حمزة الخطيب ومأمون فندي: بين شهيد وبهلوان
صبحي حديدي
مأمون فندي ـ الأكاديمي الأمريكي المصريّ الولادة، رئيس مركز أبحاث “فندي وشركاه” في واشنطن ـ يريد الإيحاء بأنه رقيق الحاشية، نبيل المشاعر، مرهف الأحاسيس، تمسّ شغاف قلبه مشاهد العنف على شاشة تلفزة… ولهذا فقد عاب على فضائية “الجزيرة” أنها عرضت صور حمزة علي الخطيب، الطفل السوري الذي استُشهد على أيدي وحوش النظام السوري، بعد تعذيبه وإطلاق النار على جسده، والتمثيل بجثته. وفي مقال بعنوان “الجزيرة والطفل السوري المشوّه”، نشرته صحيفة “الشرق الأوسط” قبل أيام، كتب فندي: “عرض صورة طفل بهذا التشويه في وضح النهار والأطفال في حالة صحو، هو أمر مناف لأي أخلاق مهنية ومسيء إلى مشاعر المشاهدين، فلا توجد قناة محترمة في أي مكان من العالم تعرض هذه الصورة (…) مما جعل بعض من كنت أشاهد معهم الشريط يتقيأون حرفياً”!
هذا الإعتراض قد يكون قابلاً للنقاش في حالة واحدة، وحصرية ربما، هي أن يُبنى على انحياز أخلاقي مسبق، صريح جلي ولا لبس فيه، إلى صفّ الضحية، ضدّ الجلاد؛ وإلا فإنّ الإعتراض ينقلب إلى نقيضه، فيتجاوز الرأي، حتى إذا كان نفاقاً وسفسطة، إلى التواطؤ مع قاتل يحدث أنه نظام استبداد وفساد لم يعد يتورّع عن فعل همجي، ضدّ قتيل طفل لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره. ما يفعله فندي هو هذا بالضبط، إذْ يسأل “الجزيرة”: هل لديكم “مبرّر تحريري قوي” لعرض هذه الصور؟ ألا تعرفون أنّ “قنوات تلفزيونية محترمة” (والبروفيسور يضرب مثالَيْ الـ”بي بي سي” والـ”سي إن إن”)، لا يمكن أن تعرض هذه المشاهد؟ ما أدراكم أنّ الطفل قُتل على يد النظام؟ وكيف تأكدتم أنه قُتل في سورية؟ هل حصلتم على موافقة أهله حين عرضتم الصور؟ وإذا صحّ أنه قُتل في سورية، أما كان عليكم انتظار خروج بشار الأسد نفسه للتعليق على الصورة، وتأكيد أو نفي صحتها؟
ولا يخفى أنّ فندي يستهدف فضائية “الجزيرة”، كدأبه في مقالات عديدة، فضلاً عن كتابه “حرب كلمات غير مدنية: وسائل الإعلام والسياسة في العالم العربي”؛ غير أنّ تصفية الحساب مع فضائية، أو حتى مع بلد، لا تصلح البتة ستاراً يخفي السقطة الأخلاقية الفاضحة التي انحدر إليها فندي. مشاهد الطفل الشهيد (و”الجزيرة”، للعلم، عرضت أقلّها وطأة على المشاهدين) أفظع في نقل همجية النظام، وأقدس في تسجيل تضحيات الشعب السوري، وأولى في أبسط مسوّغات توثيق جرائم الحرب، وأهمّ في فرض “مبرّر تحريري قوي”… من أن يحيلها بروفيسور منافق إلى أسئلة زائفة أقرب إلى ألعاب حواة. لم يستخدم فندي سوى مفردة “المشوّه” في وصف الطفل حمزة، ولم يبدِ أيّ تعاطف مع القضية التي استُشهد الطفل من أجلها، كما اعتبر عرض الصور بمثابة “حضّ على العنف ونشر الكراهية”، وكأنه استعار لسان طالب إبراهيم وبسام أبو عبد الله وسواهما من أبواق النظام.
وأجدني أستعيد، هنا، لعبة حواة أخرى لجأ إليها فندي بعيد الغزو العسكري الأمريكي للعراق، سنة 2003: لقد عاد إلى “الأطلال”، قصيدة الشاعر المصري إبراهيم ناجي، التي كُتبت في العقود الأولى من القرن المنصرم، ليقول إنّ أمّ كلثوم غنّتها على سبيل هجاء الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، بعد هزيمة سنة 1967! ليس هذا فقط، بل ذهب فندي أبعد حين قارن فكرة الأطلال عند ناجي وأم كلثوم، بسقوط صنم صدّام حسين في بغداد. وفي صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، دون سواها، اقتبس الشطر الأوّل من الأغنية (“كان صرحاً من خيال فهوى”)، ليستنتج بأنّ “الصورة تحمل المعنى ذاته الذي حملته في العالم العربي قبل 36 سنة. والصور التلفزية تُظهر اليوم تماثيل وملصقات صدّام حسين وهي تُدمّر”!
أليس من المعيب أن يسوق بروفيسور محترم (أو هكذا ينبغي أن يكون) كلّ هذا التسطيح والتجهيل والمجانية والخداع؟ ألم يجد، من أجل تأويل مشاهد تحطيم تمثال صدّام حسين، سوى التشنيع على عبد الناصر؟ ألم يكن في وسعه أن يدغدغ رغائب محرّري “نيويورك تايمز”، قبل قرّائها في واقع الأمر، بفذلكة أخرى غير هذه الخلطة العجيبة؟ وما علاقة قصيدة عاطفية رومانسية، بهزيمة عسكرية ـ سياسية ستقع بعد عقود من كتابة القصيدة؟ وهل نفهم أنّ أمّ كلثوم كانت ضدّ عبد الناصر؟ وفي هذه الحال، ما تفسير البروفيسور لأغنية مثل “والله زمان يا سلاحي”، أو “أصبح عندي الآن بندقية”؟
أغلب الظنّ أنّ أسئلة كهذه لا تعني البروفيسور، ولا توقظ ضميره من سبات، ففي ممارسة رياضة تشويه الحقائق، أو قلبها واستقلابها واختزالها، يلهث فندي خلف عدّاء آخر (أشطر بكثير في الواقع، وأعتق، وأمهر، وأمضى أسلحة) هو اللبناني فؤاد عجمي؛ الذي يلهث بدوره خلف برنارد لويس، كبيرهم الذي يعلّمهم أصول الإستشراق العامل في خدمة البنتاغون، حرفياً وليس مجازاً، وصاحب اللقب الطريف والبغيض في آن: “بطريرك الإسلام”. أمّا مشاهد الطفل الشهيد حمزة الخطيب فإنها لم تخدش حياء البروفيسور في واقع الأمر، بل ألصقت به وصمة عار هيهات أن يمحوها بهلوان!