حقوق الإنسان: المناسبة سنوية والخطاب عتيق مكرور/ صبحي حديدي
كعادتها، في مثل هذه الأوقات من كلّ عام، ومنذ 1977، تنشر وزارة الخارجية الأمريكية تقريرها السنوي حول أوضاع حقوق الإنسان في العالم خلال السنة المنصرمة؛ وهو تقرير يُعدّ بناء على طلب الكونغرس الأمريكي، للاستعانة بمعطياته في تحديد سياسة المعونات الخارجية. وسنة 2013 شهدت ‘انتهاكات فظيعة’، كما تقول مقدّمة التقرير، وقصب السبق فيها عُقد لنظام بشار الأسد، فخصّه وزير الخارجية جون كيري بإشارة استهلال في خطبة تقديم التقرير؛ وكذلك فعلت أوزرا زيّا، القائمة بأعمال مساعد وزير الخارجية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل؛ كما تحدثت الفقرة الأولى من التقرير عن المجزرة الكيميائية التي تعرّضت لها الغوطة، فجر 21 آب (أغسطس) الماضي، وأشارت إلى أنّ الهجمة هذه أسفرت عن 1429 ضحية، بينهم 426 طفلاً.
وفي الفصل المخصص لسوريا، يتحدث التقرير عن ‘حرب أهلية بدأت سنة 2012، وما تزال متواصلة’، وإحدى نتائجها انقسام البلد إلى ‘محافظات ساحلية’ يسيطر عليها النظام، وأخرى شمالية ووسطى تسيطر عليها ‘معارضة متشرذمة’، إضافة إلى ‘مناطق متنازع عليها’ في الشمال الشرقي حيث الأغلبية السكانية الكردية. وإذْ يصف التقرير ما يمارسه النظام من انتهاكات ‘كلاسيكية’ لحقوق الإنسان، من اعتقال وتعذيب وخطف واغتصاب، بأيدي قوّات النظام الموالية، أو الميليشيات و’الشبيحة’؛ فإنه يضيف إليها حصار المدن وأشكال القصف بمختلف الأسلحة، بما في ذلك صواريخ الـ’سكود’ والبراميل المتفجرة؛ ولا يوفّر بعض فصائل المعارضة المسلحة من حيث الانتهاكات، وخاصة أعمال المحاكم الشرعية. كما يشير التقرير إلى أكثر من 125 ألف ضحية، و2.2 مليون لاجىء مسجّلين في لوائح الأمم المتحدة، وأكثر من 6,5 مليون شخص هُجّروا داخلياً وبعيداً عن أماكن إقاماتهم الأصلية.
غير أنّ ما يفتقر إليه تقرير 2013، هو ذاك الذي افتقرت إليه التقارير السابقة جميعها، وبدرجات متفاوتة: المصداقية الأخلاقية في ربط انتهاكات حقوق الإنسان بجذورها السياسية، من جهة؛ وما إذا كانت سياسات الولايات المتحدة، في هذا المضمار تحديداً، مسؤولة مباشرة عن تآكل تلك المصداقية، من جانب آخر. والمنصت إلى السيدة زيا، هذا العام، يخال إليه أنه أنصت إلى منطوق كلامها سابقاً، ومراراً؛ كما جرى قبلئذ على لسان سلفها مايكل بوسنر، أيام هيلاري كلنتون وباراك أوباما؛ أو زميلتها الأسلف عهداً باولا دوبريانسكي، أيام كوندوليزا رايس وإدارة جورج بوش الابن… وكما أنّ بوسنر، في المنصب الرسمي، كان شخصية أخرى لا تشبه، إلا في الاسم والملامح الفيزيائية، الشخص الذي سبق له أن فضح الممارسات البربرية في سجنَيْ غوانتانامو وأبو غريب، ومثلها ‘السجون الطائرة’، ومعسكرات الإعتقال السرية هنا وهناك في العالم؛ فإنّ السيدة زيا، الباحثة السابقة في شؤون الإسلام، ليست نفسها التي تشغل المنصب الرسمي اليوم.
وبالطبع، كما هي العادة العتيقة، يكون شاغل المنصب طليق اللسان وهو يتابع هجاء انتهاكات حقوق الإنسان في الصين وإيران وكوبا، واتساع نزعات العداء للسامية في أوروبا والشرق الأوسط، والتضييق على المرأة في أفغانستان والصومال والسودان (ولكن ليس باللهجة ذاتها عند الحديث عن حقوق المرأة في السعودية!)، واتساع رقعة الدول التي تعتمد عقوبة الإعدام (وكأنّ أمريكا ذاتها ليست دولة إعدامات بامتياز: في ولاية تكساس، وحدها!). وجرياً، كذلك، على عادة أخرى عتيقة، يعيد المسؤول التذكير بالقاعدة التي تقول إنّ تقارير أوضاع حقوق الإنسان التي تصدرها وزارة الخارجية ليست ‘وثيقة لاعتماد خطّ سياسي’، بل هي محض ‘أساس تُصاغ في ضوئه السياسات’؛ وهو ‘نقطة ابتداء، وليس نقطة انتهاء’.
