حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي.. العزّة بالإثم/ حسين العودات
لا ينبغي لأحد، خاصة للعرب، إنكار حقوق الشعب الكردي التي يحق له التمتع بها كغيره من شعوب الأرض، سواء منها الحقوق السياسية أم غيرها كالحقوق الثقافية والاجتماعية. ويستتبع ذلك بل ينتج عنه بالضرورة حق الشعب الكردي في وحدة أراضيه وإقامة دولته المستقلة، وممارسة نشاطاته الثقافية، والتمتع بالحديث والغناء وقول الشعر وكتابة الأدب بلغته، وغيرها من الحقوق التي تحظى بها معظم الجماعات.
لقد عاش الأكراد تاريخياً في ظل دولة إسلامية طغى عليها وعلى دويلاتها أحياناً الطابع العربي – الإسلامي، وأحياناً أخرى التركي أو الفارسي. وطاول الأكراد من إمارات هذه الدول نصيب، فكان منهم صلاح الدين الأيوبي الذي أقام إمارات كردية في مصر وبلاد الشام وبعض العراق، لكنه لم يجعل لها هوية كردية كاملة، ولم يفرض عليها ثقافة وحيدة هي الثقافة الكردية. ولا يكفي القول إن تنصيب أبنائه وأقربائه أمراء على الإمارات التي أسسها جعلها إمارات كردية، كما فعل العرب والعثمانيون والفرس وغيرهم، علماً أن جميعهم رفعوا راية الإسلام ليحصلوا على الشرعية، حيث أقاموا دولاً في إطار مصالحهم القومية، وحوّلوا شعوب هذه الدول رعايا أشبه بالتابعين والمستعمَرين، وهو ما لم يفعله الأكراد في إماراتهم التي حكموها، والتي غالباً ما كانت تحقق مصالح حكامها كأفراد وأسر، لكنها لا تطلق أيادي الشعب الكردي في شؤون البلاد والعباد.
لم تؤخذ حقوق الشعب الكردي بالاعتبار عند التوقيع على اتفاقية «سايكس – بيكو» برغم المطالبة الكردية بذلك، بل زادت هذه الاتفاقية الظلم ظلماً. ولم تعترف بوجود دولة كردية، بل قسمت أراضي كردستان بين أربع دول هي تركيا والعراق وإيران وسوريا، وألقت بالأكراد في «قعر مظلمة» تحت رحمة حكام الدول تلك. وعلى ذلك حُرم معظمهم من مجمل حقوقه، كما هو الحال في تركيا التي منعت أكرادها من التحدّث بلغتهم أو تعلمها في المدارس، ناهيك عن إنكار حقوق سياسية وثقافية واجتماعية أخرى. وبقي الأمر كذلك حوالي مئة عام إلى أن تغيّر قبل بضع سنوات بحكم التطور، فسُمح لهم باستخدام لغتهم وتعلمها من دون السماح ببقية الحقوق الثقافية، ورُفضت مطالبهم السياسية وخاصة حقهم في تقرير المصير، أو حتى حقهم في الحكم الذاتي، وسُنّت القوانين بخبث في البلاد بحيث حرمتهم من هذه الحقوق.
أما في بقية البلدان التي يتواجد فيها الأكراد، أي العراق وإيران وسوريا، فلم يكن الأمر مختلفاً كثيراً. وبرغم السماح لهم بالتحدث بلغتهم، إلا أن الأمر لم يطَل السماح بتعلمها في مدارس وكتب معترف بها. كما لم يُحتفَ بثقافتهم ولم يعطَوا حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، وأُنكرت حقوقهم السياسية مطلقاً، وحورب مَن يطالب بها كما يُحارَب الخائن، واعتُقل أنصارها، ومُنعوا من تأسيس أحزاب سياسية أو مؤسسات مجتمع مدني، وقُضي على أي حراك قريب من هذا طوال قرن بكامله، إلى أن بدأ الإفراج عن بعض هذه الحقوق في السنوات الأخيرة بحكم التطور، لكن من دون أن يصل الأمر إلى الاعتراف بها على المستوى السياسي، خاصة لناحية تقرير المصير.
