حزب الهتيفة الجدد
خلف علي الخلف
الهتاف أقدم وسائل الدعاية؛ وربما أرخصها فقد كان ينادى على السلع بالهتاف، ويجمّل الهتّافون سلعهم بأوصاف قد لا تكون فيها. وأقدم إعلان في العربية كان لـ”مسكين الدارمي” الذي روج بضاعة كاسدة لأحد التجار بثلاثة أبياتٍ شهيرة [ قل للمليحة في الخمار الأسود…]. وتصرف الشركات مبالغ ضخمة للهتاف لمنتجاتها بعد أن تطورت وسائل الهتاف ولم تعد مقتصرة على صوتٍ ينادي.
وفي السياسية كان “الهتّافون” ركناً أساسياً في ترويج الأشخاص والجماعات والأحزاب والأفكار خصوصا تلك الأفكار الكاسدة وتحتاج من ينادي عليها. فالهتاف [كما يقول لسان العرب] ” الهَتْفُ والهُتافُ الصوت الجافي العالي، وقيل: الصوت الشديد.” وتحتاج الجماعات السياسية للصوت العالي كي يقارع الخصوم و”يصرعهم”.
والهتيف لابد أن يجمّل المهتوف له وإلا فقد وظيفته، وإن لم يجد الهتّيف شيئا يُمدح في المهتوف له لجأ إلى بلاغة التركيب، فمدح المهتوف له جزء من وظيفة الهتّاف [وهتفْت بفلان أَي مدَحْته… وفلانة يُهْتَف بها أَي تُذكر بجَمال.] وقد يكون الهتاف شعاراً يطلق في مظاهرة أو مهرجان و يكتب أحياناً على “كرتونة” أو “لافتة” من قماش، وهذا النوع من الهتافات يميل للقصر والسجع ليحفظه الناس ويرددونه بسهولة. والهتيفة يكونون عادة من عامة الناس وقد يُكتب لهم ما يهتفون به، وإذا كان الهتيف في مظاهرة يحمل على الأكتاف، وهناك دائما من يتطوع لحمل الهتيف وهو في العادة أقل مرتبة منه، ويزهو الهتيف بنفسه محمولاً على الأكتاف ويخال نفسه أنه من يقود الجموع التي ترد وراءه وفق الإيقاع الذي يهتف به، مؤمنة بما يقوله أو منساقة في كتلة الكثرة أو مجبرة على ذلك. وإذا كانت الجموع غفيرة وعريضة فإنه يعطى مايكرفون فصوته العالي لايكفي ليصل لهذه الجموع.
وأكثر من استخدم الهتافين في السياسة هي الأنظمة والأحزاب الشمولية، وكانت تستعيض بهتافاتهم عن “الإنجازات”، وفي المهرجانات الخطابية للزعماء لا يكتفى بهتيفٍ واحد بل يحضرون “جوقة الهتيفة للزعيم” فيقاطعونه بالتصفيق أولاً ثم بالشعارات ثانياً والتي توزع على فقرات الخطاب التاريخيي الذي “يهتف” به الزعيم، وفي هذه الحالة يجب أن يكون التصفيق قوياً ولايتخاذل عنه أحدٌ وإلا راح في غيابة الجب، وتذكر مرويات من تراث هذه الأنظمة أن هناك أشخاص سجنوا وعذبوا لأن تصفيقهم لم يكن حاداً ومدويّاً. ويتندر خبثاء على “برلمانات” هذه الأنظمة بتسميتها “مجلس الهتافين” وتكاد تقتصر مهمة هذه المجالس على الهتاف للزعيم حاضراً أو غائبا.
ولا يقتصر الطلب على الهتافين على الأنظمة، فالمعارضة أيضاً تستخدم الهتيفة، في صراعها مع النظام وكذلك في صراعها الداخلي مع المعارضة المنافسة، فتكون مهمتهم تسفيه أفكارهم وشتمهم إن اقتضى الأمر.
ومن الهتافين من يعمل بأجرٍ، ومنهم من يهتف تزلفاً للحصول على منفعة، ومنهم من ينتمي للمهتوف له سواء كان نظاماً أو زعيماً أو حزباً أو شخصاً، ومنهم يتخذها هواية، ليحقق له وجوداً ويحدّث أقرانه وصحبه ونسله أنه قاد جموعاً بالإلاف معتقداً أنه لولا وجوده لما وجدت هذه الجموع!. وهذا أسوء أنواع الهتافين وتعيره زوجته غالباً بأنه لا في العير ولا في النفير [بس الصوت العالي].
ومع تطور العصر الحديث تشعبت “حرفة” الهتاف، فلم يعد الأمر مقصوراً على السياسة والتجارة لترويج السلع والأفكار صالحها وطالحها، بل أصبح للهتيفة روابط ولجان واتحادات فصار لكل فريق رياضي “رابطة” من الهتيفة، مهمتهم ابتكار شعارات تشتم الفريق الخصم وتشد من أزر فريقهم في كل مباراة وقد تتطور هذه الروابط إلى عصب منظمة تقوم بأعمال شغب إثر كل مباراة يخسر فيها فريقهم.
