صفحات الثقافة

الديكتاتور لا يتقاعد/ علي أنوزلا

 

 

هل يتقاعد الديكتاتور؟ التاريخ يعلمنا أن السلطة تغويه، حتى تستنزف قواه، فتخنقه بين ذراعيها. الرواية تقول إن تقاعد الديكتاتور يتحول إلى نوع من الجنون بالعظمة، والإيمان بالخلود الأبدي في الحياة والسلطة. والرائع غابرييل غارسيا ماركيز كتب رواية عن خريف الديكتاتور، تخيل فيها أن ديكتاتوره عندما يصاب بالخَرف لن يجد من يصارحه بالحقيقة سوى شبح بلا رأس وبلا جسد، يقول له “اخرج إلى الشارع وجابه الحقيقة، يا صاحب السمو، إننا نقترب من المنعطف الأخير”، غير أن الواقع، اليوم، في صحراء عالمنا العربي تَفَوَّقَ على خيال الرواية، فالديكتاتور، عندنا، تحول إلى شبح لا يسمع سوى صدى غروره.

وبعيداً عن التاريخ والرواية، وقريباً منا، يؤكد لنا الواقع المعاصر أن ديكتاتوراً، مثل فيديل كاسترو، ما زال يحكم جزيرته المحاصرة من فراش مرضه، على الرغم من تنازله، مرغماً بسبب المرض، عن السلطة لشقيقه. أما واقعنا العربي المُرّ فيدحض كل ادعاءات الكتب التراثية التي كانت تقول إن الفينيق طائر أسطوري لا وجود له. ظهر في أيامنا هذه ما يشبه هذا الطائر الأسطوري في اليمن السعيد. هذا الكائن الغريب ليس سوى ديكتاتور اليمن الذي لا يريد أن يتقاعد، بعد أن عاد من موت مؤكد. إنه ديكتاتور اليمن السابق، علي عبد الله صالح، الذي خرج ذات يوم من رماد حريق مسجد قصره، ورأينا صوره على المواقع الاجتماعية ممدداً، مثل مومياء فرعونية، تنتظر التحنيط. وقبل أيام، فاجأتنا صورته وهو يرأس اجتماعا لأركان حزبه، ويقرر عزل الرئيس الذي لم يكن سوى ظله الذي كان يحركه من خلف ستائر السلطة، مثل أشباح أفلام الرعب.

لو تُرك الديكتاتور لسلاح القبائل، لانتهى مرمياً بالرصاص في الساحات العمومية. ولو تُرك لغضب الحراك الشعبي، لنهشت لحمه الجماهير الغاضبة، مثلما نُهش ديكتاتور آخر من قبله هو معمر القذافي. ولو تُرك الديكتاتور لشباب الساحات، والعدالة الانتقالية للثورة الموؤودة، لكان انتهى سجيناً وراء القضبان.

أي شيء من هذا لم يحصل. فقد تدخل المال الخليجي لإنقاذ الديكتاتور من الموت مرتين: مرة عندما تولى تطبيبه ومعالجته من حروقه المميتة. ومرة أخرى عندما ساعد على إخراجه من قصره مثل فاتح منتصر. اليوم ديكتاتور اليمن العائد من موته المتعدد، يستعير مقولة شمشون الأسطوري، ويحذر الجميع “علي وعلى أعدائي”! ما أشبه مآل علي عبد الله صالح بمآل شمشون الذي فُقِئت عيناه، فقرر هدم المعبد على أعدائه، وعلى نفسه. وتقول كتب التراث إن عدد الموتى الذين أماتهم شمشون في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته!

ومثل ديكتاتور محمود درويش في قصيدته “خطاب الديكتاتور”، يخير صالح شعبه بين “استمرار بقائه أو زوال البلد”. فلسانه يردد ما جاء على لسان ديكتاتور قصيدة درويش: “إن السلام المقام على الاعتراف بغيري ظلم، فلابد من نصف سلم، ولابد من نصف حرب، لأحفظ شعبي، وأحفظ حكمي”.

يقول بطريرك غارسيا ماركيز في ذروة خريفه: “أعيش أنا ويموت ضحاياي”، إنه صدى صوت ديكتاتور اليمن، كان ينقصه فقط أن يُصدر قراراً رِئاسياً بكتابة هذه الجملة، كما أمر بطريرك الرواية على جدران المراحيض العمومية، وفي كل زواريب اليمن البئيس بقادته.

إنه عقل الديكتاتور، إن كان فعلاً للديكتاتور عقل يستعيد التفكير به، عندما يكون هو غيره أو نقيضه، كما يحصل في فيلم “الديكتاتور العظيم” لتشارلي تشابلن. في هذا الفيلم الرائع، يجسد تشابلن دور شبيه الديكتاتور، وعندما يُطلب منه إلقاء خطبة أمام جنرالاته وجنوده، يرتجل خطبة عصماء تكشف عن الوجه النقيض للديكتاتور، والوجه الحقيقي للإنسان. في تلك الخطبة، يستشهد تشابلن بمقولة من الكتاب المقدس، تقول “مملكة الرب هي في الرجل”، لكنه يشرح لجنوده أن الأمر لا يتعلق برجل واحد، وإنما بجميع الرجال، أي بالشعب. فمتى يظهر في صحرائنا العربية مثل هذا الدكتاتور المزيف، حتى لو كان شبيه الديكتاتور؟ المهم أن يكون نقيضه في التفكير. فقد سئمت الشعوب من ديكتاتورييها الحقيقيين، فالحياة معهم، كما يقول درويش، “ضجر في ضجر”، بينما الحياة “مغامرة مذهلة”، كما يقول تشابلن مخاطباً شعبه!

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى