حسّان عباس: الثقافة أرض لإعادة السلم الأهلي السوريّ
علاء الدين العالم
بالإضافة إلى عمله النقدي والأكاديمي، يعمل الباحث السوريّ د. حسان عباس منذ سنوات على إنتاج المعرفة بالمواطنة ونشر هذه المعرفة، مُنطلقًا من مفهوم محدد للثقافة، وساعيًا إلى نشر ثقافة المواطنة في المجتمع عبر “الرابطة السورية للمواطنة” التي أصبحت فاعلًا ثقافيًا حاضرًا في الحقل الثقافي السوري اليوم، ومن خلال “بيت المواطن” الذي أصدر العديد من المنشورات على مدار السنوات الأخيرة الماضية.
عن تحديات العمل الثقافي، ومفاهيم المواطنة والسلم الأهلي ومواضيع أخرى، كان لـ”ضفة ثالثة” هذا اللقاء مع عباس:
- عملت في الحقل الثقافي السوري منذ سنوات طويلة، كيف توصّف الثقافة السورية اليوم وما هي التغييرات التي تلمستها في “سنين الجمر”؟
-دعنا ننطلق من مفهوم “الثقافة”، وتحديده من وجهة نظري، فأنا لا أرى أن الثقافة تقتصر على إنتاج المعرفة (أفلام، كتب، مسرحيات… إلخ)، إنما هي تشمل مجمل علاقات الإنسان بما يحيط به، وتلك هي الثقافة التي اشتغلت بها وما زلت وسأبقى. انطلاقًا من ذلك، أرى أن كل ما يبنيه الإنسان من علاقات مع الكون هو عن طريق المداخل الأربعة للفرد على العالم (العقل، القلب، الروح، اليد). كل ما يبنيه الإنسان من علاقات مع العالم عبر هذه الأبواب الأربعة هو الثقافة. بهذا المعنى للثقافة، أرى أنه في سورية ــ كما أي مكان آخر في العالم ــ لا يمكن للفرد إلا أن يكون فاعلًا في الثقافة، بمعنى آخر، أن يكون صاحب ثقافة، لذلك تراني أضع كلمة “مثقف” بين قوسين، ولا أعرف على ماذا تدّل كلمة مثقفين، فالفرد الذي لم يكن له أي حظ في التعلم أو في الانتماء إلى أحزاب أو جمعيات لكنه يُنتج من خلال علاقته مع الطبيعة كمزارع أو فلاح، أو من خلال علاقته بالدين أو بالمعتقدات هو فرد مثقف، ولديه نصيب لا يمكن تجاهله من الثقافة. مثال ذلك ما أردده دائما على مسامع طلابي، وهو أن الجدّة التي لم تدخل المدرسة في حياتها والقادرة على إيجاد حل لإطعام ضيوفٍ كثيرين في بيت لا يوجد فيه ما يُطعم شخصًا واحدًا، هذه ثقافة أيضًا، بل هي درجة محترمة من الثقافة. من هذا المنطلَق أرى أن كل الناس مثقفون. إذا انطلقت من هذا المفهوم للثقافة نحو الإجابة عن سؤالك فأقول: إن سورية هي قِمع (مُحقان) حضاري، فهناك ثمان وثلاثون حضارة في سورية، منها ما ولد فيها ومنها ما ترك فيها أثرا لمروره، وفي كل حضارة الكثير من الثقافات، لذلك كان الإنسان السوري حاملًا لثقافات عديدة جدا، لكن أين المشكلة في هذا المجال؟ المشكلة تكمن بأن الإنسان السوري فُرّغ من بعده الثقافي وكان مفروضًا عليه أن يعيش ضمن السطحية السياسية فقط. أخطر ما أقدم عليه نظام الاستبداد في سورية أنه سجن الإنسان السوري بموقع لا ينظر فيه إلا من خلال موقفه السياسي وليس من خلال غناه الثقافي وثروته الثقافية، أتكلم عن الفرد وذلك ينطبق أيضا على الجماعة. في سورية إمكانات ثقافية هائلة قل أن تجدها في العالم، إمكانيات ثقافية أصيلة.
الأمل الذي قدمته الانتفاضة والثورة للسوريين كان سقوط الاستبداد، ما يعني ظهور الثقافة، لأن الاستبداد يقمع المجتمع في كل مفاصله وشرائحه، والحق يقال إن الكثير من الثقافات ظهرت مع سقوط الاستبداد، منها ثقافات طبيعية (قومية ودينية..)، وثقافات جديدة (ثقافة التطوع، وثقافة التشارك، وثقافة العيد الجمعي التي كانت مقيدة، إذ كانت الأعياد الجمعية لا تقوم إلا تحت مراقبة أمنية، من ذلك عيد السيدة في مرمريتا، وهو أحد الأعياد العالمية المتحدرة من أرومة الأعياد الشعبية التي تحتفل بالطبيعة ومن ثم صار ذا طابع ديني. وفقدَ هذا العيد معناه الإنساني وصار عيدًا مسيسًا ومقيدًا، وهذا ما يخنق الثقافة ويقتلها، وقس على ذلك الكثير من الأعياد على امتداد الخارطة السورية. وفي الوقت الذي زالت فيه يد الاستبداد لم يعد هناك جوٌ مناسب للعيد بالتزامن مع التهجير والنفي وما إلى ذلك مما تعرض له الشعب السوري). من جهة أخرى اكتسب السوريون ثقافات أخرى من الأماكن الجديدة التي انتقلوا إليها، وهذا يدفع للقول إن هذا التفاعل الثقافي “قد” يمنح ثقافات للسوريين، لكن هل هذه الثقافات ستكون لسوريين أم ستصبح لأفراد من أصل سوري؟! بعبارة أخرى، هل سيعود السوريون ــ وغالبيتهم من الطبقة الوسطى ــ الذين هاجروا إلى أوروبا في ما بعد إلى سورية وهم يحملون ثقافات تلك البلدان؟ أنا أشك في ذلك.
الخارطة الثقافية
- يعمل د. حسان عباس منذ سنوات على خارطة ثقافية، ما هي خواص هذه الخارطة، وإلى أين وصل مشروع الخارطة اليوم؟
-إن الخارطة الثقافية ليست عملًا أنطولوجيًا أو وصفيًا، يقتصر على تحديد الموارد الثقافية في المجتمع وحسب، بل هي أداة لها ثلاثة مفاعيل أو نتائج، فهي تعتمد على البحث في الموارد الثقافية الموجودة في مكان ما، وحينما نتكلم عن الموارد الثقافية نتحدث عن أربع فئات، وهي: الموارد المادية الثابتة (القصور، الجوامع، الكنائس… إلخ)، الموارد المادية المنقولة (الصناعات اليدوية، التطريز.. إلخ)، الموارد اللامادية وهي الأهم (الشعر، الدين، الأعياد الموسيقى..)، الموارد الطبيعية (الجبال، الغابات.. إلخ). يتعامل الإنسان في كل الثقافات مع هذه الموارد الأربعة بطريقة خاصة هي “الثقافة”، فابن المعتقد الفلاني يتعامل مع الشجر بثقافة معينة، ومع الطعام بثقافة معينة، فمثلا كل الانتماءات الدينية الشعبية في سورية تتعامل مع بعض الأشجار تعاملًا ثقافيًا خاصًا، فشجرة “أطمة” التي اقتلعتها داعش كانت مليئة بالنذر القماشية وهذه النذر لم تكن حكرا على دين دون آخر.
الخارطة الثقافية، وكما ذكرنا، هذا هو الجزء الأول فقط من عملها، إذ بعد تعيين الموارد الثقافية الموجودة في سورية هناك “تفعيل المجتمع المدني”، أعني العمل مع المجتمع المدني لشرح كيفية الاستفادة من هذه الموارد الثقافية من أجل التنمية المحلية أو من أجل بناء السلام المجتمعي، لأعطيك مثالا من المناطق التي يوجد فيها عدد كبير من المغتربين، هذا مورد يمكن الاستفادة منه ثقافيا عبر إقامة متحف للمغتربين يعمل كمركز جامع لعواطف الناس، يرون فيه أصولهم وجوامعهم المشتركة في عذاب الغربة، وبذات الوقت يصبح هذا المتحف مركزًا لذاكرة المنطقة، متحف كهذا لا تقوم به الدول بل يقوم به المجتمع المدني.
البعد الثالث في الخارطة الثقافية بعد تعيين الموارد وتفعيل المجتمع المدني، هو السلم الأهلي، وهو ما نحتاجه اليوم في سورية أكثر من أي وقتٍ مضى، وأكثر من أي أمر آخر، فاليوم إذا بحثنا في مجتمعنا بعد إزالة قشرة الاستبداد سنجد أن الناس متشابهة ولديها هموم مشتركة وأفراح مشتركة، فمثلا كل الثقافات في سورية ــ على اختلافها ــ تجد أنها تتعامل مع نفس الموارد في الطعام، وتشترك بالأمثال الشعبية، ولديها نفس حكايات الأطفال، وتعصر الزيتون بالطرق نفسها، وتغني نفس القوالب الموسيقية الشعبية، وتشترك أحيانا كثيرة بنفس الأماكن المقدسة، إلخ. عندما نبحث جديا في المجتمع السوري سنجد أن هناك الكثير من الموارد الثقافية المشتركة على اختلاف انتماءات أصحابها الثقافية. في “سنين الجمر” كل شيء تدمر، العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في حين لا تزال العلاقات الثقافية تقدم أرضية متماسكة لإعادة بناء سلم أهلي، من ذلك ما كان يحدث بين منطقتي الغاب ووادي النصارى (قبل تجفيف مستنقعات سهل الغاب)، حيث يبيع أهل الغاب السلور المجفف لأهل الوادي ويأخذون الأرز المزروع في وادي النصارى آنذاك. وقس على ذلك الكثير من العلاقات الثقافية الوطيدة بين الثقافات المختلفة القائمة على الأرض السورية.
هذا هو مشروع الخارطة الثقافية الذي أعمل عليه. أما إلى أين وصل هذا المشروع، فأقول آسفا إنه توقف في مكان محدد، فأنا بدأت عام 2009 بخارطة لوادي النصارى، وقدمت التقرير الثقافي عنه للأمانة السورية للتنمية حيث كنت أعمل كمستشار علمي من خارج الأمانة، وذهب المشروع حينها أدراج الرياح. في ما بعد تطور المشروع، لكن نظريًا وعلى الورق، وحتى ينتقل إلى الجانب العملي والتطبيقي فهو بحاجة إلى مؤسسة تحمله، فالخارطة الثقافية لسورية مشروع يحتاج إلى عمل على امتداد ثلاثين عامًا (على الأقل). ففي البداية نحن بحاجة إلى تدريب شباب وإقامة شبكة تقوم بجمع المعلومات الثقافية ولقاء الفعاليات الأهلية المدنية على امتداد سورية، وهذا يحتاج لتمويل ضخم غير متوفر، فلا أحد يهتم اليوم بتمويل الثقافة أو بالسلم الأهلي عبر الثقافة مع الأسف.
إنتاج المعرفة بالمواطنة
- عملت الرابطة السورية للمواطنة في السنين الأخيرة على إعادة تحديد وتعريف المفاهيم الأساسية للمواطنة، كيف تقيّم ما وصلت إليه الرابطة، وهل حقق المشروع أهدافه المرجوة؟
– لنبدأ من الأهداف المرجوة، بالتحديد الهدف البعيد، وهو وجود مواطنة مستقرة في سورية. المواطنة مصطلح “تحشيدي”. مصطلح يُجمع عليه الناس، حاله حال مصطلحات العدالة والمساواة والوطنية، لذلك يستخدمه رجال السياسة ليجمعوا حولهم الأشخاص. في حين أن المواطنة مصطلح حساس، وهذا ما أدركناه حينما بدأنا العمل عليه، وهدفنا كان نشر الدلالة الأكاديمية العلمية وليس السياسية للمواطنة. يحتاج المصطلح إلى دراسة معمقة لتعريف مبادئه الأربعة: (التشاركية، الحرية، المسؤولية، المساواة)، فقمنا بذلك، كما قمنا بتحديد قيم المواطنة وأهمها (التضامن الإنساني، الوعي المدني، الكياسة..)، وسعينا إلى نشر ثقافة المواطنة عبر عمل الرابطة، فأنتجنا في هذا السياق دليل المواطنة الذي يفصّل في جزئه الأول نظريًا هذه المبادئ، ولاحقًا أصدرنا الجزء الثاني العملي الذي يسعى إلى تدريب المؤسسات الناشطة في المجتمع المدني على كيفية نقل هذه الأسس النظرية للمواطنة إلى المجتمع والعمل على تطبيقها. وهذا هو الهدف العام للرابطة بجزأيه: الأول إنتاج المعرفة بالمواطنة والثاني نشر هذه المعرفة، وهذا ما أعمل عليه بشكل فردي منذ عام 1997، وكرابطة منذ ست سنوات بزخم أكبر. حققنا بعض الأهداف عبر تكوين مجموعة من الشباب اكتسبوا هذه المعرفة بالمواطنة عبر تدريب علمي جاد أسس لأرضية وقبول لمفهوم المواطنة، ناهيك عن نشر مجموعة من المطبوعات النظرية التي نوزعها مجانا على الأفراد، ومنها “دليل المواطنة” وكتاب “الذاكرة الجمعية” وغيرهما، والكتيبات التي صدرت ضمن سلسلة التربية المدنية، وهي التي تتكلم عن قضايا في المواطنة، قضايا لم يُتح للشباب السوريين تعلمها لا في الجامعات ولا في المدارس، مثال ذلك كتاب “النظام القضائي في سورية”، فالجهل بالقانون لا يعطي عذرا لأحد وهذا مبدأ أساسي في المواطنة، لذلك، وفي ظل غياب المعرفة القانونية في المناهج السورية، صار لزاما توضيح وتحليل النظام القضائي في سورية بما يتيح نشر معرفة قانونية بين الشباب السوري الذي لم يكن محيطا بالنظام القانوني السوري. وتجدر الإشارة إلى أن مثل هذه الكتيبات التعريفية التي أصدرتها الرابطة هي كتيبات مفتاحية سهلة القراءة نسبيا وهي موجهة إلى شريحة عمرية بين السابعة عشرة والخامسة والثلاثين. حلم الرابطة اليوم في هذا الإطار إصدار كتاب مدرسي يدرس في المدارس عن التربية المدنية والمواطنة، ولكن هذا الحلم غير متاح اليوم.
- منح بيت المواطن فرصة أمام الكثيرين لنشر شهاداتهم عن الانفجار السوري، ما هو تعريف الشهادة من وجهة نظر الرابطة؟
-الشهادة ليست هي التوثيق، وكثيرا ما عُرضت علينا وثائق ومخطوطات للنشر، لكننا اعتذرنا عنها لأننا لسنا مركز توثيق، بل ما نقدمه هو شهادة، يعني كيف عاش هذا الإنسان الأزمة السورية. بعبارة أخرى، ما هو تأثير الانفجار السوري على هذا الفرد سواء عبر حياته الخاصة وعواطفه وكتاباته. لماذا؟ لأن ما نقصده من نشر الشهادة هو إضافة لبنة في بناء الذاكرة الجمعية للمستقبل، ليس لدينا وثائق أدبية كافية لكي يطلع عليها أحد بعد سنوات. ما نهدف إليه من الشهادة هو تعبير حميمي بصيغة أدبية يُروى فيها كيف تأثر هذا الفرد بالحدث العام، وكيف يعي هذا التأثر، وكيف سيتعامل مع هذه الانفعالات، هذا ما يهمنا بالشهادات، وهو جمع أكبر عدد ممكن من الحيوات الفردية التي تأثرت بما جرى ونحافظ عليها للمستقبل لكي تقرأ الأجيال القادمة كيف تأثر أجدادها بما جرى، عساهم ينتبهون ألا يعيدوا الكرة.
هناك حالات من “الأنوية” متضخمة عند كثير من شباب الثورة!