ولم يعد الهتاف مقتصراً على الشعارات، بل كما أن هناك نوع من الإعلانات التحريرية التي تروج للسلع بطريقة لاتريد لها أن تبدو إعلاناً، أصبح هناك هتافات مطولة على شكل مقالات تكتب لمدح هذا الزعيم أو ذاك ويكتب وينشر “هتافو المقالات” هتافاتهم هذه على أنها رأي الكاتب وضميره الحر، وهذا النوع من الهتيفة أصبح أكثر جدوى وفاعلية مع الأفكار والأنظمة الشمولية التي تدفع لهم في العادة، وتعلو وتهبط هتافاتهم حسب الدفع، ويتقلبون في أحيانٍ كثيرة في أحضان الأنظمة والزعماء، وتراهم يشتمون من هتفوا له قبل حين!. وهؤلاء تسميهم العامة “الطبلجية” في قياس على الطبال الذي لا يصدر عنه شيئا سوى الصوت، والطبال يطبّل لمن يدفع ولا يشترط أن يكون راضياً، وأشهر هؤلاء في التاريخ العربي المعاصر هم “هتيفة كوبونات صدام”
وبعض الأنظمة تكتب هي عن نفسها في إعلانات تحريرية مدفوعة في صحف خارج بلادها كما كانت تفعل سفارات كيم إيل سونغ “العظيم” بمناسبة عيد ميلاده وتصدّر هذا الإعلان لشعوبها على أنه كتبت الصحيفة الفلانية في البلد الفلاني عن القائد الملهم وأفكاره التي تنير العالم.
وتعتبر الأنظمة الشمولية كتابها غير المستأجرين هتيفة بمرتبة خاصة فتروج لهم وتكرمهم، لكن ذلك لم يقتصر على الأنظمة فقد روجت أحزاب كثيرة ليست في السلطة – تنتهج الفكر الشمولي- لهتيفتها من الكتاب والشعراء والرسامين.
ومع تطور تقنيات النشر والتواصل المرعب تطور نوع جديد من الهتيفة وهم “هتيفة الكُتاب”، وهؤلاء طوروا الهتافات شكلاً وكماً لكن مضمون الهتاف وجوهره بقي كما هو، فقد أصبحت الهتافات تعليقات مطولة تحت مقالات الكاتب، بالإضافة للشكل القديم للهتاف، والذي هو عبارة عن مقالات مديح، لا تخرج عن إطار الهتاف للكاتب وأفكاره النيرة التي تشبه أفكار كيم إيل سونغ العظيم من حيث توخي فاعليتها في الإنارة لامضمونها، وقليل من هؤلاء يعرفون من أين تؤكل الكتف فيهتفون تبادلاً للمنافع مع الكاتب كأن يتوسط لهم للنشر في الجريدة التي يكتب فيها أو تلك التي “يمون” على أحدٍ فيها؛ أو يرشحهم لـ “وظائف” في الأماكن التي تقدر أفكاره، وكثيرهم يهتف بحماس شديد دون أن يقرأ حتى، وهؤلاء تتطور حال كثير منهم إلى “شبيحة” مع الوقت، فلا يكتفون بالهتاف بل تصبح مهمتهم شتم من يخالف الكاتب الرأي، بانتظار أن تصبح لديهم سجوناً ومشانق؛ فكاتبهم يصبح مقدساً مثل كيم إيل سونغ العظيم والذي يعد هو وسلالته مثالاً ساطعاً على حب الهتاف، باعتباره دلالة على قدسية الزعيم، حتى أنهم كانوا يعاقبون كل من لم “يمارس الهتاف” بحرارة؛ فقد سجن كوريون لأن بكاءهم لم يكن حاراً على وفاة الزعيم الخالد الذي ورثه الزعيم الحي.
وفي مصر قبل الثورة أشفى نعمان جمعة غليل كل من يكره الهتيفة بشتيمته الشهيرة لأحد الهتّافين الذين ربما أحضره حزبه، فقد رشح نعمان جمعة رئيس حزب الوفد في عام 2005 للرئاسة في ظل مبارك الذي ذهب ظله وبقي حيّاً، ومن الطبيعي أن يكون لكل مرشح مهرجانات انتخابية، وبينما يخطب في جماهير أحد هذه المهرجانات كانت الهتافات تصدح من حوله، وعرف عن جمعه كرهه للهتافات التي تقطع عليه حديثه، وأمام وسائل الإعلام الكثيرة التي كانت تتابع حملته، ضاق ذرعاً بأحد الهتيفة الذي يقوم كل فترة ليقاطعه بهتافات تؤيده، محاولا إسكاته أكثر من مرة ليكمل حديثه، دون أن ؤثر ذلك على صورته أمام الجماهير التي ينتظر أصواتها الإنتخابية، لكن دون جدوى لأن الميكروفونات من أمامه، والكاميرات من حوله، فما كان من نعمان إلا أن التفت إلى أحد أعضاء حملته وقال له: “ألله.. هو الواد الخول ده محدش عارف يسكته “. ونسي جمعة أن هناك “مايك” صغير لإحدى الفضائيات معلقا على ياقة جاكيته، ونقل الجملة التي قالها ليس لمن كان في المؤتمر فقط، بل للعالم. لكن الهتافين لم يتوقفوا عن الهتاف فهم مثل العاهرات إن تابوا أصبحوا مصفقين.