل أنك لا تلقى مكتبة، لكنك لا تلقى أيضاً ما يطلبه الغنيّ “الكول” كمحل سندويشات أو محل لبيع العصائر، فكأن الثري الذي استهدف الوسطُ مخاطبتَه وجذبه لا يشرب عصيراً ولا يأكل سندويشاً وطبعاً لا يقرأ كتاباً. وهذا الغني حديث نعمة بالتعريف. وفي عمومه، ففي ذلك ما يضعف روح الوسط، حيث أعمل يوميّاً، وإن كان جميلاً جداً على مستوى العمارة وإعادة البناء.
هنا لا بد من الإشارة إلى أمرين، أولهما، أن الجمالية التي رسا عليها الوسط كانت نتاج حركات اعتراضية متتالية، ألزمت بُناته بعدم الذهاب بعيداً في نموذج مدن الخليج التي كانوا منحازين كلّيّاً لها. والثاني، أن كل نقد للوسط، بما فيه النقد المشروع لقيامه عبر تأميم غير مألوف تولاّه القطاع الخاصّ، لا يبرر أشكالاً مختلفة من العدوان عليه، نعيشها يومياً على هيئة حرس وبرلمان وأزلام. فهذا لا يعاقب رفيق الحريري ولا يعاقب الأغنياء والمستثمرين وحدهم، بل يرمي أيضاً بمزيد من الفقراء في البطالة، كما يحرم البيروتيين فسحة جميلة. هذا النوع من النقد يكمّل النقد “الحربجي” الذي يكره الوسط لمجرّد ارتباطه برهان سلميّ في المنطقة حال سوء حظّنا دون إقلاعه.
* طوال سنوات راهنت على حركة 14 آذار. حتى نقدك لقيادتها السياسية، كان من باب هذا الرهان وحرصاً عليها. كيف تنظر اليوم إلى تلك التجربة اللبنانية، التي يصفها البعض بأنها كانت مقدمة “الربيع العربي”؟
ـ أعتقد أولاً أن فرضية أن 14 آذار كانت مقدمة لـ”الربيع العربي” مبالغ فيها كثيراً. وأميل إلى الاعتقاد أن 14 آذار كانت فرصة ثانية مهدورة بعد الفرصة الأولى التي شكلتها إطاحة صدام حسين في 2003.
14 آذار كانت خطوة متقدمة من حيث أنها، وللمرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث، جمعت في الساحة، وبشكل سلمي، أفراداً من جميع الطوائف، وتمكنت بمعونة أميركية وغربية من أن تُخرج الجيش السوري من لبنان. وبهذا، فإنها أسهمت، مثلما أسهم إسقاط صدام حسين قبل عامين، في إعلان وفاة الأجندة الأيديولوجية والسياسية القديمة، التي دارت حول وحدة العرب ضد الغريب، أو الهروب إلى الصراع العربي-الإسرائيلي لعدم مواجهة المسائل الملحّة في اجتماعنا. وهذا ما كان ولا يزال الاستبداد يعتمده حجّة لإسكات كل تغيير، لا بل أظن أن حرب تموز 2006، التي شنها “حزب الله”، وبنتيجتها أعاد استدعاء الموضوع الإسرائيلي إلى قلب الصراعات الداخلية، كانت أيضاً محاولة للرد على كسر 14 آذار للأجندة القديمة، ومن أجل إعادة الإعتبار لتلك الأجندة الآفلة.
لكن هذا لا يعني أن 14 آذار تغلبت على الانقسامات الطائفية، وولّدت وحدة وطنية بين اللبنانيين، على ما قالت بعض الزجليات. فمنذ البداية، كان واضحاً أن تلك التظاهرة قامت في هندستها على تجاور الكتل الطائفية، التي لم تخسر أي منها هويتها المنفصلة كما صاغتها شعارات وهتافات ومشاهد نعرفها جيّداً. وهذا ما انقشع أكثر حين لم تتطور علاقات مكونات 14 آذار إلى مستويات من التداخل الاجتماعي والفردي. فمثلاً وفي حدود ما أعلم، لم تنشأ صداقات عميقة، حتى لا نقول زيجات، بين مسيحيي ومسلمي 14 آذار. كما كانت قليلة جداً وسطحية جداً المراجعات التي تمت للسرديات التقليدية لدى الطوائف التي تحاربت بين 1975 و1989.
