حروب الإلغاء واستحالة التسوية في سورية/ ماجد الشيخ
في تناغم مطلق، وفي ظل صمتٍ مطبق، يوزّع حلف الحرب الإجرامية ضد الشعب السوري مخططات هذه الحرب التي تتقاسمها أطراف التحالف، إلى جانب قوى النظام ومليشياته ومليشيات حلفائه، على امتداد ما تبقى من جبهات قتالية، بدءا من الغوطة الشرقية وقسم من ريف دمشق الجنوبي، وامتدادا إلى ريف حمص الشمالي، وصولا إلى محافظات الجنوب.
وفي كل هذه المناطق، تُخاض حربٌ شاملة، حرب إبادةٍ لا تخضع لمنطق أو قانون أو أية أعراف إنسانية، أغراضها الأساس إلغاء أي وجود معارض للنظام، بل الالتحاق به والخضوع لمخططات سبق وأن رسمها الروس، وتوسع الإيرانيون ومليشياتهم في تنفيذها، من دون أن يستطيع الجميع الوصول إلى تسويةٍ مرضيةٍ تحقن الدماء وتحفظ الوطن والدولة من الدمار، وتبقي أبناء الشعب السوري أو تعيدهم إلى بلادهم، وتخرج المحتلين من ديارهم، لتتركهم وشأنهم في تدبير أمورهم، بعيدا من الاستبداد والجور والظلم الذي تسبب به النظام، ومن جاؤوا لنجدته لإبقائه في السلطة، هادفين إلى تحقيق مصالح خاصة بكل منهم، تتعارض، بل تتناقض، مع مصالح الشعب السوري وتطلعاته منذ بداية ثورته السلمية، وحتى الوصول بها وتحولها إلى ثورة مسلحة، استغلها الطامعون للبقاء في السلطة على حساب كل الآخرين، كما الطامحون إلى امتلاك سلطةٍ لهم، سياسية ودينية، ولو بالإرهاب والقتل، والسعي إلى إلغاء كل الآخرين.
ولأن “المهمة” لم تنجز بعد، ها هي حرب الإلغاء الكبرى، وما تفرّع عنها من حروب إلغاء صغرى، تواصل إيقاد نيرانها في لحم الشعب السوري، من دون أن يكل النظام من لحس المبرد، على الرغم من كم الدم والدمار الهائل الذي ألحقته آلة حربه بسورية الوطن والناس، وبدعم قتالي هائل من روسيا وقواتها الفضائية، وهي تقاتل دفاعا عن النظام، وعن هدف استعادة موقعها الجيواستراتيجي ومصالحها في المنطقة. وكذا من إيران ومستشاريها وعسكرها ومليشياتها الأرضية، وهي تقاتل دفاعا عن النظام ورأسه، وعن تلك الطريق الممتدة من طهران وحتى بيروت، تأمينا لنفوذ إقليمي لطهران في المنطقة. فيما يقاتل الأتراك دفاعا عن قوموية وإسلاموية لا تحتمل وجودا كرديا مستقلا على حدودها؛ حتى ولو أدى الأمر إلى “تصالحٍ” مؤقت مع النظام السوري، هدفه منع الأكراد من تطوير موقفٍ وموقعٍ لهم داخل الأراضي السورية، يستطيعون من خلاله مناكفة النظام التركي، دفاعا عن حق أو حقوق أشقائهم في تركيا.
في المقابل، تواصل الفصائل والتنظيمات الإرهابية حروب إلغائها الجميع، وقد جرت معها بعض قوى إسلاموية من صفوف المعارضة السياسية، وبات صوتها الأعلى في الجبهة المقابلة للنظام وتحالفاته، من دون التزامٍ منها بموقف موحد، حتى باتت تلك القوى بمجموعها عبئا على المعارضة السياسية والوطنية الفعلية، وضاعت طاسة الأخيرة بين طاساتٍ كثيرة، لم يعد ممكنا التمييز فيما بينها؛ أيها الجادة والجدية في عملية إسقاط النظام لمصلحة الشعب السوري وأهدافه في التغيير، وأيها المدعومة من قوى إقليمية تدعم إرهابها في مقابل العمل لدعم نفوذ إقليمي لهذه الدولة أو تلك. وفي المحصلة، لم يكن ولن يكون المستفيد من ذلك، سوى قوى دولية لا يهمها سوى تأمين مصالحها، على حساب كل القوى الوكيلة التي تخوض حروبها من أجل الآخرين.
