حسن عبد العظيم: يوميّات عجوز معتقل
لا تصنع السجون مؤيدين للسلطة. سبع مرات أوقف حسن عبد العظيم، أولها عام 1963 وآخرها مطلع هذا الشهر. في الثمانين من عمره، المبادئ واضحة والنضال مستمر. تصنع السجون أبطالاً. حفيده لا يريد أن يصبح رئيس جمهورية ولا ضابط أمن، بل أن يكون مثل جده
غسان سعود
دمشق | في القبو حيث الزنزانة التي أودع فيها، يحاول مصباح أربعين شمعة أداء دور الشمس، ويحاول آمر السجن أداء دور الله، فيُشرق «الشمس» ويغربها ساعة يريد. عند الثالثة ظهراً، يصل صحن المجدرة و«كاسة» اللبن. سبت، أحد، اثنين، ثلاثاء، كل أيام الأسبوع: الغداء مجدرة والعشاء «راس» بطاطا مسلوق و«دوش» بندورة. لذتهما في كشفهما الوقت للمساجين: حظر الساعة في الزنزانة، يجعل صحن المجدرة ساعة.
من أطول، النهار أم الليل؟ يسأل حسن عبد العظيم نفسه. عنده ثمانون عاماً ليفكر فيها: الطفولة في التل، إنهاؤه في السابعة عشرة دراسته الثانوية وعمله مديراً لمدرسة ابتدائية بموازاة دراسته الحقوق. ولاحقاً انطلاقه في العمل محامياً. يقطع الصور ببعض التمارين الرياضية، منشطاً ذاكرته بترداد أرقام هواتف أصدقائه الأرضية والخلوية.
يفكر بزوجته، الجلطة الدماغية التي أصابتها في 12 رمضان الماضي شلتها جزئياً. يبكي أو لا يبكي؟ ينادي الله ـــــ الله لا السجّان ـــــ أن لا يفجعه بعائلته. ويكمل عدّ الأيام، متفرجاً على نفسه في قبو لا مرآة فيه.
يوم السبت 30 نيسان تأخر عبد العظيم في مغادرة منزله إلى مكتبه باعتبار السبت يوم إجازة. عند الحادية عشرة ودع زوجته ومشى. ما إن أوقف سيارته في المرأب التابع لمؤسسة المياه، حتى هرع إليه جاره يخبره أن «الأمن» سأل عنه. فطمأنه بابتسامته الدائمة إلى أن الإجراء روتينيّ، وغالباً ما يمر رجال الأمن بالمكتب. لكن لم يكد عبد العظيم يجد المفتاح والمكان المخصص له في الباب وينير مكتبه، حتى أطل ثلاثة «عناصر» من خلفه، اثنان منهم يتأبطان رشاشاً أو «ساموبال»، وطلبوا منه أن «تشرف معنا».
إلى أين؟ سأل عبد العظيم. فأجابه أحدهم: «المعلم عازمك ع فنجان قهوة». أي معلم؟ سأل مجدداً. فسمع ما يثنيه عن الأسئلة الإضافية: «بس توصل بتعرف».
وهكذا، بابتسامته نفسها، ودع عبد العظيم جاره وصعد في السيارة البوليسية بين العنصرين المسلحين، فيما جلس الثالث في المقعد الأمامي إلى جانب السائق. وبعد تجوال في مدينة عبد العظيم، اتجه السائق صوب منطقة حرستا، تمهيداً لتوقفه في مركز استخبارات المنطقة الجنوبية.
أنزل من السيارة، قيّد معصماه واقتيد عند مدير السجن ليحجز غرفة. ثم عُصبت عيناه ليدخل عند العميد. أمامه، احتج عبد العظيم على تعصيب العينين. أخبره أنه حين اعتنق مبادئه كان يعلم أنها ستوصله إلى الاعتقال، ولا يفترض بشيء أن يحول دون وضع المحقق، إذا كان يثق بمبادئه، عيناه في عيني من يحقق معه.
سأله المحقق عن نشاطه السياسي، فروى له المسار الطويل منذ انضمامه إلى الاتحاد الاشتراكي العربي برئاسة جمال الأتاسي عام 1964 وحتى انتخابه أميناً عاماً للحزب عام 2010، إضافة إلى انتخابه في العام نفسه ناطقاً باسم التجمع الوطني الديموقراطي، الذي يضم خمسة أحزاب: الحزب الشيوعي السوري برئاسة رياض الترك، حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي برئاسة عبد العظيم، حزب العمال الثوري، حركة الاشتراكيين العرب وحزب البعث العربي الديموقراطي. بقي المحقق هادئاً، لم يتدخل مرة مقاطعاً أو مستفهماً، «طمأنني ذلك إلى سلامة منطقي وصحته»، يقول عبد العظيم. ويروي كيف أخبر المحقق أن التغيير في سوريا حتمي بعد التغيير في مصر، كيف أعلم الأمنيين، الذين فرقوا اعتصامات حزب الاتحاد الاشتراكي تضامناً مع الشعب المصري في مواجهة «الطاغية عراب التسوية مع إسرائيل والانقسام الفلسطيني»، أن الثورة السورية آتية.
لاحقاً في اليوم نفسه، طلب المحقق من عبد العظيم كتابة تقرير عن حزبه ورؤيته لمعالجة الأزمة الحاصلة. فكتب ست صفحات وتوجه إلى الزنزانة. يرى أن وصف الزنزانة بالوسخة أمر كاف. يتغطى وجهه بملامح القرف حين يتذكّر بقايا الأحرمة التي احتفل بعيده الثمانين فوقها. المهم أن الله ألهمه يوم اعتقل فارتدى «كندرة» (حذاء) سميكة، فحول الفردتين لاحقاً بعدما لفهما بسترته إلى وسادة. ما أبشع ما في السجن؟
يسأل نفسه ويصمت مع نفسه. تمر دقائق. يتسلل التوتر إلى أصابع قدميه، فتتحرك «المشاية» التي يرتديها نزولاً وصعوداً. ونوعها بالمناسبة Zilo رغم رسم الـ«بوما» عليها.
يردد أخيراً: «معاملتنا كالحشرات، نعت الموقوفين بالحقراء والكلاب… ضربهم وجلدهم. يُسجن صدى أصوات المعذبين في رؤوس سائر المساجين. كأنها الجدران تؤنبنا: «بدك حرية ولاه كلب؟».
يغرق في الصمت: «حرية، إيه حرية، طالما حذفتم الوحدة والاشتراكية من دولة الوحدة والحرية والاشتراكية، لم يبق لنا ولكم إلا الحرية».
بعد عشرة أيام، حان موعد المغادرة. جالت عيناه في الزنزانة تجمعان الذكريات. تذكر مبادئه: مواجهة الاستبداد أبداً، لكن ثانياً.
أولاً كان وسيبقى في مواجهة إسرائيل ومن يقف في صفها ورفض الاستعانة بالخارج.
خرج كما دخل، لا بل أقوى، يقول عبد العظيم. ابتسم لإشادة رئيس فرع الأمن بوطنيته، نظر في عينيه قائلاً: «نحن وأنتم على مركب واحد، كل له طابقه، لكن إن حاول أحدنا إغراق الآخر نغرق جميعاً». لا هم «طلبوا أن أوقع تعهداً بإيقاف نشاطي السياسي، ولا أنا أوقع».
يستمع حفيد عبد العظيم بشغف لرواية جده. «أنا لست ناصرياً، لكني من حزب جدّي: أريد الحرية».
الأخبار