حرب وشيكة في المنطقة؟
نهلة الشهال
لأن الحدث السوري يتمدد، وتزداد فظاعته كل يوم، ولا تظهر له آفاق حلول، فثمة شعور عام طاغٍ بأن المنطقة برمتها تتجه حتماً نحو عظائم الأمور. ولأن إسرائيل مقادة من الثنائي نتنياهو وباراك، اللذين يصران على احتلال الموقع الأكثر تطرفاً، ويبنيان «مجدهما» على المزايدة، (ما يشار إليه كثيراً بعبارة ساخرة في إسرائيل حول مأزق موقف نتنياهو هذا أو الوسيلة التي سيجدها «للنزول عن الشجرة»)، فالمخاوف من دفع الموقف إلى الكارثة جدية. وهي اضطرت القائد العام للجيوش الأميركية، الجنرال مارتن ديمسي، الى التأكيد منذ أيام، بأن الولايات المتحدة لن تنجر إلى الحرب مع إيران في ما لو قررت تل أبيب إطلاقها. وفي الوقت نفسه، يُضطر قادة مجموعة من الدول الغربية، بزعامة فرنسا، إلى التخطيط لزيارة إسرائيل قريباً بشكل جماعي، تهدئةً من روعها، ولعله خصوصاً شفاءً لغليلها إلى الوجاهة (أو «الواجهة» وهما هنا واحد!). فإسرائيل تشعر منذ ما يقرب اليوم من سنتين، أنها منسية، وأن «العرب» يحتلون الصدارة، ويحظون باهتمام سياسي عالمي كبير، وكذلك إعلامي وبحثي، بل وباحترام وإعجاب عامين، وفضول… ما كانت تظن يوماً أنه سيحيط بهم. ومن يستخف بهذه العناصر لا يعرف «ميكانيزمات» اشتغال منطق إسرائيل، كـ«قلعة محاصرة»، الديموقراطية الوحيدة التي تعيش بفضل قوة إبداعها، علاوة على القوة الصرفة، وسط بحر من «الهمج» و«المتخلفين» الذين لا يشبهون أحداً، بينما هي ـ إسرائيل ـ تشبه العالم المتحضر، بدليل آلاف اليهود الذين تستعيد قسراً أبوتهم، بموافقتهم أو من دونها، فتعتد بعبقرية الفلاسفة والأدباء والفنانين والعلماء من كل صنف، الأحياء منهم والغابرون. «أمبرطورية» مثل هذه، تجد نفسها فجأة مُزاحة عن المشهد بسبب استيقاظ جميل لصبْية وفتيات من هؤلاء الهمج المزعومين. وهذا كفيل بتهديد تماسك وحضور إسرائيل كـ«بناء متخيل»، منسوج بالقوة من أساطير وأكاذيب لا تنتهي، يحار المرء في مقدار تصديق أصحابها أنفسهم لها.
ولم يبق لذلك سوى أناس مثل هنري كيسنجر، الذي كان صاحب عز في وقت من الأوقات، اعتداداً بذكائه ودهائه في تسيير السياسة الخارجية لبلاده. وقد هرم الرجل، ولكنه ما زال يدلي بتصريحات «إستراتيجية»، كرؤيته تلك التي صرح بها لصحيفة (the Daily Squib)، في الأيام الأخيرة من العام المنصرم، وهي من الدرجة العاشرة، وممن يعتاشون على الإثارة والفضائح (يا لتدحرج مكانة الرجل!)، عن المناورة التي اعتمدتها واشنطن «للسماح» لروسيا والصين ببعض المجد، و«إعطائهما شعوراً كاذباً» بالقوة، بهدف تسريع عملية زوالهما الذي سيتحقق عن طريق ضرب إيران («المسمار الأخير» في نعشيهما بحسب وصفه). وهذه ستكون هدف تل أبيب التي ستهزمها بالطبع، بل وستحتل سبع دول عربية، و«سيموت الكثير من العرب». واسترسل كيسنجر كصبي يلعب هو الآخر بإحدى ألعاب الفيديو (التي اعتبرها نوعاً من تدريب شباب أميركا على القتال)، أن السيطرة على النفط والغذاء هما مفتاح الهيمنة، وهذا ما حققته الولايات المتحدة وانتهى! وقد مرت تلك النبوءات مرور الكرام، لولا أن الرجل حاز بعد ذلك بأشهر على أرفع وسام إسرائيلي تكريماً لجهده غير المنقطع، كما قال بيريز يوم الاحتفال، في «المساعدة الدائمة» التي أحاط بها إسرائيل كـ«أحد أبنائها» بوصفه «يهودياً كبيراً»، ما من شأنه كله، ومعاً، أن يعزز الروايات الخرافية عن مصائر البشرية التي، إن لم تكن على شفا نهاية أخروية «ابوكلبتية» كما بدا كيسنجر سعيدا بذلك، (وبقوة أميركا الوحيدة المطلقة، مقابل جموع غفيرة من الجياع الهائمين والذين سيتعين السيطرة عليهم و/أو قتلهم بحسب ما استفاض في شرحه)، فهي على الأقل تُصنع من قبل «اليهود»، بالتآمر وفي الكواليس. وقد رد الرجل التكريم بإسماع (بعض) قادة إسرائيل ما يرغبون بسماعه ـ وهي قناعته أيضاً وبالتأكيد ـ من قرب الوصول إلى لحظة الحسم مع إيران، والتي تقع على بعد أشهر قليلة (كنا في شهر حزيران/يونيه وقتها)، بعدما امتد تفاوض مجلس الأمن معها لأكثر من عشر سنوات!
