حسن بلاسم يعرّي جذور “كارلوس فوينتس” العراقية/ باسم المرعبي
كيف تأتّى لشخص بسيط عُرفَ باسم “سليم عبد الحسين” وبتعليم وعمل متواضعَين أن يتحول سريعاً الى شخص غريب آخر يحمل اسم “كارلوس فوينتس” وينتقل الى مستوىً لم يعهده من الحياة وفقاً للطريقة الأوروبية وبشيء من التطرّف. وامعاناً في قطع كلّ ما يصله بوطنه الأم، فإنه يسعى الى التحكم حتى بأحلامه لطرد ماضيه والتخلّص من كل ما يردّه الى جذوره، وإنْ عبْر الحلم، ومن هنا تبدأ مهزلة عبد الحسين ـ فوينتس ومأساته.
فسليم عبد الحسين، هذا، بطل قصة حسن بلاسم “كوابيس كارلوس فوينتس” ـ من مجموعة “معرض الجثث” ـ منشورات المتوسط 2016، هو أحد عمال النظافة في العاصمة بغداد والمهاجر الى هولندا، الساعي الى الانسلاخ من جلده، إذ في الوقت الذي يقدم أوراقه للحصول على اللجوء، مدّعياً انه كان مترجماً لدى الجيش الأمريكي، وانه يخشى القتل من الجماعات المتطرفة بتهمة الخيانة، كان قد طلب تغيير اسمه الى كارلوس فوينتس بمساعدة من ابن خاله، الحشّاش، اللاجىء هو أيضاً في فرنسا، معللاً هذا الأخير، دعمه له في تغيير الاسم، بقوله، (أن تكون من السنغال أو من الصين، أفضل مائة مرة من أن تحمل في أوروبا اسماً عربياً). وكان عبد الحسين يقدّم نفسه على الدوام على أنه مكسيكي الأصل وقد عرف العراق من خلال اقامته فيه مع والده الذي عمل كمهندس في شركة نفطية، واصفاً العراقيين، بالهمج والمتخلفين، مضيفاً: (انهم مجرد عشائر متوحشة)، وهو ما يُظهر أنه قد اختطّ طريقاً يأخذه بعيداً دون توفر امكانية العودة، كما سيتبيّن لاحقاً.
موضوعة الهوية
“كوابيس كارلوس فوينتس”، هذه القصة التي تعالج بطابع السخرية والمفارقة، وهو هنا يذكّر ـ وهذا لا يعني التأثّر ـ بالكاتب الغواتيمالي، أوغستو مونتيروسو، موضوعة في غاية الأهمية هي موضوعة الهوية، وانشطارها، قد نجحت في تقديم صورة كاريكاتورية لنموذج مهاجر هش يتمثل بشخص سليم عبد الحسين بجشعه ومحدودية افقه وثقافته ليجد نفسه لاحقاً، في غمار صراع نفسي في محيط معقّد غريب عليه، لا قِبل له به، واذا كان انبهار سليم، بدايةً، بكل ما يراه في هولندا من مظاهر حياة ومن ثم مقارنة ذلك بما كان يراه ويعايشه في وطنه، يمتلك قدراً مألوفاً وعادياً من الواقعية، إلا ان المنحى المهووس الذي اتخذته مثل هذه الهواجس والتطرف في الانحياز الى الموطن الجديد، دون أي مساءلة نقدية، مقابل التنكر المرَضي للانتماء الأصل وتوهم الانتماء الجديد، حدّ الذوَبان (كان يشعر أن دمه وجلده قد تبدّلا الى الأبد)، كلّ ذلك قد قاده بالنتيجة الى غرابة الأطوار ومن ثمّ الجنون، وهو نتاج صدمة انتقاله من عالم الى عالم حضاري آخر، مغاير. واذا كانت شخصية سليم تتصف ببعض المزايا الايجابية كاحترامه القانون واجتهاده في العمل، إلا ان هذه الصفات لم تزكّه تماماً أوتشفع له في تجنب مصيره القاتم، لأنها جاءت مختلطة بمثالبه المتمثلة بعدوانيته حيال انتمائه الأول. بموازاة ذلك نحَتْ، بدورها، المعالجة الفنية للقصة منحىً غرائبياً، هذه الغرائبية التي هي، عامّةً، من السمات الاسلوبية التي عُرفَ بها حسن بلاسم والتي تجمع بين سريالية جديدة وواقعية سحرية من جهة، كما تجمع بين اللامعقول والقصص الشعبي والنمط الكافكوي، كما يشير الى ذلك الكاتب السويدي “ينس ليليستراند” في مقال له في صحيفة “أكسبريسن” عن مجموعة “المسيح العراقي” الصادرة بالسويدية. اضافة الى القالب الشفاهي الذي تتخذه، عادةً، قصص بلاسم تجب الاشارة الى الجانب البصري لديه كما في هذه القصة وسواها، وهو جانب يوليه الكاتب عنايته والعمل على ابرازه، وذلك يعود الى دراسته الأكاديمية للسينما وثقافته وتجربته في هذا المضمار. وقد ساعد العنصر البصري سويّةً مع عناصر فنية أُخرى في أن تحقق قصصه جاذبيتها وحضورها لدى قارئه، كما في قصته هذه التي امتازت بالاضافة الى كل ما تقدم بنوع حكايتها وخصوصيتها.
