حمص… منزلنا الأول/ صهيب أيوب
لم تكن بيروت تعني لنا شيئاً، في حين كنا نزور سوريا في الشهر مرتين. نأخذ طريق العبودية الى حمص عبر سيارة أجرة من وسط ساحة التل. كانت الطريق من العبدة في أسوأ احوالها قبل ان تعرف عكار ملامح الدولة. تتعثر السيارة البيضاء الملوّحة بخطوط رملية متعرجة في سيرها. نصرخ نحن الأولاد بخفة في مقعدها الخلفي. كأننا في احتفال استثنائي لم نشهد مثله من قبل. لا يسكتنا الا العطش ووفرة الحر، فكنا “نزرزب” من عبوات ماء “الدراكيش” التي تشتريها أمي من سائق آتٍ من اللاذقية في موقف السيارات الملاصق لقصر نوفل.
كنت أفضّل الجلوس دوماً قرب الشباك. أتبرد من الحر تاركاً يديّ تسرحان في هواء الطريق. فيقضي شقيقي محمد محشوراً وسط المقعد. يحاول عبر زجاج السيارة الخلفي استكشاف ما فاته، لكنه سرعان ما يضجر، فيستسلم للنوم. لم تكن أمي تسمح لي إلا بفتح نصف زجاج الشباك المتسخ. انظر الى الاشجار الباسقة على طرفي الطريق في قرى وبلدات كنا نرى بيوتها الاسمنتية ضئيلة في أراض شاسعة. ونسأل باستغراب عن اولادها المخفيين في الحقول. نندهش حين تصادفنا خيام البدو قرب مطار رينيه معوض المهجور، أو حين نلمح اطفالهم حفاة وشبه عراة يلوحون لنا بأيد خائبة.
كنا نصل الى حمص بعد رحلة مجهدة. تتكبد أمي مشقتها وحيدة. فتدخل منديلاً من القماش الى رقبتها وتمسح العرق. فيما أبي يحكي عن حكم الأسد الأب مع السائق المستمع بصمت. وينتهي الحديث قبل الوصول الى حاجز العبودية. فيشغل السائق شريطاً لأغاني فيروز. يبرز أبي اوراقنا بهدوء الى عنصر سوري، يناوله ورقة نقدية، كي لا يفتش امتعتنا. وفور وصولنا الى حمص، كنا نتناول الغداء في مطعم ومنتزه الأهرام. نستقل من بعدها، بعد الحاح من شقيقي ومني، سيارة اجرة الى بيت خالتي في قلعة الحصن.
كانت القلعة متعة حياتنا حينها. نقضي فيها معظم ايامنا السورية. فأمي التي لم تولد في سوريا، لا يزال بعض اولاد عمومتها وعماتها يعيشون في القلعة وبعضهم في تلكلخ. كنا ننام في الطبقة الثانية من بيت خالتي. خصصت غرفها لممثلين ومسرحيين كانوا يؤدون حفلات ومهرجانات وادواراً لمسلسلات تصور في القلعة التاريخية. وداخل الغرف، كنا نتقاسم الأسرة الواسعة والنظيفة، والمرفقة بشراشف منشاة وبيضاء ناصعة.
متعتنا لم تكن في زيارة القلعة بحد ذاتها، على قدر ما تمنحه لنا جولاتنا. نقضي نهاراتنا الطويلة في المشي على الاقدام من القلعة الى “الشندوف” وصولاً الى قرى مرمريتا وصافيتا.
يومها لم نكن غرباء عن هؤلاء. وكنا نتسكع مع اولاد خالتي ورفاقهم وبعض الاصدقاء من حارة النصارى، الذين تربطهم صلات قربى بالمطرب جورج وسوف، والذي بقي رمز البلدة بمسيحييها ومسلميها الى أجل قريب.
نصل بنزهاتنا الطويلة الى السد، الذي اشتهر يومها بسد حافظ الأسد. نرخي اجسامنا في مياهه. ونرتدي ألبستنا باستعجال كي نعود بسرعة. كان النهار ينتهي ونحن نركض متوحلين وثيابنا متسخة من رمال الطرق التي لم يصل اليها الاسفلت. ننام “مبطوحين” من التعب. ونستيقظ قبل الجميع، لاحضار الحليب من الحجة نادرة. كانت خالتي ترسل معنا اكوازاً من الرمان الحلو اليها. نبقى لنصف ساعة نجول على الدكاكين بأبوابها الخشبية القديمة. ننظر الى النسوة اللواتي يعرفن اننا اولاد ديبة وسلمى اللتين تزوجتا في طرابلس. كانت دوماً ما تسألنا احدى النسوة بلهجة اهل الحصن عن أمي وماذا حل بأخوتي في السفر.
لم نكن نعرف عن هؤلاء النسوة سوى انهن مسيحيات. وانهن صديقات أمي وخالتي. فكن يزرن بيتها عصراً. لم نكن نلمحهن الا قليلاً، مشغولين في رحلاتنا الشاقة الى “مقاصف” ونزل الحصن المتفرقة. حين كان صهر خالتي يملك معظمها مع شقيقه الذي ادخل السجن فترة عام وخرج معطوباً.
لم تكن زياراتنا السورية تتوقف عند قلعة الحصن رغم متعتها. كنا نسافر في الايام التالية عند الخامسة فجراً في “فان” مكتظ بالمسافرين الى اللاذقية. ننام يومين عند زوجة خال أمي في شقة ضيقة ومشمسة. حيث كان يطيب لأمي البقاء هناك متذكرة والدتها، التي بقي أقارب والدي “يعايرون” امي بأصول جدتي العلوية. كنا نعبر من هناك الى بانياس ونأكل الكنافة بجبنة، التي كنا نفرقها عن طعم الكنافة الطرابلسية لحدّة جبنتها وسكرّها المكثف. لكننا نعود الى حمص كأنها منزلنا الأول. يشتري أبي كل شيء من اسواقها القديمة، في سوق البزرباشي والمعصرة والعبي وآغا خان مونتنا وحلوياتنا وثيابنا ودفاترنا حتى بذور بعض شتلات البندورة والخيار كان يأتي بها من هناك.
لم نعرف بيروت يوماً كما عرفنا حمص. لم نزر بيروت في طفولتنا الا مرات قليلة، لكننا حفظنا سوريا مثل ما حفظنا آيات القرآن حينها. كان أبي يطلب في رحلاتنا تلك ان نسمعه اياها مع تجويد دقيق، مشدداً على احرف التفخيم والقلقلة. يومها لم نكن نعرف سوى أن بيروت هي مشقة المعاملات الرسمية ومكان خدمة أخي في الجيش، والمطار الذي يسرق اخوتي الى المهجر. كانت حمص متعتنا وكلما اقتربنا منها أحسسنا أننا في منزلنا الأول.
المدن