واليوم، تعلن الولايات المتحدة عن قرب بدء مناورات عسكرية ضخمة في الخليج، تشمل عملية كبرى لكسح الألغام منه، في إشارة إلى موقفها الحاسم تجاه تهديدات إيران بإغلاق مضيق هرمز. وتعلن عن نصب رادار جديد ضخم في قطر، يمثل مع الرادارين المشابهين له في تركيا وإسرائيل، شبكة ردع فعال لأي هجوم صاروخي إيراني، وشبكة طمأنة لإسرائيل…
أما مقابلة السيد حسن نصرالله مع قناة «الميادين» منذ يومين، فقد استكملت المشهد: نحن لا نريد الحرب ولا نسعى إليها، ولكن الموقف الدفاعي الذي نتموضع فيه لا يعادل الاستسلام لتفاصيل مشيئة إسرائيل، وعربدتها. فلو اعتدتْ، أجبنا. والمولجون بالإجابة أو بالتهيؤ لها، لا يلتفتون إلى المشهد السياسي، ولا يلهيهم، بل هم يعملون حصراً على تعزيز القدرة بوجه إسرائيل. وهذا توازن حقيقي في القوى، غايته الردع، وهو يمثل تحدياً لا يمكن لإسرائيل تجاهله. وفي الصورة عناصر مكتملة للموقف القائم. هذا عدا ما قاله «السيد» لجهة الحاجة إلى إيجاد إطار لحل سياسي في سوريا يجنبها الانزلاق نحو مزيد من العنف. وقد بدا واضحاً من كلامه أنه مقتنع بعبثية هذا العنف وعجزه عن حسم الأمور في أي اتجاه كان. ولا يمكن إلا لمن هو مصاب بالصمم، إنكار أهمية صدور هذا الموقف عن أحد الحلفاء الرئيسيين للنظام السوري، واعتباره مجرد تزويق شكلي للحديث. ولا يمكن إلا لمعتوهين، يشبهون ما انتهى إليه كيسنجر، بعد أن بلغ من العمر عتياً، أن يهملوا الإمكانات التي يتيحها مثل هذا الكلام، في سياق الضغط على النظام السوري وعلى المعارضات، السياسية والمسلحة، لإرساء مبدأ الحاجة إلى حل سياسي كمخرج من تدمير سوريا، وربما المنطقة بأكملها. مبدأه على الأقل، كقناعة عامة يُفترض أن تسود وتملأ القلوب والعقول، بوجه دعاة الحسم «خلال أيام» و«الانتصار المبين»، بانتظار تلمس آليات وضع هذا المبدأ على سكة الواقع والتدابير المطلوبة، بما هي اشتغال على إمكاناته الواقعية.
طبول الحرب التي تقرع منذ زمن في المنطقة، والتوقعات التي تضع في كل مرة موعداً لها بعد كذا أو كيت، ستظل تقرع لزمن جديد على الأرجح، وستظهر مواعيد جديدة. الحرب هنا، وفي هذه المرة، وبسبب من مجمل التطورات التي وقعت، ومنها الثورات العربية، ومنها تفكك الوضع السوري، ستكون ذات كلفة عالية، من المرجح ألا يرغب بها أو يقوى عليها أحد. إلا إذا تغلب المجانين!
السفير