حظر تجول!
حسام عيتاني
ترتفع في بلدات وقرى لبنانية عدة لافتات كبيرة تحظر على العمال الأجانب، وخصوصاً على السوريين منهم، التجول بين الغروب والفجر.
نصبت المجالس البلدية في القرى تلك اللافتات المتضمنة تحذيرات من عقوبات زاجرة بحق المخالفين الذين قد تسول لهم نفوسهم الخروج من مآويهم بين السابعة مساء والخامسة صباحا، على سبيل المثال، من دون ان تحدد المرجعية القانونية لأي عقوبات قد تتخذها البلديات المذكورة. ووفق ما تحمله التقارير الصحافية، فقد بدأت الظاهرة بخفر في إحدى البلدات القريبة من بيروت، ثم عمت وانتشرت وباتت لافتات العار العنصرية أمراً شائعاً ومألوفاً في الربوع اللبنانية.
يتذرع أصحاب اللافتات بتدهور الوضع الأمني في مناطقهم والزيادة المقلقة لأعمال السرقة والجرائم المختلفة التي يرجعون أسبابها إلى التصاعد المستمر في أعداد اللاجئين السوريين الآتين من بلادهم في ظروف انسانية واجتماعية مذرية نتيجة الثورة والحرب هناك. ويقولون إن القانون اللبناني يطلب من البلديات الحفاظ على الأمن بمنع الاعتداءات على الأموال العامة والخاصة وصون على النظام العام ضمن اراضيها، وإنه لذلك سمح للهيئات المنتخبة في المدن والقرى بتشكيل شرطتها البلدية المخولة السهر على السلامة العامة.
مفهوم أن التزايد الكبير في عدد اللاجئين السوريين، من جهة، وتفاقم الأزمة الاقتصادية المحلية، من جهة ثانية، يضغطان بشدة على الوضع الأمني الذي يوتره أصلاً درجة عالية من القلق على المصير وسط انسداد آفاق العملية السياسية في لبنان. يتجاهل رؤساء البلديات التي رُفعت اللافتات العنصرية فيها هذا التداخل بين عديد من عوامل الانهيار الامني ويحصرونه بوجود اللاجئين السوريين، الحلقة الأضعف في سلسلة المقيمين على الاراضي اللبنانية.
ولم يكن مفاجئاً عند التدقيق في الانتماءات السياسية لأعضاء المجالس البلدية في القرى التي رفعت اللافتات فيها، أن تكون أكثرية كاسحة منهم يوالون “التيار الوطني الحر” بزعامة النائب ميشال عون. الأحرى أن الولاء هذا كان منتظراً ومتوقعاً من دعاة هذا الصنف من العنصرية. يرجع ذلك إلى ما يتجاوز السياسة الحالية التي يتبناها “التيار” والتي يمكن تلخيصها بالانصياع الكامل لضرورات سياسة النظام السوري وانصاره في لبنان، وهي السياسة التي يوجزها “منظرو” التيار العوني بأهمية قيام “تحالف للاقليات” يواجه الأكثرية التي يسيطر عليها الإسلام التكفيري الظلامي.
هذه السياسة، كما سبقت الإشارة ليست كافية لتفسير الموقف العنصري الحاد ضد السوريين والفلسطينيين وغيرهم من المقيمين في لبنان، الذي يتبناه “التيار الوطني الحر”، والذي بات وزراء التيار ونوابه لا يخجلون من التعبير عنه في تصريحات يدلون بها من مقرات تتبع للدولة اللبنانية التي تنبذ، على ما يقول دستورها، كل أشكال التمييز والتفرقة العنصرية والطائفية.
ومعلوم أن التيار المذكور يعود في أصوله الاجتماعية إلى الطبقة المتوسطة المسيحية التي عاشت أفضل أيامها في ظل الجمهورية الأولى بين 1943 و1975، والتي عارضت التمدد الفلسطيني وتحالف اليسار اللبناني معه، ثم حاربت سيطرة ميليشيا “القوات اللبنانية” المؤلفة خصوصاً من أبناء الريف الماروني، على المجتمع المسيحي. وبلغ تمسك هذه المجموعة بماضيها ذروته في رفضها “اتفاق الطائف” عام 1989 الذي وفّر غطاء إنهاء الحرب الاهلية في العام التالي بضربة عسكرية وجهها الجيش السوري إلى جنود رئيس الحكومة العسكرية وقتها، ميشال عون.
تضافرت مرارة الهزيمة العسكرية وقسوة التهميش السياسي الذي مارسه النظام السوري وأتباعه في لبنان خلال التسعينات، لتنتجا نفوراً من كل التبدلات التي جرت في الأعوام الماضية ولتدفعا العونيين إلى توهم القدرة على إعادة عقارب الزمن إلى الوراء من خلال تحالفهم مع “حزب الله” القوة العسكرية والأمنية المهيمنة على البلاد ومع النظام السوري، عدوهم السابق، وتحت شعار “استعادة حقوق المسيحيين”.
ومن دون الخوض في شرح خواء هذا الشعار من المعنى في ظل موازين القوى السياسية والطائفية في لبنان اليوم، ينبغي القول إن العنصرية التي يعبر عنها عدد لا يستهان به من اللبنانيين حيال بعضهم البعض، أولاً، وحيال كل مختلف عنهم، ثانياً، ليست حكراً على أنصار ميشال عون. بل الأقرب إلى المنطق أن علتها موجودة في التركيبة الهشة للاجتماع اللبناني الذي يبالغ في الحديث عن فضائله كمحاولة للتهرب من علاج نواقصه الفادحة.
وهذه سمة تتجاوز خطوط الانقسام السياسي، لا ريب في ذلك، لكن يمكن العثورعلى علامتها الأوضح عند جمهور يشعر بقلة إمكاناته الذاتية ولا يجد إلا الاستقواء بمن كان يراهم أعداء له وسيلة لاستعادة مكانة زائلة. الدونية تجاه الحلفاء الجدد لا بد أن تنقلب عنصرية وتعالياً على الضعفاء واللاجئين الذين يمنعهم من التجول في نعيمه الوهمي.
موقع 24