كوابيس عبد الحسين ـ فوينتس
الخاتم الذي يلصّه سليم عبد الحسين من اصبع مقطوعة لرجل يقضي في انفجار في أحد أسواق بغداد، أيام كان يعمل منظفاً في أماكن مخلّفات التفجيرات، سيكون بمثابة البوصلة أو النبوءة التي تشير، بعد سنوات، الى نهايته المأساوية، فحين التقط الخاتم بنِيّة بيعه، ثم احتفظ به لنفسه، لم يكن يعلم انه اتخذ منه تميمة مقلوبة التأثير، فهو قد انتزعه من اصبع رجل تمزق في انفجار، والى ذلك يلمّح الكاتب بشكل ما حين جعل سليم (يشعر بعلاقة روحية سرّية مع الخاتم)، وكأنه يتبنّى فيه مصيره الغامض القادم حين يقضي مهشّم الرأس، بما يُشبه الانتحار، بالقفز من نافذة في الطابق السادس في شقته الهولندية، عبر مزج بارع للكاتب بين الوعي واللاوعي، الحلم واليقظة وبين الارادة واللارادة التي وجّهت بطله لرسم وتنفيذ نهايته هذه. لقد ابتدأت مأساة البطل مع الأحلام الثقيلة التي بدأت تزوره في المنام وهي انعكاس لهواجسه عن وطنه المستحدث ووطنه السابق. وضمن اطار السخرية المعتمَد يقدم الكاتب بطله في مشاهد نومه، تارة بملابس برتقالية شفافية وأُخرى بمعطف صوف سميك ازاء عري زوجته، ومرةً بملابس عسكرية كاملة واضعاً الى جنبه بندقية أطفال بلاستيكية، اعتقاداً منه أن ذلك سيجنبه الكوابيس. في أول حلم ـ كابوس تبدّى له أنه يفقد المقدرة على التحدث باللغة الهولندية فيُضطرّ الى التحدث مع ربّ العمل باللهجة العراقية، وهو ما يكدّره كثيراً، وفي تصعيد كاريكاتوريّ يأتي الكابوس التالي مدوّياً، إذ يحلم انه يفجّر سيارة وسط أمستردام، وهو الذي يعشق هولندا حدّ العبادة! هذا العشق الذي تمثل في تعلمه الهولندية بوقت قياسي أبهر معارفه كذلك حصوله على عمل ورفضه الاعتماد على المساعدة الاجتماعية، كما حرصه على عدم مخالفة القوانين، صغيرة أو كبيرة كانت وبُغضه لمن يفعل ذلك، فكيف به يتورّط في عمل رهيب كإقدامه على التفجير، حتى وإن كان ذلك حلماً، فآثار أحلام كهذه هي التي قادته، واقعاً ورسمت نهايته المجنونة. في المحكمة التي انعقدت لمحاكمته عن حادث التفجير يتم التعامل معه باحتقار ومنعه من التحدث بالهولندية، وما يزيده شعوراً بالحرج والحزن انّ المترجم الذي أحضروه له يطلب منه عدم التحدث بلهجته القروية لأنه لا يفهمها، وهو ما يضاعف عذابه! في الكابوس الأخير الذي قاده الى حتفه وهو الأكثر رمزية في وصف محنة البطل وانسحاقه بين هويتين، متطاحنتين، فقد رأى نفسه يدخل، مسلحاً ببندقية، بناية مأهولة في بغداد تحمل آثار حريق سابق ويأخذ باطلاق النار على كل من يجده من سكانها، بوصفهم ماضيه الذي يريد اعدامه، الى ان يصل الذروة لدى مواجهته نفسه: (لكن حدثت مفاجأة صاعقة في الطابق السادس حين اقتحم أولى شققه، ووجد نفسه أمام سليم عبد الحسين! كان سليم يقف قرب النافذة عارياً، وهو يحمل مكنسة ملطخة بالدم. وبيد مرتجفة صوّب فوينتس باتجاه رأس سليم..)، فيقفز من النافذة دون ان يُصاب باطلاقة واحدة، لينتهي (كارلوس) جثة مهشمة على الرصيف، مُنهياً بذلك الازدواج الذي شظّاه. وفي اشارة رمزية، تظهر من تحت الغطاء الذي تُدثر به الشرطة الجثة، الكف التي تحمل الخاتم بفصّه الذي (كان يشعّ باللون الأحمر.. وكأنه شمس في جهنم)، لكأنّ التركيز على ابراز الخاتم بهذه الطريقة تذكير بالصلة الوحيدة الباقية للبطل مع الماضي أو منه وهي هذا الخاتم المسروق من قتيل آخر، وفي ذلك ادانة صارخة لسلوك وطريقة حياة ونهاية البطل.
ومن ضمن ما أرادت القصة ايصاله، هو أن قتل الماضي، كهاجس، يشترط قتل حامله، وإلّا فمن الاستحالة والعبث أن يتحقّق ذلك، مادام حيّاً، أما بعد الموت فالآخرون يتكفلون بإعادة الامور الى نصابها: (ربما سيغفر فوينتس للصحف الهولندية التي كتبت: “انتحار رجل عراقي ليلاً من الطابق السادس”، بدل أن تكتب “انتحار مواطن هولندي”. لكن فوينتس لن يغفر مطلقاً لأخوته الذين أعادوه الى العراق ودفنوه في مقبرة النجف).
قصة “كوابيس كارلوس فوينتس”، التي كانت مدار هذه القراءة، واحدة من القصص التي ستحتفظ بها ذاكرة الأدب، ولا يمكن لقارئها نسيانها بسبب من توفرها على أسباب ذلك بتكامل محتواها مع صيَغ معالجتها.
عنوان الكتاب: معرض الجثث المؤلف: حسن بلاسم
ضفة ثالثة