حزب العدالة والتنمية التركي في مرحلة ما بعد الاستفتاء/ بكر صدقي
رداً على سؤال لأحد الصحافيين، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل فترة: «نحن لسنا طريقة دينية تبحث عن مريدين. حزب العدالة والتنمية حزب سياسي، يبحث عن عضويته في أشخاص حسني السلوك والسمعة قادرين على تحمل المسؤوليات العامة، بصرف النظر عن إيمانهم ومعتقداتهم الدينية».
كان ذلك رداً على مناخ التذمر الذي عبر عنه بعض الإعلام الموالي من «أنهم يبعدون الإسلاميين، ويدفعون بغيرهم إلى الأمام». هناك تقديرات تتحدث فعلاً عن أن الدائرة المقربة من أردوغان الذي تفرد، بعد إقرار التعديلات الدستورية، بصلاحيات كبيرة، أصبحت من خارج الحركة الإسلامية التي انبثق منها الحزب الحاكم، وأن أكثر المدافعين شراسةً عن التعديلات المذكورة، هم من خارج الحزب، أو من خارج الحلقة المؤثرة فيه.
قد يكون كلام أردوغان صحيحاً في سياق آخر غير سياق الحياة السياسية التركية. أما هنا، فالأمر يختلف كثيراً. إذ قامت شعبية الحزب، في بدايات تشكله وفي السنوات اللاحقة، أساساً، على مظلومية تاريخية لتيار الإسلام السياسي المعبر عن جمهور المتدينين العاديين الذين طالما همشهم النظام العلماني – العسكري وعاملهم بازدراء، منذ قيام الجمهورية حتى مطلع القرن الواحد والعشرين. أي أن الحزب وقاعدته الاجتماعية كانت لهم قضية تحررية لا لبس فيها. لذلك فقد بدأ الحزب مسيرته في الحكم بآمال عريضة في الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، كما أطلقت حكومة الحزب مساراً واعداً من تطبيق معايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وما يعنيه ذلك من انفتاح اقتصادي على العالم، وإنضاج البيئة القانونية لإصلاحات سياسية عميقة تحوّل تركيا من دكتاتورية عسكرية مستترة بواجهة ديمقراطية، إلى نظام ديمقراطي حقيقي يراعي أرقى معايير حقوق الإنسان والحريات العامة.
بكلمات أخرى: كان لـ»طبقة» المسلمين والإسلاميين دور ديمقراطي تحرري، يبدو اليوم كأنه أصبح جزءًا من التاريخ، لتصبح الطبقة المذكورة، أو بالأحرى نخبتها المستفيدة من نعم السلطة ومفاسدها، طبقة بلا قضية إيجابية، جشعة للتمسك بالسلطة، ولا شيء آخر. ازداد الأمر تفاقماً بعدما بات الحزب مجرد أداة سلطة في يد الحاكم الفرد، إلى حد أخذ فيه بعض المثقفين النقديين يتحدثون عن انتقال السلطة فعلياً من حزب العدالة والتنمية إلى «الأردوغانية».
كما أن انسداد الأفق في العلاقة مع أوروبا، وترديها في السنوات القليلة الماضية مع الأمريكيين، ترك تركيا في فراغ قيمي ليس من المستبعد أن تملأه السلفية الجهادية، على ما يحذِّر الخبير بالإسلام السياسي التركي روشن جكر. فالبلد أصبحت، ربما للمرة الأولى في تاريخها، بلا وجهة محددة، بعدما كانت منذ قيام الجمهورية تتطلع إلى «المدنية المعاصرة» بتعبير أتاتورك، التي تعني التطلع قدماً إلى مثال الحداثة الغربية. ولا يشكل التوجه شرقاً بديلاً بالنسبة لتركيا، برأي جكر الذي يقول: «لم يعد هناك شرق»، بل نماذج استبدادية فاشلة، كإيران وروسيا، أو دول محطمة في سبيلها إلى التفكك كحال الجارتين سوريا والعراق. وبفقدان قيم «التوجه غرباً» كما بتفريغ نزعة التحرر الإسلامية من مضمونها، لا يبقى أمام تركيا سوى الفراغ والانعزال عن العالم.
في هذا الإطار يمكن قراءة قرار حجب موقع الموسوعة العالمية «ويكيبيديا» في تركيا، بدعوى وجود مادتين تتحدثان بصورة سلبية عن تركيا. فمعنى الحجب – برغم عبثيته – هو إغلاق عيون الأتراك عما يقوله العالم بشأنهم، في الوقت الذي لن يتوقف فيه العالم عن القول. وباستثناء كوريا الشمالية، هناك بلد واحد مهم حجب هذه الموسوعة عن مواطنيه قبل تركيا، هو الصين الذي خصص موارد بشرية ومادية ضخمة لتأسيس موسوعته الخاصة على الشبكة باسم «الموسوعة الصينية». فلنتخيل عالماً كل بلد فيه يملك موسوعته الخاصة التي لا يستخدمها غير مواطنيه. أما الصحافي الإسلامي المستقل فهمي كورو فهو يتحدث عن «أزمة سياسية» في الحكم والحزب الحاكم، تجلت بصورة بارزة في الاستفتاء الأخير، وما سبقه وما تلاه. ويعقد مقارنات تاريخية عن حالات ولادة الأحزاب الجديدة في الحياة السياسية التركية، حين تبرز حاجة ملحة لذلك. وتأتي هذه الحاجة اليوم، في رأيه، بسبب الجو المشحون داخل الحزب الحاكم الذي انعكس في الإعلام الموالي بشكل صراعات شرسة تدور حول أمر واحد: من يتقرّب أكثر من مركز السلطة الوحيد الذي اجتمع في يد الرئيس. ولهذه الغاية تتطاير الاتهامات يميناً وشمالاً بعدم الإخلاص للحزب وللسلطة في الاستفتاء الذي جاء بنتائج مخيبة للحزب الحاكم. هذه الاتهامات طالت شخصيات بارزة في الحزب، سبق وتم تهميشهم كالرئيس السابق عبد الله غل ورئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو وأحد القادة المؤسسين للحزب بولند آرنج وغيرهم. ما كان يدور في الكواليس حول احتمال تشكيل غل لحزب سياسي جديد وترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة في مواجهة أردوغان، انتقل إلى صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون كاتهام موجه لرفيق درب أردوغان القديم.
كما أن الانقلاب العسكري الفاشل، في تموز العام الماضي، ما زالت ارتداداته تهز البيئة الإسلامية، وضمناً الحزب الحاكم، بسبب علاقة التداخل العضوي بين الحزب و»جماعة الخدمة» بقيادة فتح الله غولن المتهمة رسمياً بالوقوف وراء الانقلاب المذكور، طوال سنوات التحالف الوثيق بينهما (2007-2012) في مواجهة الوصاية العسكرية. وبعد تأخير كبير صدر تقرير اللجنة البرلمانية المشكلة للتحقيق في ملابسات الانقلاب الفاشل، وتضمن أجوبة كل من رئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان ورئيس قيادة أركان الجيش خلوصي آكار على أسئلة اللجنة. وإذا كانت هذه الأجوبة قد أضاءت شيئاً من غموض الساعات السابقة على بدء الانقلاب العسكري، فهي لم تقترب أبداً من جوانب أخرى أكثر أهمية كما ترى المعارضة، وهي المتعلقة بـ»الجناح السياسي» للانقلاب الفاشل الذي تصر أحزاب المعارضة على تركيز التحقيقات بشأنه. والمقصود بالجناح السياسي هو ذلك الجزء من السياسيين الذين كان من شأن نجاح الانقلاب أن ينقلهم إلى صدارة الحكم، وتفترض المعارضة أن الجناح هذا لا بد أن يكون من داخل الحزب الحاكم بسبب تداخل العضوية بين الحزب والجماعة.
٭ كاتب سوري
القدس العربي