حسام عيتاني: في المشرق العربي الفسيفسائي الطوائف كافة أقليات
كتب: بيروت – محمد الحجيري
كتب الصحافي والباحث اللبناني حسام عيتاني الكثير من التعليقات حول الأقليات ومستقبلهم ودورهم في المنطقة العربية في زمن الثورات، وهو يعتبر أن الثورات العربية لم تأخذ في الاعتبار لحظة اندلاعها هواجس الأقليات ومخاوفها المحقة، ما انعكس سلباً على موقف هذه الأخيرة من الثورات، لكن بعض الأقليات عبر عن مخاوفه عبر مزيد من الالتصاق بأنظمة القمع والتماهي بها.
كيف تقرأ علاقة الشعوب العربية بالأقليات في زمن الثورات العربية أو ما بعدها؟
العلاقة قيد التشكل الآن. وتجري راهناً إعادة نظر شاملة في مكونات المجتمعات العربية وعلاقات السلطة فيها، ويشمل ذلك إعادة تقييم لطبيعة هذه المكونات وأدوارها ومواقعها وكيفية أدارة العلاقات في ما بينها. لكن ربما ينطوي السؤال على بعض الإجحاف بحق الأقليات. فهذه من صلب الشعوب العربية (بالمعنى العريض للعبارة) حيث لا يمكن تصور مصر من دون الاقباط أو سورية من دون المسيحيين والعلويين. حتى المكون غير العربي عرقيًا (كالكرد مثلاً) لا يجوز فصله عن نسيج الشعوب العربية الاجتماعي – السياسي.
ولعل الثورات العربية لم تأخذ في الاعتبار لحظة اندلاعها هواجس الأقليات المحقة، ما انعكس سلباً على موقف هذه الأخيرة من الثورات (على غرار ما جرى في مصر مثلاً). لكن بعض الأقليات عبَّر عن مخاوفه عبر مزيد من الالتصاق بأنظمة القمع والتماهي بها، ما سيؤدي إلى صعوبات جمة في المرحلة المقبلة.
لا أقصد هنا أن الأقليات أجمعت على مواقف بعض هيئاتها التمثيلية (مثل الكنيسة الأرثوذكسية في سورية) التي ساندت نظام الرئيس بشار الأسد بقصر نظر مؤذٍ للمسيحيين قبل غيرهم، غير إن الأصوات المعترضة على هذا السلوك «الرسمي» أو «المؤسسي» ما زالت فردية.
في رأيك هل أنتهى زمن تحالف الأقليات؟
كمشروع، انتهى وثبت فشله وهزال الأدوات الأيديولوجية التي حاول رفعها، كاستغلال القضية الفلسطينية ومواجهة أميركا مبرراً للإمساك بالسلطة إلى ما لا نهاية له. المسألة التي يجب التوقف عندها في هذه المرحلة، أي بعد انهيار المشروع المذكور، هو كيف تصاغ العلاقات السنية – الشيعية (في «تحالف الأقليات» أدى بعض المسيحيين دور التابع وليس صاحب القرار)، أولا حتى لا ننتقل من محاولة اقصاء إلى محاولة شبيهة. علينا أولاً الاعتراف بالتنوع الديني والعرقي في منطقتنا (أحدد هنا المشرق العربي) وأهمية الانتقال إلى نظام سياسي عادل، على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية وأخيراً السياسية. ولا يمكن أن تجري هذه الخطوة من دون أن تترافق مع نظرة جديدة إلى توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية ودور المرأة وموقع الأقليات وحقوقها. وترك الوضع العربي يترهل ويهترئ بحجة منع التقدم الإيراني، مثلاً، سيكون معادلاً للسياسة السابقة التي قالت بارجاء حل المشكلات كافة في انتظار تحقيق السلام مع إسرائيل.