وكيف للمرء ألا يتفرّس في الحاضر على مرآة الماضي القريب، فيستعيد تلك البلاغة الظافرة التي طفحت في خُطَب مسؤولين سابقين، في مناسبات مماثلة لإطلاق التقرير السنوي، وخاصة الحديث عن ولادة جديدة لحقوق الإنسان بأثر من ‘ثورة زهرية’ في جورجيا، و’ثورة برتقالية’ في أوكرانيا، و’ثورة أرجوانية’ في العراق، و’ثورة الأرز′ في لبنان، و’ثورة الميدان’ في مصر…؟ ورغم أنّ أحداً، أغلب الظنّ، لم يدرك تماماً سبب اختيار اللون الأرجواني للعراق، يومذاك؛ فإنّ مآلات الزهري والبرتقالي والأرزي صارت معروفة، مثيرة للشفقة على أهلها، أو الشماتة في المراهنين على أمريكا ضمن صفوف منظّريها.
ومن المأثور أن يستسهل المسؤول الأمريكي عن هذا الملفّ تحديداً، أي السياسة خلف حقوق الإنسان، خلط الحابل بالنابل، بحيث تُنتقد مستويات احترام حقوق الإنسان في روسيا وبيلاروسيا وكوبا والصين وكوريا الشمالية وبورما ولاوس وفييتنام وزيمبابوي وإيران والسودان ومصر والأردن وسورية والسعودية… وكأنها أنظمة متماثلة متشابهة. أو تختلط عليه الأمور، دون أن يخلطها بنفسه، كما حين لوّح مايكل كوزاك، سلف بوسنر في مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، بفرض عقوبات اقتصادية على بعض الدول، بينها الصين و…السعودية! أو، في تنويع ثالث، أن تكون ‘الموضة’ الرائجة هي تشجيع الرئيس الإيراني حسن روحاني، فيتهدج صوت السيدة زيا وهي تعلن الخطوط الرئيسية لتقرير 2013، فتمتدح ما أنجزته إيران من تقدّم على صعيد احترام حقوق الإنسان!
ولأنّ الولايات المتحدة، وهي الدولة ذات النظام الديمقراطي العريق، لم تكن في أيّ يوم أفضل مَنْ يعطي البشرية الدروس والعظات والتقارير المفصلة حول احترام حقوق الإنسان؛ فإنّ خطابها الرسمي حول انتهاكات حقوق الإنسان في العالم، سوف يتفادى مسمّيات مثل ‘سجن غوانتانامو’ أو ‘سجن أبو غريب’، والأرجح أنه سوف يصمّ أذنيه تماماً عن أسئلة أخرى تتناول ‘تصدير’ المعتقلين من قواعد أمريكا العسكرية إلى دكتاتوريات شرق ـ أوسطية شتى، تتولّى التحقيق معهم بوسائل قذرة لا يبيحها الدستور الأمريكي. ولسوف يتفادى، تماماً كما فعلت السيدة زيا، الخوض في تفاصيل الانتهاكات الإسرائيلية، مقابل الإسهاب في انتهاكات السلطة الوطنية في رام الله، و’حماس′ في غزّة…
غير أنّ موضوع الصين تحديداً ظلّ الكاشف الأعظم لمعظم ما يكتنف الخطاب الأمريكي من نفاق حول مسائل حقوق الإنسان، وهكذا يظلّ اليوم أيضاً. ففي مطلع العام 2000 صارت الصين ‘الأمّة الأكثر تفضيلاً’ في ميادين التجارة والتبادل، بموجب تشريع خاصّ خرج من تحت قبّة الكابيتول. وكان ‘الفوز بالثلاثة’، أو هكذا تقتضي الترجمة الأكثر تواضعاً لتعبير Win-Win-Win، هو الحصيلة التي اختارها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون لوصف جملة البروتوكولات التجارية التي جرى توقيعها مع الصين الشعبية أثناء زيارة الرئيس الصيني السابق جيانغ زيمن للولايات المتحدة. بالثلاثة، أو بالضربة القاضية التي تُقاس بمليارات الدولارات، وبهبوط دراماتيكي في مؤشرات العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين الشعبية، والذي كان آنذاك قد قفز كثيراً لصالح هذه الأخيرة.