في المقابل، وما دامت الأمور طائفية، لم يظهر ما يكفي وما هو مطلوب من مناشدة للشيعة، كي لا نقول إغراء لهم، كي ينضووا في هذا التحالف الجديد، فكأن شيطان الطائفية وحساباتها داخل 14 آذار كان يطرد احتمالاً كهذا، راغباً في دفع الشيعة إلى أحضان “حزب الله”.
في النهاية، يتحمّل ساسة 14 آذار مسؤولية مؤكدة بخفتهم وزجليتهم، وعدم انعتاقهم من الفهم القديم والمقاطعجي للسياسة، تماماً كما يتحمل جزءاً أساسياً من المسؤولية أولئك الذين شنوا حملة الإرهاب والاغتيالات التي تعرض لها ساسة 14 آذار، أكانوا النظام السوريّ أم حلفاءه وأزلامه. وكما قلنا قبلاً، كانت حرب تموز 2006، شكلاً من أشكال الإرهاب للأجندة التي حملتها 14 آذار. إلا أننا لا نستطيع في الأحوال عامة أن ننكر مسؤولية الطائفية، ذات القوة الخرافية. فهي مثلما قضت على الإنجاز العراقي في 2003، قضت على الإنجاز اللبناني في 2005.
* للمزيد من التوضيح، ما قصدك بـ”مناشدة” أو “إغراء” الشيعة اللبنانيين؟
ـ أقصد أولاً الامتناع عن الفولكلوريات التي تظن أنها تستعيض بسياسيٍّ أو صحافيّ أو شيخ عن مخاطبة الطائفة وحساسيّاتها، وأقصد أيضاً الامتناع عن أعمال كـ”التحالف الرباعي” الذي بدّد وشتّت الأفراد الشيعة في 14 آذار، والذين كانوا وحدهم من بين جمهور 14 آذار مَن تظاهر ضد طائفته، على عكس السنّة والمسيحيين والدروز الذين جاءت 14 آذاريّتهم متطابقة مع أمزجة طوائفهم وقياداتها. وهذا فضلاً عن إيصال هذا “التحالف الرباعيّ” رسالة سيّئة جدّاً إلى المسيحيّين استفاد منها ميشال عون وتيّاره الممثّل لطائفيّة الحدّ الأقصى. أضف إلى ذلك كلّه إبقاء هذا الموضوع خارج النقاش العامّ وعدم إدارة حوار جدي ومعمق واحد يخاطب هواجس الشيعة.
* كتابك بالشراكة مع بيسان الشيخ “شعوب الشعب اللبناني” يعلن، بالمعاينة الميدانية، انفراط الشعب اللبناني إلى وحدات اجتماعية متذررة من الصعب تآلفها على المواطنة الواحدة. هل هي حقبة من الإنحطاط للفكرة اللبنانية، أم هي نهايتها التامة؟
ـ أميل إلى الاعتقاد أن تجربتنا التاريخية في لبنان، ولكنْ أيضاً في سوريا والعراق وسواهما، لا ترشحنا لأن نكون شعوباً بالمعنى الأوروبي للكلمة. وهذا ليس قدراً أو حتماً، بل هو نتاج تاريخ لعبت فيه العناصر المفتِتة أدواراً أكبر كثيراً من تلك التي لعبتها العوامل الموحِدة. وفي حالات بلدان كسوريا والعراق أضيف إلى التفتيت الكبت ومنع وعي التفتيت. وهنا كنا في لبنان أفضل حالاً، لأننا كنا دائماً نعي ونعبّر عن وعينا هذا. فإذا أضفنا إلى هذا كله، الخلفية التي أتينا منها إلى أفكار المواطنة وممارستها، أي نظام الملل العثماني، انتهينا إلى نظرة تشاؤم مبررة حيال مستقبل لبنان وبلدان المنطقة كوحدات سياسية ودستورية. وهذا أكثف وأكبر كثيراً من أن تتغلب عليه تسويات كـ”اتفاق الطائف” أو سواه، خصوصاً متى تذكّرنا وجهة عالمية تقوم اليوم على إعادة النظر في الوحدات القائمة. فبلدان كبلجيكا وبريطانيا واسبانيا وكندا مطروح أمر وحدتها على المحك، لكن طبعاً هناك فارق أساسي يمكن أن نلمسه، مثلاً لا حصراً، بمقارنة حدث كانفصال تشيكوسلوفاكيا سلمياً بين دولتين، وحرب أهلية كالتي شهدتها يوغوسلافيا قبل طلاق جماعاتها، ويوغوسلافيا تشبهنا في كونها كياناً ما بعد عثماني.
ما يرجوه واحدنا هو أن نصل فيدرالياً أو كونفيدرالياً أو لامركزياً إلى صيغة تقارب النموذج التشيكوسلوفاكي أكثر مما تقارب النموذج اليوغوسلافي. وللأسف، فإن ما يحدث في سوريا والعراق وليبيا واليمن لا يشجع كثيراً.
* أنت واحد من أبرز من تُطلق عليهم تسمية “الليبراليين العرب”، بل وفي الأوساط الثقافية، أنت من أوائل “المبشرين” بالليبرالية. مع ذلك تعبّر عن ضيقك من هذه الصفة، بل وتنتقد بعنف السياسات الاقتصادية الليبرالية. هل من تناقض أم سوء فهم؟ علماً أن المسألة تطرح ضمناً استعصاء الديموقراطية في بلداننا وغياب الحريات، غياب الفردية والمواطنة، كذلك نتائج اقتصاد السوق في دول التسلط والاستبداد، عدا عن كليشهات نماذج “هونغ كونغ ـ دبي ـ هانوي”، وما الفارق بين الليبرالية السياسية والنيوليبرالية الاقتصادية خصوصاً في العالم الثالث..
ـ لا أعتقد أن المسألة المطروحة اليوم على مجتمعاتنا هي مسألة ليبرالية أو لا ليبرالية، ولا حتى يمين ويسار. نحن نعيش أولاً وأساساً هم التشكّل أو الانفراط الوطني. هذا يعني أن وصف أحدهم بأنه ليبرالي قد لا يعدو تعيين مزاج شخصي وثقافي. وبهذا المعنى، أستطيع أن أصف نفسي بأنني ليبرالي واشتراكي ـ ديموقراطي في آن معاً. وهنا يحضر التمييز بين الليبرالي الذي يملك حساً اجتماعياً ويطالب الدولة بواجبات الحد الأدنى لتمكين مواطنيها في الرعاية وبين النيوليبرالي الذي يعتبر أن كل دور للدولة هو مشكلة بالمطلق. والحقيقة أن هذا اللبس صُنع في فرنسا حيث يُستخدم وصف ليبرالي فيما المقصود هو ما يسميه الأميركيون نيوليبرالي. فالليبرالي في الولايات المتحدة يُصنف على يسار الخارطة السياسية.
إلى ذلك، فإن النيوليبرالية دواء سهل وكسول لأنه لا يؤدي إطلاقاً إلى الشك بسلطة سياسية قائمة ولا يملي وضع قوانين تنظم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية القائمة. وهذا ما يجعل الحركة الاقتصادية أقرب إلى سيارات تتدافع بحرية من دون وجود أضواء إشارات. ولهذا السبب، تجد أنظمة كالصين في أفضل الحالات وأنجحها وكسوريا الأسد في أسوأ الحالات وأفشلها، قادرة على اتباع الاقتصاد النيوليبرالي.
أضف إلى ذلك، في ما ينفّر من استخدام تعبير “ليبرالي”، أن خصوم الليبرالية من ممانعين وسواهم عمموا لذاك التعبير معنى بالغ الخبث والتبسيط في وقت واحد. فالليبرالي بحسبهم هو مع أميركا وإسرائيل بالمطلق، وهو ضد الفقراء وضد الإسلام بالمطلق أيضاً. وهذا ما لا صلة له بالحقيقة ولا بتعقيد المواقف وتداخلها لا من قريب ولا من بعيد.
* من خصومتك القديمة لأيديولوجيا اليمين اللبناني، إلى نقدك المرير لليسار اللبناني والعربي، عدا ازدراءك للأيديولوجيا القومية والبعثية، وسخريتك اللاذعة مما يسمى “الممانعة”.. أين تجد نفسك؟ أو بالأحرى أين نجد أنفسنا؟
ـ هناك مشكلة في ثقافتنا السياسية هي أن المفاهيم التي نتداولها لا تملك حياة محددة أو زمن صلاحية. فالمفاهيم عندنا خالدة لا تموت. قد تموت بيولوجياً، كمثل الدعوة إلى الوحدة العربية، لكن أحداً لا يقوم بدفنها، أي لا يعرضها لمراجعة ونقد يكرسان هذا الموت ويحولانه إلى جزء من منظومة ثقافية جديدة.
في هذا المعنى، فإن الوعي الديموقراطي، وإن كان بدوره وعياً أيديولوجياً، فإنه يبقى أقل الأيديولوجيات أيديولوجيةً. فهو لا يقدم نفسه بوصفه خلاصاً ملحمياً بل يقدم نفسه بوصفه طريقة نسبية في معالجة المشكلات. فحينما تتغير المشكلات تتغير كيفيات المعالجة. لكن المؤكد أن هناك فارقاً أساسياً جداً بين نظرة تقول إن الأولوية للخلاص، فإذا تحقق الخلاص، أكان تحريراً أو وحدة أو إقامة لنظام ما، انتهت المشكلات… وبين نظرة تقول إن الحياة بالتعريف “مشكلة”، وإن الذي لا مشكلة لديه هو الحائط، أما البشر فأهم أسلحتهم لمواجهة مشاكلهم هو امتلاكهم للحرية.
* لا شك في حماستك للثورات العربية، ومع ذلك تبدو شديد التشاؤم اليوم. أنت زرت تونس، وتابعت عن كثب ما حدث في مصر وما يحدث في اليمن وليبيا، لكن الأهم هو انشغالك الحميم بالقضية السورية. وفي كل الأحوال، تصف ما يجري وفق عنوان كتابك “الإنهيار المديد”. هل حقاً لن نحصد سوى الكوارث من كل ما جرى؟ الدولة الوطنية في العالم العربي انهارت، الإسلام بوجهيه السياسي والفقهي مأزوم، الفكرة القومية تحطمت. رأيك بالنموذج التونسي؟ ما الذي تعنيه الفوضى الليبية؟ عودة مصر إلى حكم القائد العسكري؟ انهيار العراق؟ النكبة السورية؟ الفشل اللبناني المديد؟ حرب اليمن؟
ـ إذا ركزنا أنظارنا على المنطقة التي تشمل سوريا ولبنان والعراق وليبيا واليمن على الأقل، وجدنا أن التغيير في هذه البلدان، والذي رفعته الثورات إلى سوية عاصفة، يضعنا على تماس مباشر مع الاجتماع السياسي الوطني نفسه. فالأنظمة القمعية معطوفةً على التكوين العثماني الموروث، خلقت تماهياً بين السلطة وبين شريحة مذهبية أو مناطقية من المجتمع. وهذا ما عنى أن سلوك طريق التغيير يفضي مباشرة إلى طرح مسألة الوحدة الوطنية على بساط البحث. وهذا نجاح هائل للأنظمة، لأنها تستطيع أن تبتزّ التغيير ودعاته بخطر الحرب الأهلية الذي رعتْه وبلورتْه تلك الأنظمة بنفسها، فيما صار واضحاً أن الثورات التي لا تفضي إلى حروب أهلية في هذه البقعة من العالم تكاد تكون مستحيلة. وهنا نجدنا أمام احتمالين: إما الموافقة على خطاب النظام والرضوخ للاستبداد إلى ما لا نهاية، وإما أن ندرك أن طلب التغيير سيفضي حتماً إلى طرح خريطة الاجتماع الوطني نفسه. وهنا أظن أن أنصار الثورات في عمومهم تسرّعوا حين أنكروا البطن التفتيتي الخصب لمجتمعاتنا، وبهذا وقعوا في نقل تبسيطي للتجربة الغربية التي تقوم على ثنائية النظام والمعارضة، فيما تجربتنا ثلاثية الأبعاد: نظام ومعارضة ومجتمع أهلي.
إلى ذلك، حصل خلط واسع بين مفهومي الحرية والديموقراطية. فالحرية مفهوم طبيعي وحق طبيعي، يرمز إليه الأدباء بالعصفور الذي ينوي الخروج من القفص. أما الديموقراطية فمفهوم مؤسسي، ونجاحه يتطلب مواصفات معينة، لها علاقة بالتركيب الاجتماعي للطبقات ووضع المرأة ومستوى التعليم… إلخ. وفي العبور من الحرية إلى الديموقراطية، تُمتحن صلابة التكوين الاجتماعي. وهنا نعود إلى الفارق بين تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا في عبورهما من حرية التخلص من نظام استبدادي إلى بناء نظام ديموقراطي.
في المقابل، فالحالتان المصرية والتونسية تختلفان في جوانب عدة، أهمها درجة التماسك المجتمعي الأعلى، ولهذا، فضلاً عن أسباب أخرى أهمها التجربة البورقيبية، استطاعت تونس أن توفر حالة متقدمة عن مثيلاتها في باقي بلدان الثورات، وإن كانت لا تزال في المخاض. أما مصر التي لم تُقلع عمليتها الديموقراطية، فعادت تضعنا أمام الثنائية القديمة: إما الإسلام أو العسكر كطريق لتجنب الحرب الأهلية. وهذا جميعاً ما يدفع إلى الحديث عن انهيار مديد لا يبدو أن هناك مخرجا منه في السنوات القليلة المقبلة، خصوصاً وأن القوى الذاتية في المنطقة خرجت من هذه التجارب مدمرَّة ومحبطة، فيما اليد العليا ستكون للقوى الإقليمية والدولية في صنع المستقبل.
* مقابل كوارث “الربيع العربي”، هناك من يطرح فكرة “الثورات الصغيرة”، ثورة بالتقسيط، ثورات مطلبية، احتجاجات موضعية بعناوين محددة: البيئة، الفساد، التعليم، محاربة البطالة، الحركات النسوية، الإصلاح القضائي، ..إلخ، هل هذا ممكن وعملي وأجدى؟ هل بشائرها هي الحراك اللبناني الأخير؟
ـ هناك، في ما يتعلق بهذا الطرح، مشكلتان كبريان. الأولى، أن التحولات المجتمعية في منطقتنا لا تنعكس بسهولة على السلطة السياسية، فالصلب الاجتماعي قد يشهد تزايداً في التعليم أو الثراء، فيما يبقى الحكام أنفسهم. وفي أقصى حالات التنازل للمجتمع، يقدمون أبناءهم بدلاء عنهم. وهذا بطبيعة الحال من معاني انعدام الحراك الذي تتصف به أنظمة الاستبداد. أما المشكلة الأخرى، وهي متصلة بالأولى، أن الأنظمة السياسية عندنا لا تحظى بأي حيادية عن حركة المجتمع، فهي تدخلية في الصغيرة والكبيرة. لهذا يخطئ كثيراً من يتحدثون عن ثورات ثقافية وغير ذلك، من دون أن يطرحوا مسألة إطاحة الاستبداد، كشرط لإنجاز البرنامج الحداثي عبر تأسيس المناخ الذي يمكن للثورة الثقافية أن تحدث فيه.
لا شك أن إثارة القضايا الاجتماعية كالفساد والبيئة والمسألة النسوية وغير ذلك مفيدة دائماً، أقله على صعيد رفد المجتمع بعدد من القيم المتقدمة، إلا أن الافتراض بأن تراكماً كهذا يؤدي إلى تغيير في السلطة السياسية، يبقى، فيما أظن، وهماً حسن النوايا.
* في الحراك اللبناني: أيضاً انتقلت من الحماسة إلى الحذر إلى النقد، ثم إلى الاختلاف وربما الإحباط. هل هي مسألة سوء تفاهم بين الأجيال؟ هل هي مسألة الغموض السياسي أو حتى التناقضات السياسية بين جماعات الحراك؟
ـ الأمر ناتج جزئياً عن التباس معنى الحراك. فإذا كان مبادرةً مطلبية، فهذا ما لا شك بأنه يحظى بكامل الدعم والتأييد. كذلك إذا كان الحراك تعبيراً عن جيل قمعته ثنائية 8 و14 آذار طوال عشر سنوات، وهو الجيل الأكفأ والأكثر تأهيلاً بين أجيال اللبنانيين الحيّة، فهذا أيضاً ما لا يثير إلا الحماسة، علماً بوجود تناقض بين التعريفين أعلاه. فالتعريف الأول يستدعي تضافر الجميع ومحاولة كسب الجميع، بمن فيهم جماهير الأحزاب الطائفية، التي تريد هي أيضاً حلاً لمشاكل النفايات والكهرباء. أما التعريف الثاني، والذي عبّرت عنه عناوين مناهضة للطائفية وللذكورية والأبوية الخ…، فيثير الانقسام داخل كتلة المتضررين من السلطة نفسها، لا بل ينقل الصراع إلى مستويات تتجاوز السياسة، فتصبح المشكلة مطروحة ليس فقط حيال القطب السياسي بل حيال الأب البيولوجي أيضاً (“قتل الأب”). وهذا تناقض يجاوره تناقض آخر، مفاده أنك لا تستطيع مقاتلة الطوائف بقوى متواضعة جداً، لكنك في المقابل لا تستطيع مواجهة فساد يصدر عن رموز طائفة ما وأنت عاجز عن مواجهة فساد يصدر عن رموز طائفة أخرى.
بهذا المعنى، كان التخبط في الموقف من الحراك تعبيراً عن تخبط في تعريف الحراك، في ظل التسليم بحسن نواياه وحسن مقاصده، كما في ظلّ حماسة لا يعوزها تبرير نفسها لكلّ إيذاء لهذه “الطبقة السياسية” الغارقة حتى أذنيها في الفساد والتفاهة.
لكن بالتدريج، ومع مرور الأيام، راحت هذه التناقضات تكبر خصوصاً تحت وطأة القوة الجبروتية لنظام طائفي، وراحت بالتالي تتزايد الأخطاء التي أملى الكثيرَ منها صعوبة التوافق حول اللغة التي يُخاطَب بها الرأي العام، ومن ثم راحت تتكاثر التعابير العصبية والحادة والزجليات المتسرعة.
* جزء أساسي من “نجوميتك” (إذا صح التعبير)، هو حضورك البارع في السجالات، بل وفي طلبك اليومي للسجالات، وكنت من أوائل المداومين على الفايسبوك، بوصفه منبراً عمومياً للتواصل والسجال والاطلاع. وها أنت تنسحب منه، كمن يعلن تبرمه من أي حوار أو سجال أو تواصل.. هل هو تعب مؤقت أم غضب أم يأس؟
ـ الحقيقة، لست طالباً للنجومية ولا للسجالات، لكن يبدو أن ما أكتبه يحرك سجالات مكبوتة أو راكدة. وهذا قبل الفايسبوك بكثير. أما بالنسبة إلى الفايسبوك، فهو كان دائماً يطرح عليّ مشكلة لمن تكتب وكيف تكتب، وهل هذا مدى خاص أو عام. مؤخراً، تزايد الضيق بهذا الحيز، في ظل إحباط إجمالي بالوضع، وفي ظل رغبة في استخدام الوقت بطريقة أجدى، فضلاً عن توسّع مساحات الشتائم على حساب ما هو أجدى، وهو ما ينجح أحياناً في جرّك إلى أرضه غير المستوية بحيث تندم على ذلك بعد تراجع الغضب.
أما بالنسبة إلى فعالية الفايسبوك فأحس أن اشتغاله أسرع من أن يؤسس فعالية جدية وأنه يبقى أكثر اتساعاً لردود الأفعال الحادة وصولاً إلى التشهير منه إلى إحداث تأثير فعلي. في هذه الحدود، قد يمكن تشبيه الفايسبوك بكتّاب التعليقات على المقالات الصحافية حيث من النادر قراءة تعليق مفيد.
* استكمالاً وختاماً لهكذا حوار يطغى عليه التشاؤم، الصحافة العربية المكتوبة، اليوم، ورغم تورمها وكثرة منابرها الأنترنتية والورقية، قد تكون في أسوأ أحوالها، كأن هذه المهنة فقدت الكثير من مقوماتها وأعرافها وتقاليدها، بقدر ما فقدت قدرتها على صوغ رأي عام، أو أن تكون “سلطة رابعة”؟
ـ أساساً، وفي ظل امتناع الطبقة الوسطى عن خوض المجال الإعلامي، كانت الصحافة وظلت مرتهنة بطرف سلطوي ما. وأذكر أنني منذ عملت في الصحافة في 1974، كنت أعلم أن ثمة بلداً من البلدان ينبغي أن نستثنيه من النقد. في هذا المعنى فإنّك تؤمن بكل ما تكتبه لكنك لا تستطيع أن تكتب كل ما تؤمن به.
إلى ذلك أظنّ أن مشاكل صحافتنا تعاظمت كثيراً الآن، ليس بسبب تراجع الصحافة المطبوعة فحسب، بل أيضاً بفعل تراجع قدرة الأنظمة النفطية على التمويل، كما بسبب المزيد من تدهور الوضع الاقتصادي والقدرة الشرائية عند مواطني معظم الدول العربية. فإذا أضفنا تمحور الحياة السياسية والثقافية في العواصم دون الأرياف، فهمنا أسباب هذه المحدودية في التأثير والتغيير.
وفي آخر المطاف هل يعقل أن تكون طبقاتنا الاجتماعية وأحزابنا وأنظمتنا سيئة إلى هذا الحد وأن تكون لدينا صحافة عامرة؟
المدن