حرائق الدولة “ما بعد” الإسلامية/ مازن عزي
منذ أكثر من أربع سنوات، أضرم بوعزيزي النار بنفسه، واندلعت من بعدها الحرائق في الشرق العربي. نار بوعزيزي، كانت خياراً واعياً، لرفض إهانة لحقت به، في تكثيف سوداوي لانسداد الأفاق، ورغبة التواري النهائي، في طقس تطهيري، يتضمن معاني القوة، العمادة الكبرى باللهب.
نار تنظيم الدولة الإسلامية، المشتعلة في جسد الطيار الكساسبة، أيضاً، ليست خروجاً من نص قرآني، وبحثاً عن فتاوى ضائعة، بل تكريساً لعنصر النار، في استحضار عبادة القوة، والرفع من شأن العنف، في مواجهة قدرة الضحية الذاتية على الفناء، الانتحار. نزوع لكسر أخر ما تملكه الضحية؛ استسلامها وخضوعها، وتطبيق حكم خص الله به منكريه والكافرين به.
لكن المقطع المصور الذي بثته الدولة الإسلامية، كان تجلياً فنياً لمخيلة العنف، الحدود القصوى من “كمال” تريده الدولة، في مشهدية “حداثية”، لبربرية لا قاع لها. مشاهد الإثارة والتشويق، زوايا التصوير، الغرافيكس الاحترافي، لمتابعة طقس هذياني؛ حرق في القفص. الطيار الأردني احتجز في قفص حديدي، يشبه ذلك الذي توضع به الضواري، في حفلات السيرك. حتى الكساسبة نفسه، بدا متورطاً في فعل موته الحتمي؛ ممثلاً دور الضحية المؤكدة، وكأن أملاً بالرحمة ظل يساوره، حتى رآى اللهب يقترب منه. الكساسبة كان ذاهلاً في المسرح المُعد له، تجوّل فيه بعيون زائغة، ترقب آثار الدمار حوله، وعشرات من “أسود الدولة” تحيط به.
في المشاهد كما سابقاتها من عمليات الإعدام، ارتدى جنود الدولة، بذلات عسكرية وأحذية أميركية، وارتدت ضحاياهم حلات برتقالية خصّ بها الأميركيون معتقلي سجن غوانتانمو. وكأن المشهد مقلوباً رأساً على عقب؛ تماهٍ بالمعتدي، تشبّه به، تبنٍ كامل لقوة الفعل، من موقع المُستلب. استعادة محدثة، خلاقة في عنفها، لصور مسربة من أبو غريب، وسجون صدام والأسد. كيف لا؟ وضحايا الأمس هم مجرمو اليوم، تنبض ذكرياتهم، بالإهانة المذلة، والخزي.
تجرعهم الطويل للذل، في معسكرات اعتقال الأنظمة الديكتاتورية، جردهم من سمة التعاطف البشري، أخرج الوحش من لاوعيهم، فاستيقظ الثأر لديهم؛ ثأر مرتد على الجميع، عنف أعمى، طال الأيزيديين، والأكراد، والشعيطات السنة. حقدهم المتموضع تجاه الأخر، أي أخر، لم يعد استثنائياً، بل شديد العادية، كإنفلات غريزي، لنزعة التدمير.
ليس من مبرر اليوم، للبحث في الإسلام عما يُجيز لهذه الكتلة البشرية، أفعالها. الأمر تعدى الإسلام، وأصبح منفصلاً عن سياقه التاريخي. الإسلام أصبح اليوم، بالنسبة للتنظيم، مجرد خزانة برفوف، ينفض عن فتاويه وعجائبه غبار التقادم، لتوضع في مسار “حداثي”، في مواجهة العالم المعاصر. هل يمكن الحديث في هذا السياق عن “ما بعد الإسلام”، كإطار ديكوري، للتنميط والتصنيف، وقسم العالم إلى فسطاطين؛ معنا وضدنا. دين لمنح هوية دلالية شكلية، مترهلة، فضفاضة، تتيح إمكانية الانفصال والرفض للواقع.
بربرية أفعال التنظيم ليست بحاجة إلى تفنيد. لكن القول بأن الكساسبة مجرد ضحية وقتلته مجرمون، هروب إلى استنتاج سهل، يعفينا من الحفر في لاوعينا ومخزون العنف لدينا. ولا معنى لأحكام القيمة، حين تسقط أمام طبيعية الفعل، اعتيادية الشر، في منطقة تمطر براميلَ متفجرة على أرض من الصفيح المنصهر.
النار التي أوقدها بوعزيزي، كانت تمريناً لقدرة الضحية على التدمير الذاتي، الرافض لمسار الذل المعاش. لكن حرائق التنظيم، تبدو إخماداً لنار الرفض، تسلطاً مهيناً، ودفعاً للشر بالشر.
المدن