ولم يكن بالأمر المألوف أن تنقلب تلك المعدّلات لصالح الولايات المتحدة بين زيارة وضحاها فقط، خصوصاً وأنّ المسألة تتصل بأمّة ليست كالأمم العادية: أعداد سكانها تُحسب بالمليارات وليس بالملايين كما هي حال الأمم، وموقعها الجغرافي يجعلها على حدود مشتركة مع 15 دولة دفعة واحدة، واقتصادها ينفلت من عقاله يوماً بعد يوم ويستهلك الأعمال والأشغال.
ومع ذلك، أو ربما بسبب من ذلك تحديداً، اعتبر كلينتون أنّ الصين هي ‘الأمّة التي تقف في الجانب الخاطئ من التاريخ’، وكان يقف على يسار نظيره الصيني في مؤتمرهما الصحافي المشترك! ولكن… مَنْ الذي يؤرّقه التناقض، حتى إذا كان صريحاً صارخاً، بين الوقوف خارج التاريخ في ميادين حقوق الإنسان والحرّيات والليبرالية، والصعود على كتفَيْ التاريخ في مسائل العقود والتجارة والاستثمار؟
لا أحد كما يبدو، باستثناء حفنة مئات من المنشقين وأبناء التيبت والدالاي لاما، وباستثناء الرهط المحدود المعتاد من جوقة التطبيل والتزمير في ‘واشنطن بوست’ و’نيويورك تايمز′ و’لوس أنجلس تايمز′، حيث تتواصل معزوفات الحرب الباردة والعداء المقدّس للشيوعية، كأننا بالفعل في الحقبة الخاطئة من التاريخ وليس الجانب الخاطىء منه فحسب.
وهكذا اكتفى سيد البيت الأبيض باستخدام العبارة ـ المسمار التي تضع الصين في الجانب الخاطىء من التاريخ بالمعنى السياسي والحقوقي الأمريكي، وانتقل فوراً وبحماس رسولي إلى العبارات الأهمّ التي تضع الصين في الجوانب الأدسم من التجارة والأعمال والأشغال.
براغماتية أمريكية، كانت تلاقيها براغماتية صينية. الحال ذاتها صارت ناظم العلاقات الأمريكية ـ الصينية حين وقعت حادثة احتجاز طائرة التجسس الأمريكية في الصين، مطلع عهد جورج بوش الابن. لقد بدا واضحاً أنّ الأعمال والتجارة والمال، وليس العقائد والنظريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، هي التي تحكم وتتحكّم، وإليها احتكم الطرفان في نهاية المطاف. وبدا أكثر وضوحاً أنّ قواعد العلاقات مع القوى العظمى ليست معقدة شائكة، بل هي في حال الصين بالغة البساطة: في وسع ساكن البيت الأبيض (أوباما، مثلاً) أن يستقبل الدالاي لاما؛ وليس من حرج على تقارير حقوق الإنسان في انتقاد الصين، وإقصائها إلى الجوانب الخاطئة من التاريخ؛ ولكن لا أثر لهذه أو تلك على متابعة عقود التبادل والتجارة والاستثمار، ولا عاقبة سلبية، ولا تعكير لصفاء المال والأعمال.
وهكذا فإنّ مجزرة الغوطة، خاصة؛ والممارسات الفاشية للنظام السوري، كما تبارى المسؤولون الأمريكيون في توصيفها على خلفية انتهاك حقوق الإنسان؛ تندرج في سياقات مماثلة من الإدانة اللفظية، الموسمية، التي لا تمثّل ‘وثيقة خطّ سياسي’، لأنّ التقرير السنوي هو في أفضل الأحوال ‘أساس تُصاغ في ضوئه السياسات’.
وما ينطبق على الصين، في الميادين البراغماتية كافة، ينطبق كذلك على روسيا؛ مع تعديلات طفيفة هنا وهناك، تخصّ ركائز توصف بالـ’جديدة’، في حين أنها ليست عتيقة مستهلَكة فحسب، بل مفتقرة إلى الحدّ الأدنى من معنى الصلاحية التاريخية. على سبيل المثال، ما معنى ‘الانخراط المبدئي’، الذي يقوم على فهم العالم، في ضوء الملفّ السوري الذي يهيمن على تقرير 2013؟ ما معنى إخضاع جميع الحكومات، بما في ذلك الحكومة الأمريكية، إلى ‘معيار كوني واحد’؟ و’الالتزام بالوفاء للحقيقة’؟
وما الجديد، حقاً، في هذه ‘الركائز′؟ وأين: في سوريا، أم في مصر، أم في أوكرانيا، أم في فلسطين…؟ إلا إذا كانت هذه، بدورها، تدخل في صميم ‘انخراط مبدئي’ لعلّه أرقى أنماط التواصل بين حكومات أتقنت، وتواصل اتقان، الفصل الذرائعي بين الغاية والوسيلة؛ فلا ترى في الأولى إلا أعظم مبرّرات الثانية، سواء بسواء!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس