حمص: خريطة القلب
الياس خوري
صار للحرية مدينتها. هناك على ضفاف العاصي، كتب السوريات والسوريون، اسم بلادهم بالأغاني والدم والدموع. قررت حمص ان تكون خريطة القلب، محولة سهل الغاب الى ملتقى الأوردة التي تنبض بالحلم والحرية.
في حمص، وتحت دوي القصف المجنون، يرتكب الطغاة خطأهم الأخير والقاتل. هنا في مدينة خــــالد بن الوليد يصنع الشعب السوري ملحمة صموده، قبل ان يجرف الطوفان سدّ الديكتاتورية، ويطيح به.
عندما بدأت الثورة السورية في درعا، ورغم مقتلة الأطفال التي كشفت عن وحشية آلة القمع البعثية- الأسدية، كان السوريون يحلمون بأن تكون ثورتهم حركة شعبية سلمية، تطيح بالسلطة الاستبدادية، من دون تدمير الدولة. فارتفعت شعارات عن وحدة الجيش والشعب، وقام المناضلون بتوزيع الماء على الجنود، كما جرى في داريا حين قاد الشهيد غياث مطر عملية توزيع الماء والورد بنفسه. لكن آلة القتل لم تكتف بقتل غياث مطر، بل قامت بتشويه جثته كي تقول ان القمع اعمى، وان البربرية بلا حدود، وان آلة الدولة قادرة على منافسة المغول في تجبّرها ووحشيتها.
لا لم يكن في متخيل الثوار الوصول الى بحر الدم الذي تغرق فيه اليوم البلاد السورية. ولم يكن في استطاعتـــــنا ان نتخيل ان آلة القمع لم تتعلم شيئا من دروس التاريخ، ولم تتعظ من مصائر الديكـــتاتوريات في تونس وليبيا ومصر. وكنا على خطأ، او كنا نتوهم بأننا نستطيع ان نعبر هذه الكأس المريرة، متجاهلين ان المافيا لا تعرف ان تتكلم سوى بلسان واحد هو القوة والتجبّر والاستعلاء على الدماء.
لم يكن غناء القاشوش دعوة للموت الذي ذاقه على ضفاف العاصي في حماه، بل كان اعلان ايمان بالحياة. ولم ينشد الساروت لبحر الدم الذي يحاصره ويحاصر رفاقه في حمص. كان الأمل هو ان تنجح حناجر السوريين في ان تفتح ابواب السماء، وتجعل النظام يشعر بعزلته ويضبّ اغراضه ويرحل عن شعب يريد ان يستعيد كرامته بعد عقود من المهانة والذلّ.
لكن كيف يمكن ان تتم مواجهة متكائفة بين من يُدافع عن القيم وبين من يدوس القيم بحذائه؟
لن نتوقف عند اكاذيب آلة القمع التي تشكو من المسلحين المنتشرين في ازقة حمص، وتعتبرهم خارجين عن القانون. فأين كان القانون قبل ان تبدأ انشقاقات الجيش وقبل ان يرتفع اي سلاح للدفاع عن الناس؟
في الماضي القريب حين استباحوا اطفال درعا وقال مسؤول الأمن في المدينة ما قاله، موجها الاهانات للناس في شرفها، كانت المسألة لا تتعدى مجموعة من كتابات الأطفال على حائط مدرستهم. ومع ذلك استبيح جسد حمزة الخطيب، ومزقت اجساد الأطفال.
لا لن نصدّق نظاما خبرته ثلاثة شعوب عربية، وخبرت قمعه وكذبه ووحشيته. الفلسطينيون لن ينسوا تل الزعتر، واللبنانيون لن ينسوا عنجر وكل المذابح، والسوريون لم ينسوا حماه ولن ينسوا اليوم كيف يقتلون ويعذبون ويهانون.
كل ثورة تتخذ لنفسها اسماً، الثورة السورية الكبرى تسمت بجبل العرب والغوطة، والثورة التونسية تسمت بسيدي بوزيد، والثورة المصرية تسمت بميدان التحرير، واليوم تأخذ الثورة السورية اسمها من مدينة حمص.
مدينة التضحية والأضاحي، مدينة الشهداء الأحياء والشهداء الأموات، ومدينة الشعراء. كلما ورد اسم حمص تذكرت شاعرها ديك الجن وحبيبته ورد، ورأيت امامي كيف تتلّون الكلمات بمعجزتي الحب والشعر وقد تخمّرا بالموت.
حمص تحت النار، المدينة التي نجت من وحشية تيمورلنك عبر ادعاء الجنون، مثلما تقول الحكاية الأسطورية، تجد نفسها اليوم وحيدة بين مدن العرب، وحدها تصرخ بهتاف الحرية الأخير: ‘الموت ولا المذلة’. وحدها تقاوم القصف حيث تنحني المباني على المباني، ويفترس الركام الأرواح.
حمص لن تستسلم، تحترق ولا ترفع الراية البيضاء، هكذا كنا يا بيروت عام 1982، نراك كيف كنت تحترقين وترفضين ان ترفعي الراية البيضاء امام زحف الوحش المعدني الاسرائيلي. وانت يا حمص تحترقين ايضا وتنزفين امام هول القصف المغولي الجديد، لكنك لا تستسلمين.
الحكاية لا يمكن قراءتها في ترسيمة اللعبة السياسية التي تبدو مليئة بالكذب والحيل ومحاولات التذاكي.
المسألة في سورية ليست لعبة امم كما يحاولون تصويرها، او كما يحاولون احتواءها، انها ثورة شعب. هذا ما لم يفهمه الساسة الروس وهم يحاولون ترقيع نفوذهم بخطاب سياسي ينتمي الى القرن التاسع عشر، وهذا ما لا يريد الامريكيون فهمه، وهم يتخبطون في محاولة احتواء مدّ ثوري عربي لم يتوقعه احد وكانوا ضد احتمالاته.
المهم ان تفهم النخب السياسية السورية واقع الثورة، وتتصرف على هذا الأساس، وتنصرف الى دعم الداخل الثائر بكل الوسائل، وترفض كل خطاب طائفي او يشتم منه رائحة التعبئة الطائفية لأنه خطاب قاتل.
الحكاية ان الاستبداد لا مبدأ له سوى البقاء، وهو مستعد ان يبيع كل شيء من اجل هذا الهدف.
البقاء والتسلط والقهر، هذا هو مبدأ الاستبداد الوحيد.
لذلك كانت حمص، بشجاعة ابنائها وصبرهم وصمودهم هي اعلان عن ان الشعب استعاد حريته وكرامته.
تصنع حمص ايقاعها من نبضات القلوب.
وقلوبنا تنبض معك وبك ولك ايتها المدينة العظيمة بين المدن.
القدس العربي