حرب الوصايات/ عمر قدور
لا يخفي حلف الممانعة أنه يخوض الآن حرب وصايات في المنطقة الممتدة من العراق إلى سوريا، ويكاد لا يخفي إلا أحياناً أن تسمية الممانعة باتت مجازاً يعبّر عن الوصاية الإيرانية، بما يعني التخلي العلني عن كافة شعارات السيادة والاستقلال التي كانت تنفق في العداء لأميركا وإسرائيل. بحسب هذه الترسيمة المعلنة، هناك هجمة منسقة “خليجية/تركية” تستهدف السيطرة على المنطقة، عبر وكلاء محليين، ما يستدعي مواجهتها بدعم من الحليف الإيراني، وهنا لا عيب في تحول الممانعة إلى وكيل معلن للمشروع الإيراني، بصفته “الأكثر تقدمية” من نظيره الخليجي أو “العثماني”.
وصم الثورة السورية بالعمالة للخارج، من قبل حلف الممانعة، لم يكن على شاكلة ما تفعله أنظمة الاستبداد جميعاً عندما تتعرض للخطر. الأمر هنا كان مبنياً على تبعية أنظمة العراق وسوريا التامة للسياسة الإيرانية في المنطقة، وبالطبع على إمساك حزب الله بلبنان حكماً أو تعطيلاً منذ انسحاب إسرائيل من الجنوب. بهذا المعنى، يجوز القول بأن الثورة منذ بدايتها، ومن دون أن يعي السوريون ذلك، كانت تحررية ضد الوصاية الإيرانية على رغم عدم بروز ظاهرة العداء لإيران آنذاك. المسألة أن التغيير كان لا بد أن يهدد المصالح الإيرانية، وكان لا بد لوكلاء إيران من مواجهته على النحو الذي رأيناه.
لكن المواجهة التي يخوضها الحلف منذ أكثر من خمس سنوات تختلف عن الصراع الذي أداره من قبل، وتختلف أدواته جذرياً، فخطر انقضاء عهد الوصاية الإيرانية في أي وقت قادم يتطلب العمل على انتصارها الآن، وجعلها مستدامة بتغيير الواقع ليصبح ملائماً لها. من هنا كان لا بد للحرب أن تأخذ طابع التغيير الديمغرافي في سوريا أولاً، حيث لا وجود معتبراً للشيعية السياسية أو الاجتماعية الملتحقة بإيران، ومن هنا لا بد من النظر إلى وجود حزب الله في سوريا كواقع مستمر لحراسة النفوذ الإيراني، وما الحديث عن سوريا كطريق إلى القدس سوى كناية عن طول الزمن الذي سيبقى فيه.
قد يكون بلا دلالة كافية وصف منظمات تابعة للأمم المتحدة موجة النزوح السوري بأنها الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، فالأقرب إلى وقائع المنطقة وصفها بأنها الأسوأ منذ تهجير الفلسطينيين وإنشاء إسرائيل، حيث الدلالة هنا تتجه إلى تغيير ديمغرافي جذري، تغيير جيوسياسي في المنطقة ككل. والأمر لا يتعلق هذه المرة بإنشاء كيان على جزء من الأرض، بل بتحويل سوريا بأكملها إلى كيان جديد مختلف عما كانت عليه بنيتها الديمغرافية طوال قرون، ولا يستلزم المشروع كفاءة استيطانية على غرار المشروع الإسرائيلي، لعدم توفرها أصلاً، ولأن المراهنة تنصب على تقليل الفائض البشري غير المرغوب فيه إلى درجة تسهل فيها السيطرة على ما يتبقى منه.
في الجوهر لا تختلف “ثارات الحسين أو زينب” عن “أرض الميعاد”، ففي الحالتين نحن إزاء شعار ديني يُراد به تزكية حق تاريخي يخالف الواقع على الأرض. ذلك لا يختلف أيضاً عن المزاعم الكردية المتدحرجة إزاء الشمال السوري كله، حيث يتفاقم ادعاء الحق التاريخي بمناطق لم ينسبها الأكراد لأنفسهم من قبل، مع كل تقدم تحرزه وحدات الحماية الكردية على الأرض. وهنا لا تستقيم الادعاءات وتصير واقعاً إلا على حساب التغيير الديمغرافي، ومن المتوقع حصول ذلك في حال سيطرت قوات الحماية الكردية على مدينتي منبج والرقة، على غرار سيطرتها من قبل على مدينة تل أبيض.
أنصار وحدات الحماية الكردية يستخدمون الاتهامات التي يستخدمها حلف الممانعة تجاه الثورة، فمن وجهة النظر ذاتها لا وجود لحقوق أو مطالب مشروعة، بل يُختصر الأمر بالعمالة لتركيا والخليج. وإذا كان عداء هؤلاء لتركيا مفهوماً، على أرضية الحرب التي يخوضها حزب العمال الكردستاني هناك، فمن غير المفهوم وفق المنطق ذاته عداؤهم للخليج البعيد تماماً عن حساسيات القضية الكردية، وتحالفهم في الوقت نفسه مع النظام البعثي الذي لم يعترف يوماً بحقوق أكراد سوريا.
في المجمل، ما يُصوَّر على أنه حرب وصايات تخوضها قوى محلية بالوكالة، مشفوعة بثارات قديمة، هي مجرد كنايات عن مشاريع إنشاء كيان بديل برعاية إيرانية روسية مشتركة، وربما بموافقة غربية يتكفل أصحابها مرغمين بتحمل الكلفة البشرية من اللاجئين، ويُستحسن الصمت على المجازر المرافقة للمشروع طالما أنها تقلل من كلفة النزوح. الوقوع في فخ الوصايات المتبادل، أو في فخ الجدل التاريخي، من الجهة المقابلة سيؤدي الغرض الذي يبتغيه أصحاب المشروع الإيراني. الثارات الطائفية القديمة، على تهافت منطقها، ليست سوى تغطية لحرب الإبادة والتهجير، وكذلك هي الحقوق القومية التي تتوسع مطالباتها باضطراد، والدخول في منطقها لا يستدرج إلا المزيد من حروب التطهير.
الأشهر القليلة القادمة بالغة الأهمية لجهة فرض واقع جديد في المنطقة ككل، وعلى هذا تجب قراءة الهجمة الروسية الإيرانية الوحشية على الشمال السوري، وترافُقها بعدد ضخم من المجازر بحق المدنيين. الهجوم لا يتعلق بتركيع المعارضة وإرغامها على القبول بتسوية مجحفة، ولا يتعلق حتى بفرض بقاء الأسد لوقت يطول أو يقصر، هو يتعلق أساساً بتصفية القضية السورية نهائياً، بدءاً بعزلها وبمحاصرتها جغرافياً عن أي محيط متعاطف.
الحديث عن سايكس/بيكو جديدة قد يكون متسرعاً بدوره، لأن المشروع الإيراني لا يحظى بالقوة التي كانت تمتلكها القوى الاستعمارية القديمة. ربما الأقرب إلى الواقع أنه تأسيس لصراع طويل الأمد يصعب التكهن بنتائجه، وبخلاف ما هو شائع عن أن الحسم والفصل سيكون في سوريا فقط ربما علينا انتظار النتائج في بغداد وبيروت أيضاً.
المدن