- تعامل أكثر من كاتب مع شهادته الصادرة والمطبوعة في بيت المواطن على أنها عمل أدبي منجَز، أكثر منه شهادة سورية بالمعنى الذي ذكرته الآن، هل ترى هذه الأعمال كذلك؟ وهل تقدم الرابطة “سلسلة شهادات سورية” أم أعمالا أدبية منجزة؟
– من وجهة نظر الرابطة السورية للمواطنة، يجب أن تكون في الشهادة مسحة أدبية، فنحن لسنا معنيين بكتابات نظرية بل بكتابات فيها الكثير من الحميمية والصدق مع الذات، ومن يقرأ إصدارات سلسلة شهادات سورية (22 إصدارًا) سيجد أنه في بعض الكتب شطحات فلسفية أو كتابات صحافية، وهذا ليس مفضلا بالنسبة لنا. كذلك، لا يمكن النظر إلى هذه الشهادات نظرة عمومية، فلكل كتاب صاحب، وهناك حالات من “الأنوية” متضخمة عند الكثير من شباب الثورة، وهذا نوع من الأمراض التي تفرزها الثورات في العالم، وهناك أشخاص يظنون أن مجرد حديثهم هو شعر، لكن من جهتنا، ورغم ذلك، نوافق على نشر أعمال هؤلاء، لأن ذلك برأيي بحد ذاته شهادة، فالشهادة ليست فقط في المحتوى، بل هي أيضا في دراسة الشخص الذي كتب، وبمجرد رصد أسماء الكتاب المشاركين في سلسلة شهادات سورية تظهر لك خارطة الإبداع الجديدة في سورية، من هو مبدع ومن هو ليس بمبدع، فهناك من أصدر كتابا من بيت المواطن وهو مبدع ليس في كتابه المطبوع هنا وحسب بل في كتاباته الأخرى، وهناك من نشر وهو يعتقد أنها درجة صعود ما، وهذا خارج يدنا وليس لنا الحق في محاسبته. واجبنا هو أن لا نرفض أي نص بالنظر إلى رغبات صاحبه وأهوائه أو حسب انتمائه المناطقي أو السياسي أو المذهبي. ما نقيمه فقط هو أن تكون الكتابة جيدة وجدية وفيها يظهر تأثير العام على الخاص، ولاحقا ستفرز حركة الحقل الأدبي السوري الكاتب الحقيقي من الكاتب المتسلق، والشاعر الطارئ من الشاعر المستمر.
لم يبقَ في لبنان إلا بعض الجزر الثقافية السورية
- منذ أعوام انتقلت إلى بيروت، كيف تقيّم العمل الثقافي السوري في بيروت وما هي التحديات التي تواجه عملا كهذا؟
– ما بين 2011 و2014 كان لبنان تربة خصبة لتكوين منصة لحالة إبداعية سورية يستفيد منها بالدرجة الأولى لبنان واللبنانيون، لكن مع منتصف 2014 بدأت القوانين التضييقية على الوجود السوري في لبنان، ومن البداية اتضح أن هذه القوانين ستطاول بالدرجة الأولى الشرائح الوسطى من السوريين المهجّرين قسريا من بلدهم، والتي تضم الأفراد الفاعلين في الأدب والموسيقى والحياة الاجتماعية، وبذلك تأثر الجو الثقافي السوري في لبنان فانكمشت الحركة الثقافية تحت وطأة هذه القوانين. ولم يبقَ في لبنان إلا بعض الجزر الثقافية السورية.
- نشطت المؤسسات المستقلة في الحقل الثقافي السوري بعد الحراك، وانطلاقا من عملك مع المؤسسات المستقلة، ما هو مفهوم الاستقلالية الثقافية، وهل ترى أن هذه المؤسسات حققت الاستقلالية التي تنشدها؟
-أعتقد أن أي منظمة أو مؤسسة تعمل في الثقافة هي بحاجة إلى دم، أي إلى المال، فالثقافة ليست فاعلية وربحية، لكن ما هي درجة الاستقلالية في هذا الشرط الأساسي؟ فأنت تريد أن تنتج شيئًا مستقلًا لكن بحاجة إلى تمويل. إذا أجبر هذا المال المؤسسة الثقافية على التبعية وعدم الاستقلالية فبئس المؤسسة، ما الحل؟ الحل بسيط، المؤسسة الثقافية تبقى مستقلة ويبقى إنتاجها مستقلًا ما دامت لا تعبر في إنتاجها عن هدف يطرحه الممول، وإن قامت المؤسسة على تحقيق أهداف الممول فهي تابعة ثقافية وليست مستقلة، أما إذا أراد الممول تمويلك على مشروعك الثقافي فأهلا وسهلا بالممول، والمحك في ذلك هو صدق القائمين على المؤسسة. الفيصل في قضية الاستقلالية هو مَن السابق؟ إن كان هدف المؤسسة قبل التمويل تتحقق الاستقلالية، وإن كان نتاج المؤسسة على مقاس التمويل لتستمر المؤسسة في عملها فهذا يعني أنها تحولت إلى مؤسسة ربحية ريعية وليست ثقافية مستقلة.
ضفة ثالثة