وسط تحالف الأقليات ألا تشعر بأنك أقلوياً؟ وما الذي يجعل المرء ينتابه هذا الشعور؟
في الواقع، في منطقة فسيفسائية مثل المشرق العربي، الطوائف كافة أقليات. وإذا كان بعض البلدان يتسم بأكثرية سنية (سورية مثلاُ) أو شيعية (العراق) فذلك لا يعني أن هاتين الأكثريتين تتعاملان مع الطوائف الأخرى بالمنطق الذي تخيله بعض الكتاب الإسلاميين الذين اعتبروا أن الإسلام السني يشكل صلب الأمة ومتنها، فيما الطوائف الأخرى هي الهوامش. ففي سورية مثلاً نعثر على كثير من القرى والبلدات السنية التي تحيط بها أكثريات علوية أو مسيحية. بناءً عليه، يكون من البديهي أن يشعر السنة بأقلويتهم وأن يحفز هذا الشعور خطاب الجماعة المهددة بالخطر. كذلك الأمر في لبنان الذي تُطرح فيه مسألة الأقليات بحدة فيبرز السؤال: من هي الأكثرية؟ أهم الشيعة الذين يتصرفون اليوم بدرجة عالية من التوتر أو التشنج؟ أو السنة الذين تنهار قيادتهم «المعتدلة» لمصلحة الإسلام الحركي المتشدد؟ هنا تبدو العلاقة مع الخارج حيوية جداً في تحديد الأقلية والأكثرية. ففي حين يحيل الشيعة «أكثريتهم» إلى إيران (وإلى العراق أخيراً) ينتظر السنة المدد من بحر يمتد من المغرب إلى السعودية. وأعتقد أن في الرؤيتين إشارة واضحة إلى أزمة الدولة الوطنية في لبنان خصوصاً وفي المشرق العربي استطراداً.
تقول في أحدى مقالاتك «ربما تعلن الثورات العربية الجارية اليوم بدايات النهاية لمعضلة العلاقات بين الأقليات والسلطة في المشرق العربي، إذا نجحت في بناء سلطات تنطوي على بدائل ديمقراطية للعلاقة المريضة السابقة وتضمن للأقليات حقوقها وحضورها من دون منّة ولا تهويل، لكن ما يدعو إلى الحذر وربما إلى التشاؤم أن الأقليات تلك لم تدرك بعد معنى التغييرات التاريخية التي تشهدها المنطقة وما زال رهانها معلقاً على الجانب الخاسر من التاريخ»…
في رأيك ما أسباب رهانات بعض الأقليات على الجانب الخاسر من التاريخ، سواء في مصر أو العراق أو سورية وحتى لبنان؟
المسألة متعددة الأوجه وترجع، في ما أعتقد، إلى نهاية الحقبة العثمانية عندما بدت الخيارات المطروحة أمام الشعوب في المشرق العربي (مصر حالة مختلفة) صعبة التحقق. فالاستقلاليون لم يكونوا يملكون من القوة ما يؤهلهم للحكم وبدت المجموعات التي تطرح نفسها وريثة للسلطنة العثمانية غير جديرة بالثقة من طوائف كثيرة، خصوصاً المسيحيين الذين تحالفوا في تلك السنوات الحساسة مع «الثورة العربية» ضد البرجوازية السنية، ثم جاء الاستعمار البريطاني والفرنسي وقلب الموازين. بعد الاستقلال، ظهرت مخاوف مشابهة من عززها انضواء المسيحيين في الأحزاب العلمانية الحاملة أيديولوجيات حديثة مقابل جمود الأكثرية الديموغرافية السنية عند حدود العلاقات والبنى التقليدية.
ومع مرور الأعوام، حصلت تغييرات كبيرة في الاجتماع السياسي (انفجار سكاني في سورية، هجرة المسيحيين من لبنان، هيمنة الاقتصاد الطفيلي الذي تسيره حلقة سياسية- طائفية ضيقة في سورية، الحرب الطائفية في العراق بعد الغزو الأميركي، إلخ) ساهمت كلها في جعل التغيير ضرورة تاريخية لا مفر منها. ويمكن القول إن كل من المجتمعات العربية يسير نحو التغيير بطريق مختلف عن الآخر، وفقاً لظروفه. أما الرهان الذي قام به بعض الطوائف على الجانب الخاسر من التاريخ فيرجع إلى ارتباطات قياداتها بمنظومات المصالح التي أقامتها طوال الأعوام الماضية، من جهة، وبسبب عدم الثقة بالنفس وبالآخر في آن، حيال أي تغيير مقبل، من جهة ثانية.
ألا تعتبر أن رفع شعار «حماية الأقليات» كان يتم في المحافل الدولية لفرض سياسات محددة على بعض البلدان العربية، وهذا ما أدى إلى ما تسميه في إحدى مقالاته استبداد الأقليات؟
طبعاً، كان الاستعمار يملك جداول أعمال تختلف عن تطلعات شعوب المنطقة بما فيها الأقليات. واستغل مشاعر الخوف المبررة عند هذه الأخيرة (بعد التجارب الدامية في القرن التاسع عشر وبسبب جو الغبن في ظل الحكم العثماني) لفرض نفسه حامياً لها. الملاحظ أن هذه الأقليات التي وصلت إلى السلطة في كثير من دول المشرق، لم تقدم النموذج الذي يطمئن الآخرين. بل إنها كررت تجربة الاستعمار لناحية اصطفاء طائفة والتحالف مع أخرى في وجه ثالثة وضرب الطوائف ببعضها. ونجم عن عقود من التمييز المعلن والمستتر شعور مقابل عند الأكثرية بالإجحاف اللاحق بها. هذا ما ينطبق مثلاً على عراق صدام حسين حيث استخدم السنة وتحالف مع المسيحيين ضد الشيعة. من هنا يمكن الحديث عن استبداد الأقليات.
ما الذي دفعك إلى إطلاق مفهوم «الدولة الأقلية»؟
دولة الأقلية مصطلح يتجاوز الأقليات الطائفية والعرقية وأقصد به كل حكم يعتمد على قاعدة اجتماعية وسياسية ضيقة، ويدير شؤونه اليومية من خلال التوزيع الاستنسابي للثروة وفق حاجاته بما يضمن له ولاء القطاعات الضرورية لبقاء الحكم.
هل تغيـّر الثورات العربية علاقات الأقليات؟
هل تتغير علاقات الأقلية والأكثرية في المنطقة العربية بفعل الثورات؟ يتشعب السؤال في عدد من الأقنية الفرعية يتعلق بعضها بالنظام السياسي وآخر بالقيم الاجتماعية والثقافية التي قد تعممها التغييرات العميقة بعد استقرارها.
ما يهمنا أكثر هنا، هو مقولة «تحالف الأقليات» التي راجت في الأعوام القليلة الماضية. أنكر كثر وجود التحالف هذا في حين رسم آخرون سياساتهم للدفاع عنه وتكريسه. وإذا كان تعريف التحالف المذكور وتشخيص قواه المؤثرة، ليسا من الأمور التي يمكن حسمها في نقاش نظري – سياسي، إلا أن الخطوط العريضة للتحالف يجوز تلخيصها بنقاط رئيسة هي: إن ظروفاً تاريخية وسياسية ساهمت في دفع أقليات دينية وعرقية إلى مواقع السلطة في عدد من البلدان العربية، والأقليات هذه استعانت بالإيديولوجيات القومية واليسارية المُقَدِّمة لهموم المساواة والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني، على هموم الحريات الفردية والعامة.
ويمكن الخوض في سجال عن درجة الوعي التي رافقت توجه شرائح كبيرة من الأقليات في بلدان المشرق العربي إلى أحزاب وقوى بعينها. وقد أفاض مؤرخون متميزون (كحنا بطاطو في الحالة العراقية، على سبيل المثال) في تشريحه، وما إذا كان اختيار نخب الأقليات للإيديولوجيات اليسارية والقومية العلمانية (مقابل تيار إسلامي وقومي عربي لا ينكر دور الدين تبنّته الأكثرية الدينية) نابعاً من رغبة في حماية الجماعة أو من حساسية الأقليات خصوصاً المسيحية منها للحداثة الغربية، الأم الحقيقية للإيديولوجيا.
بيد أن سجالاً مثل هذا، لن يحمل سوى محاولات تبرير الواقع أكثر من تفسيره. ويوسع دائرة النقاش حقائق الانتشار الحزبي بين الأقليات ونزوع هذه الى الدعوات العلمانية التي شكلت الضمانة المتخيلة من الذوبان في بحر الأكثرية.