هكذا هي الحرب في سورية، حرب الآخرين على الأرض السورية، كما هي حرب السوريين شعبا ضد النظام، وحرب النظام ضد شعبه، بأسلحته، كما بأسلحة الحلفاء الطامعين بحمايته من أجل بقائه “حاكما للأبد”، ولأهداف خاصة بكل منهم، فلروسيا أهدافها الجيواستراتيجية والتكتيكية، ليس في سورية والمنطقة فحسب، بل في العالم. ولإيران أهدافها ومطامحها المذهبية والقوموية، ومطمعها الرئيس المتمثل في استعادة إمبراطورية الصفويين الفارسية، نموذجها الراهن في الحكم سلطة “الولي الفقيه” ونظامها الثيوقراطي في الهيمنة الداخلية، وفي السعي إلى تقوية نفوذها الإقليمي، عبر تدخلات سياسية وعسكرية، ودعم قوى ومليشيات دينية طائفية ومذهبية ومن لف لفها.
ولتركيا هواجسها تجاه الأكراد السوريين، كما تجاه أكراد تركيا، ولا يخلو الأمر أيضا من هواجس تجاه مواقف الولايات المتحدة بإزاء الأكراد؛ أكراد سورية على الأقل، في حين أن الهواجس التركية تجاه النظام السوري قد تصبح أقل أو أكثر، وفق مقتضيات مد الجسور مع روسيا وتمتين العلاقات معها، في مواجهة التعارضات مع الولايات المتحدة، واستخدامها بعض الأكراد في توفير جسور أمنية لها في سورية، ولموازنة وجود وازن لها في مواجهة الوجود الروسي من جهة. ومن جهة أخرى، في مواجهة التواجد الإيراني، وبما يستجيب للمصالح المشتركة الأميركية – الإسرائيلية في التضييق على النفوذ الإقليمي لطهران في المنطقة، ومنعه من الامتداد إلى مناطق شاسعة، وصولا إلى الحدود مع فلسطين المحتلة.
ومع اقتراب الثورة/ الأزمة السورية من عامها الثامن، تزداد تعقيدات أوضاعها غير المستقرة، ومعها يهتز استقرار كامل دول الإقليم، وصولا إلى بروز تعارضاتٍ دولية، تستعاد فيها نذر حربٍ ليست باردة تخاض بالوكالة، كالتي تجري اليوم، ليس في سورية وفي ما يجري في محيطها الاقليمي، بل وفي مناطق عديدة خاضعة لروسيا والولايات المتحدة؛ وهي
“حرب الإلغاء الكبرى، وما تفرّع عنها من حروب إلغاء صغرى، تواصل إيقاد نيرانها في لحم الشعب السوري”
حروبٌ يُجري فيها كل طرف إعمال تجارب أسلحته الجديدة الفتاكة والمحرّمة دوليا، حتى غدت تلك الأسلحة، جراء استعمالها واستخدامها من الأطراف جميعها، غير محرّمة، فلا يجري إدانة استخدامها أو تجريمها أو محاكمة المتسببين في نتائجها المدمرة.
وسط هذا كله، لا يبدو أن محاولات الوصول إلى تسوية ممكنة في سورية متاحة، بعد سبع سنوات من القتل المبرمج والممنهج، بحق أبناء الشعب السوري من النظام، ومن جاء لدعم هذا النظام في مواجهة شعبه، وتطلع هذا الشعب إلى تغييرٍ يحقق له المواطنة الحقة في وطن حق يستحقه مواطنوه، قبل أن يكون مباحا لمافيات السلطة وسلطات الدول الأخرى، تعمل فيه مذابحها ومجازرها وتجري فيه تغييراتٌ ديموغرافية قسرية وإكراهية، فيما يستمر النظام في حكاويه وسردياته عن السيادة؛ سيادة من غلب وسجن واحتكر، ومن سحق وألغى السياسة والمجتمع ووجود الآخر المواطني والوطني من أبناء البلد وبناته، على اختلاف انتماءاتهم وهوياتهم.
العربي الجديد