إلا أن الأحداث التي جرت مطلع القرن الحالي، سواء منها الاحتلال الأميركي للعراق، أم الانتفاضة السورية، حيث سادت ظروف جيوبوليتيكية جديدة، أفضت إلى إعطاء أكراد العراق حكماً ذاتياً بسبب تمركزهم فوق أرض متصلة. أما أكراد سوريا، فأمرهم كان يختلف كلياً، حيث أنهم ينتشرون في محافظات ومناطق إدارية عدة، ولا يشكلون الأكثرية فيها برغم ارتفاع نسبتهم. لكن خروج المناطق التي يتواجدون فيها عن قبضة السلطة السورية بعد الانتفاضة، أتاح لهم تنظيم وتسليح أنفسهم، ورؤية قرب إمكانية الحصول على الحقوق السياسية أو بعضها، مما جعلهم ينشطون في هذا الاتجاه، كما لم يتسن لهم في تركيا حيث أكبر تجمع كردي أو في إيران حيث للسلطة موقف رافض لحق تقرير المصير. فأخذتهم العزة والفخار في سوريا إلى القيام برد فعل عنيف، حتى وصل الأمر إلى ما يقارب معاداة العرب، ورأى بعضهم إمكانية تعويض مئة عام من الظلم، فتلوثت أفكار بعضهم بآثام العنصرية، وشجعه على ذلك أن السلطة باتت بين يديه وأن السلاح متوفّر.
ومن دون أخذ الشروط الموضوعية والعلاقات التاريخية بالاعتبار، راح منهم ينادي بتطبيق الحكم الذاتي، بمعزل عن إمكانية تحقيق ذلك أم لا. وأخذ بينهم من يطالب بالانفصال برغم استحالة تأسيس دولة كردية من سوريا، متجاهلاً أن المطالب هذه متعذرة التحقق بسبب تبعثرهم هنا وهناك، وكذلك بسبب عدم قيام الدولة الكردية الموحّدة في المنطقة. ولم يفكر هؤلاء في احتمال أن بقاءهم سوريو الجنسية واعتبار مصيرهم مرتبطاً بمصير الشعب السوري، هو الأفضل لهم في هذه المرحلة. علماً أن هذا لا ينفي وجود مناضلين جنّبوا نفسهم العبث بمصير الشعب الكردي وبالعلاقات التاريخية العربية – الكردية، والغرق في تيار المزايدة والتطرف باعتبارهما أسهل الأمور والمواقف، في مقابل أصعبها المتمثل في التعقل ودراسة الواقع وفهمه وأخذ جوانبه كافة بعين الاعتبار.
لقد تشكل في سوريا «حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي»، وهو في الواقع فرع لـ «حزب العمال الكردستاني التركي» الذي يقوده المناضل عبد الله أوجلان. وقد تسلح هذا الحزب ونشط بين الأكراد ليصبح أقوى الأحزاب الكردية في سوريا. وراح الحزب يطرح شعارات متطرفة، ووصل به الأمر إلى إعلان قيام «إدارة ذاتية» في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية من سوريا. ولوحظ على الحزب أنه يُبطن أكثر مما يعلن من جهة، وأنه برغم انخراطه في «هيئة التنسيق الوطنية السورية» المعارضة وتولي صالح مسلم رئيس الحزب منصبَ نائب رئيس «الهيئة»، فهو على صلة ما بالسلطة، وينسّق معها في جوانب عدة، وله مواقف ذات وجهين. وفي ضوء ذلك، وسّع الحزب نشاطه حتى شمل مناطق وقرى ومدناً لا يشكل الأكراد أكثرية فيها، بل إن أكثرية سكانها من العرب والتركمان والآشوريين. علماً أن الحزب، ولدى الاستفسار عن أهدافه البعيدة، يؤكد أن البقاء في دولة سوريا والانتساب إليها بالنسبة له أمر لا يقاربه الشك، وأن الحزب لا يطلب سوى المساواة. وقد بدأت تتسرّب للحزب أمراض عديدة مثل صلف أفراده وتفرّد قيادته واعتماد مناهج مدرسية مختلفة عما هو في سائر سوريا.
وفي الأسبوع الماضي، قام الحزب بعمل استفزازي تمثل بضم مدينة تل أبيض إلى كانتون الإدارة الذاتية. وتل أبيض مدينة ذات أكثرية عربية وتركمانية وفيها نسبة ضئيلة من الأكراد. وقد وعد أهلها بإدارة أمورهم، لكنه ألحقها بإدارة عفرين، وأخذ أفراد منه يحرقون بيوت المخالفين للضمّ ومزروعاتهم، ويعتدون على مَن لا يوافق على إجراءاتهم. فكان أن تحوّل سلطة غاشمة في مناطق الإدارة الذاتية، تفرض رؤيتها وقانونها على الآخرين بالقوة. وبذلك يكون قد تناسى في قراره الأخير الأخوة العربية – الكردية، وقلّد الأنظمة السورية التي مرّت على سوريا منذ الاستقلال، من غير حذر أو تبصّر. علماً أن الحكمة تقضي بأن تكون رؤية الحزب أكثر بعداً وأوسع طيفاً، وأن يأخذ المستقبل بعين الاعتبار، ويتذكّر أن ضعف العرب السوريين لن يبقى كذلك إلى الأبد. وعليه وبالتالي أن لا يخلق عداءً جديداً معهم، ستكون نتائجه مُرة على الطرفين، كما أعتقد.
السفير