مهما يكن من أمر، ظهرت في الأعوام الماضية تلك المنظومة الاستراتيجية – السياسية المؤلفة من إيران وسورية و «حزب الله» و{حماس»، وعززتها عن أطرافها قوى مثل «التيار الوطني الحر» و «المردة» وغيرهما، أدت دوراً مهماً في توفير الغطاء السياسي للتحالف ونزعت عنه الصفة المذهبية الطائفية الضيقة.
وعلى مستوى آخر، ظهرت أهمية اندماج الأقليات بـ «الممانعة». وقدم الجنوب اللبناني فرصة للتأكيد على «وطنية» ما، لم يكن معقولاً تعميمها لولا المعاناة التي عاشها أهل الجنوب جراء الاعتداءات والاحتلال الإسرائيلي. وفي الوقت الذي يبدو خطاب «حزب الله» متماسكاً في شأن العداء لإسرائيل وللولايات المتحدة والغرب عموماً، يبدو الخطاب ذاته أقل إقناعاً بكثير عندما يصدر من أفواه المتحدثين باسم «التيار الوطني».
ويكاد يكون أداتياً خالصاً ذلك الانتقال من العداء الشديد للحكم في سورية إلى الارتماء الكامل في أحضان السياسات السورية، الذي مارسه «التيار الوطني»، الوافد الأخير الى خندق الممانعة والمقاومة. ويعطي الانتقال هذا انطباعاً غير مريح عن خلفية التحالف بين «التيار» و «حزب الله». لذا، لم يكن مفاجئاً الشك الذي تقابل به كل تحركات المتفاهمين.
ويستخدم «حزب الله» ترسانة واسعة من الأدوات السياسية والإعلامية لتأكيد رفضه للفتنة، في حين يبدو حليفه «الوطني الحر» ساعياً في التحريض عليها، من دون أن يؤدي ذلك الى تفكك العلاقات بين الحزب والتيار، بفضل اسمنت المصالح الكبيرة بينهما.
يتعين فتح قوسين هنا لتوضيح حالة «حماس» وتنظيمات أخرى كـ «الجهاد الإسلامي في فلسطين». فعلى رغم صدورها عن خلفية مذهبية متماهية مع الأكثرية الفلسطينية، إلا أنها تحتوي على بذرة أقلوية، عنوانها الأهم الإسلام السياسي والسعي الى استخراج خطاب حركي من الدين، وضعتها في حال تناقض مع الإجماع الوطني الفلسطيني الذي مثلته منظمة التحرير على مدى عقود.
بالعودة الى «تحالف الأقليات»، كان الممر الإجباري لضمان نجاحه واستمراره، المبالغة في تغليب قضايا الخارج على الداخل. ويكاد يكون قانوناً لا يخطئ ذلك الصدام الذي ينشب بين أنظمة الممانعة وقواها، وبين مجتمعاتها، فور انتقال البحث الى الشؤون الداخلية. وسورية نموذج حديث على ذلك.
وما يستدعي توقفاً طويلاً في هذه المرحلة هو ما تدخله الثورات العربية على علاقات الأكثرية والأقليات في المنطقة. فالثورات أحيت مخاوف مبررة ومشروعة عند الأقليات الدينية في مصر وسورية، ولا مفر من الاعتراف بأن تاريخ هذه العلاقات لا يحتوي على ما يدعو الى اطمئنان الأقليات، في حين أن النماذج الحاضرة – في العراق خصوصاً- تشكل كابوساً لم تفلح التطمينات اللفظية في رفعه.
لكن هذا الواقع الكريه غير قابل للفصل عن الإرث الذي تتركه الأنظمة العربية في رحلتها صوب الفناء. ولا بد للمجتمعات العربية من تحمل هذه التبعات وإدراك حجم الأخطار التي تنطوي عليها والتي بدأ بعضها في الظهور في مصر عبر بعض الجماعات المستخدمة للخطاب الديني.
ويمكن المحاجّة بأن المجتمعات العربية قادرة على اجتياز الامتحان هذا وعلى الخروج بصيغة جديدة، حديثة وديموقراطية أو على الأقل أقل عنفاً وتسلطاً، للعلاقات بين الأقليات الدينية والقومية. علاقة تستبدل أيديولوجيا التضليل الطائفي والمذهبي واستغلال القضية الفلسطينية من أجل تأبيد البقاء في السلطة والهيمنة على المجتمعات العربية، بمصالح الدولة الوطنية التي ستفرض في نهاية المطاف نفسها كحيز تلتقي فيه إجماعات الشعوب العربية، أو توافقاتها الأكبر.
وحتى اليوم، لم تعلن أي ثورة عربية اتخاذ موقف منحاز طائفياً أو عرقياً، وتصر جميعها على المناداة بالتعدد والتسامح ورفض الانجرار الى ما تريد الأنظمة من اقتتال مذهبي أو جهوي أو قبلي. لكن ثمة ما يحض على عدم الاكتفاء بالنوايا والتصريحات والكلمات الطيبة. فمرارة التجارب السابقة تملي على الشعوب العربية إيلاء العلاقات الداخلية اهتماماً كبيراً، خصوصاً في مجال العلاقات مع الأقليات.
مأزق الأقليات وسط الثورات العربية
جمهوريات الحكم الذاتي ومناطقه، الحصص الالزامية في الهيئات المنتخبة والمعينة، «التمييز الإيجابي»، كلها أدوات استخدمت لمعالجة علاقة الأقليات بالأكثريات في أنحاء العالم.
العلاجات المباشرة والصريحة هذه، اتسمت بالطابع التعاقدي بين ممثلين عن الفئات ذات الأوزان الديموغرافية المتباينة، وغالباً بعد صراعات دامية، ضمن الكيان السياسي – السيادي الواحد. ويجوز القول إن اعتراف الأكثرية السياسي والثقافي بالأقليات ضمن الكيان جاء في مقايضة تخلت فيها الأقليات عن حقوقها السيادية.
في المشرق العربي، بدأت مسألة الأقليات في البروز مع تردد أصداء الثورات القومية الأوروبية في السلطنة العثمانية وارتقاء الاقليات المسيحية، خصوصاً، في علاقاتها الثقافية والاقتصادية مع الغرب وانكشاف قصور النموذج العثماني، الموروث عن الدول الإسلامية الأقدم، في استيعاب وملاقاة حيوية الأقليات المتطلعة الى المزيد من الحقوق في التعبير عن خصوصياتها وفي التمتع بانجازاتها التجارية والاجتماعية. ومنذ بداية القرن التاسع عشر، خصوصاً بعد انحسار التهديد المصري الذي شكلته حملات محمد علي باشا وابنه ابراهيم على السلطنة، اتضح أن البقاء على الصيغة السابقة للعلاقات بين اسطنبول والاقليات في المشرق غير ممكن. وأن تكليف حكام الاقاليم العناية بمسائل الجماعات الاثنية الطائفية واحالة ادارة شؤونها الدينية والاجتماعية الى رجال الدين والأعيان المحليين والاكتفاء من العلاقة معهم بالتأكد من دفع الضرائب، لم تعد صالحة.
هذه باختصار شديد، الأجواء التي سبقت صدور الاصلاحات العثمانية المعروفة بـ «التنظيمات» في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي لم تأتِ من دون مقاومة شرسة من بعض الأوساط التي رأت فيها تجاوزاً على الحدود الشرعية. لكن «التنظيمات» كانت عنصراً واحداً فقط من العناصر المكونة لمشهد اجتمعت ألوانه واتحدت أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث انخرطت جماعات من المثقفين المحليين في الصراع من أجل الاستقلال العربي عن الدولة العثمانية، وفق صيغ وطنية وقومية شتى.
وفي سياق تبدل السلطات، من عثمانية الى أوروبية انتدابية، بدا أن الأقليات اقتربت من نيل حقوقها في الاستقلال والحكم الذاتي. وفي سلسلة من المؤتمرات واللقاءات، ووسط خضم متلاطم من الكتابات والأفكار، جرت محاولات لتوفيق الاستقلال الوطني بالحقوق المشروعة للأقليات. وقدمت الأفكار القومية السائدة في أوروبا على أنها العلاج لمشكلة التفتت المذهبي والإثني في المشرق العربي.
ولم يكن غريباً أن يضطلع مثقفون مسيحيون، مثل جورج انطونيوس وقسطنطين زريق وغيرهما، بوضع الأسس النظرية، إذا جاز القول، للفكرة القومية العربية. ويمكن الاستطراد أن مسيحيين آخرين، وضعوا الأطر «التنفيذية» للفكرة تلك مع جورج حبش وميشال عفلق. ولا يخرج عن السياق المذكور تشكيل المسيحيين وابناء الأقليات الأخرى اكثرية المنتمين الى الأحزاب الشيوعية التي راحت تظهر منذ الربع الأول للقرن العشرين.
بكلمات أخرى، وفرت الإيديولوجيات العابرة للانقسامين القومي والديني، ملاذاً آمناً للأقليات التي حارت في كيفية العيش في أوطان لا وزن سكانياً لها فيها، ما يضع ابناء الطوائف أمام خيارات الذوبان أو الهجرة، خصوصاً بعد انحسار ذراع الحمايات الأجنبية.
غني عن القول إن الأكثرية العربية المسلمة، لم تبد حساسية أو تفهماً لهواجس الاقليات وأنها أظهرت في مناسبات عدة أنانية واستسلاماً للنوازع الأكثر شوفينية. وأسوأ من ذلك هو قبولها النزول إلى ساحة الايديولوجيات العلمانية وخوض الصراع ضد الأقليات باستخدام المصطلحات والأدوات الأيديولوجية، القومية والماركسية. والطريف أن بعض «المفكرين» العرب يلح على اعتبار صيغة مزيدة منقحة من القومية العربية قادرة على تجاوز الكوارث التي جلبتها الايديولوجيات القومية التي اقترحها عفلق وطبقها صدام حسين وأضرابه.
كل هذا لم يزد العلاقات بين الأكثريات والاقليات سوى تعقيد، وصولاً إلى انفجار الحروب الأهلية في لبنان والعراق واليمن وغيرها من البلدان، حيث أدت الانتماءات الطائفية والعرقية أدواراً مهمة في بلورة التناقضات وحملها الى نهاياتها التناحرية المعروفة.
مناسبة الكلمات هذه، ما نرى من انبعاث الدعوات الصريحة والمبطنة لتجديد التحالف بين الأقليات في وجه الأصولية السنية اللابسة لبوس الجهاد. ومن يقرأ بين سطور تصريحات مسؤولين في دول وأحزاب وتيارات مختلفة في المشرق العربي، يستنتج من دون كبير عناء، أن زعماء الاقليات قد تخففوا في الأعوام الماضية من الرداء الإيديولوجي القومي واليساري وانطلقوا، في مواجهة صعود الإسلام السياسي والممارسات «الجهادية»، في صوغ علاقات جديدة تقوم على تمتين الحماية المتبادلة.
ولا يصح إغفال خطورة ما وفره «الجهاديون» من مقدمات لانبعاث خوف الأقليات وللبحث عن المنعة في الشرق الإيراني بعدما تراجع اهتمام الغرب بمسيحيي المشرق وغيرهم من الأقليات. فالممارسات الإرهابية ضد المسيحيين والصادرة من عمق أزمة المجتمعات العربية وحيرتها حيال الحاضر والحداثة والعلاقة بالعالم، شكلت البضاعة التي روجها قادة شعبويون بين جمهور خائف من الغد.
وليس سراً أن من مكونات البضاعة تلك المزايدة الدائمة على ما يعتبره كثر من العرب قضية مركزية لهم، أي الصراع العربي – الإسرائيلي والقضية الفلسطينية. بيد أن الإفراط في محاولات مصادرة القضية تلك، انعكس سلباً عليها وعلى الشعب الفلسطيني ككل، وأدخل المنطقة في حالة من الاستقطاب المدمر.
هل من مخرج من المأزق هذا؟ ربما تعلن الثورات العربية الجارية اليوم بدايات النهاية لمعضلة العلاقات بين الأقليات والسلطة في المشرق العربي إذا نجحت في بناء سلطات تنطوي على بدائل ديموقراطية للعلاقة المريضة السابقة وتضمن للأقليات حقوقها وحضورها من دون منّة ولا تهويل. لكن ما يدعو الى الحذر وربما إلى التشاؤم أن الأقليات تلك لم تدرك بعد معنى التغييرات التاريخية التي تشهدها المنطقة وما زال رهانها معلقاً على الجانب الخاسر من التاريخ.