حوار مع سمير العيطة :عام على الثورة في سوريا
1 ـ بداية .. كيف تقيّم وضع وحال الثورة السورية بعد مرور عام على قيامها..؟
ثلاثة أمور أساسيّة ميّزت السنة الأخيرة التي عاشتها سوريا. أوّلها أنّ سلطة تقوم على عائلة الأسد مستعدّة لسفك دماء السوريين ولاضطهادهم دون هوادة للإبقاء على هيمنتها على البلاد، وأنّها لم تتوان عن استثارة العنف والطائفيّة والتدخّلات الأجنبيّة كي لا ترحل إلاّ إذا زالت سوريا كدولة وشعب من الوجود. وثانيها أنّ “التسونامي الشبابي” للسوريين قد فرض نفسه في إرادته لتغيير واقعه ومستقبله، وأنّ هذه الإرادة كانت أقوى وأكثر ثباتاً من السلطة القائمة، بحيث خلقت استعصاءً لا يمكن معه العودة إلى أوضاع ما قبل 2011، وقبول حلول واهية تشابه تلك في مصر قبل سقوط سلطة عائلة مبارك. وقد أثبت السوريّون، وخاصّة جيل الشباب منهم أنّهم حقّاً أحرار، لأنّ من يقف أشهراً طويلة ينادي سلميّاً بالتغيير في وجه الرصاص الحيّ هو في جوهره إنسان حرّ. ثالثهما، أنّ الشعب السوري قد أثبت مناعة طويلة في مواجهة دفعه للانزلاق نحو العنف والطائفيّة من قبل السلطة القائمة كما من قبل القوى الخارجيّة، إقليميّة كانت أم قوى عظمى.
أمّا اليوم، فأبرز ما يميّز الوضع هو الاستعصاء والفوضى العارمة في البلد. لا السلطة ولا الحراك قادران على الحسم، في حين انفلت الوضع السياسي والأمني والمعيشي والاقتصادي من أيدي جميع السوريين.
البارز سياسيّاً هو تدويل الأزمة السوريّة، وخروجها من يد كلّ الكيانات السياسيّة سلطةً ومعارضة. هكذا أضحى الملفّ السوري في مجلس الأمن، عرضة للتجاذبات بين الدول الأعضاء الدائمة. وأصبحت طريقة رحيل السلطة رهناً بقرار روسيا والصين، ومن ورائهما إيران؛ وبات الضغط على السلطة عبر العقوبات أو التسليح رهناً بتوافقات غريماتها، بمن فيها قطر والسعودية وتركيا. نعم أقول إنّ طريقة رحيل السلطة هي حقّاً رهان هذه التجاذبات، لأنّه لا يمكن لروسيا والصين الاستمرار طويلاً على إبقاء السلطة في سوريا على ما هي عليه، خاصّة بعد كلّ الدم الذي سفك. وخاصّة أيضاً أنّ بعض الدول المتجمّعة فيما يسمّى “أصدقاء سوريا” تدفع إلى تسليح فئات في المعارضة، ممّا يهدّد بانفجار داخليّ يضع استقرار المنطقة برمّتها على المحكّ. وهنا يقع صلب مهمّة وسيط الأمم المتحدة والجامعة العربيّة، كوفي أنان، في إيجاد توافق دوليّ حول طريقة لرحيل النظام، إن نجح، أو مواكبة للانفجار الداخليّ، إن فشل.
أيضاً تبرز اليوم بداية إنهاك حقيقيّ للمجتمع ومؤسّسات الدولة في سوريا. حتماً يأتي الإنهاك من جرّاء وحشيّة القمع والحصار. إلاّ أنّ الحملات الإعلاميّة على القنوات التابعة للسلطة وتلك المناوئة لها على السواء، قد ساهمت كثيراً في استنزاف مخزون التضامن الكبير لدى الشعب السوري، ودفعت مشاعر أبنائه أكثر نحو الطائفيّة والإقصاء والانتقام، بحيث انزلقت ثورة ضدّ سلطة استبداديّة ذات طابع عائليّ رويداً رويداً لدى البعض إلى نزاعٍ بين فئات في المجتمع؛ بل حتّى تحوّل تهجّم فئات معارضة على فئات أخرى إلى أولويّة، بدل توحيد الجهود من أجل التغيير؛ وتحّولت الوطنيّة المشهودة للسوريين إلى استعانة واستقواء بالأجنبيّ. هكذا أنهكت الاستفزازات الطائفيّة التي قامت بها السلطة، ثمّ أجّجتها قوى خارجيّة، قدرات المجتمع المدنيّ وعقلاء المجتمع الأهلي على احتواء الفتن. وأنهكت العقوبات الاقتصادية الشاملة، غير الموجّهة إلى عناصر السلطة، قدرات التعاضد الشعبيّ، فاتحة للمال السياسي مجالاً لاجتذاب أطراف إلى جانبه. كما أنهكت هذه العقوبات آليّات الدولة مهدّدة إيّاها بالانهيار. وأهمّ من ذلك، زجّت السلطة بالجيش السوري في معركة ضدّ شعبه، بحيث تمّ إنهاك هذا الجيش، مقتحماً مدناً وقرى المرّة تلو الأخرى دون جدوى، وفاقداً هو أيضاً الكثير من الشهداء، وانشقّ منه من رفض إطلاق النار على أهله وبات في حربٍ مع أشقّائه.
ما يميّز الوضع الداخليّ في سوريا هو بداية الانزلاق نحو الفوضى. إذ عدا القتل والتنكيل، هناك مناطق كثيرة خرجت عن سلطة الدولة، ولم تشكّل جميعها هيئات محليّة ترعى مصالح أبنائها وتوحّد جهود مقاومة الاستبداد؛ وجرى تهجير داخليّ كبير للسكّان في مناطق مثل حمص وجسر الشغور وإدلب وحوران؛ وأصبحت الطرق الرئيسة غير آمنة، تقطعها حواجز لقوّات موالية أو معارضة أو لمجموعات متنوّعة؛ وتجري اعتداءات مختلفة على أرواح الناس وحقوقهم، فاختطاف الرهائن أصبح شيئاً يوميّاً؛ وانهار ما بقي من القانون في الدولة، حيث تزوّر وثائق ويتمّ اختلاس ممتلكات؛ وينهار الاقتصاد النظامي تاركاً المجال واسعاً أمام كلّ أعمال الاستغلال الاقتصادي وغير الشرعيّ.
الشعب السوري غاضب. انتفض الشباب والمجتمع من أجل الحرية والكرامة والعدالة، ودفعوا الغالي، شهداء وجرحى ومعتقلين، ولكن لا يبدو انتصار قيم الحريّة والكرامة والعدالة بعد واضحاً في الأفق. قال البعض على وسائل الإعلام أنّ النصر سيكون سهلاً، وسيأتي في عيد الفطر الماضي، ثمّ في نهاية عام 2011، وبعدها مع العيد السنوي الأوّل، ولكنّه لم يأتِ بعد. ووقف سوريوّن آخرون متخوّفين من أن تستغلّ قوى خارجيّة الانتفاضة الشعبيّة لإضعاف البلد، وأنّ السلطة ستصلح وستراجع مواقفها حماية للوطن، لكنّهم لم يروا أيضاً سوى استهتاراً بأرواح أبناء البلد وجيشه وتمسّكاً بالسلطة واستطالة للأزمة ومزيداً من القتل والتنكيل والفوضى والتدخّل الخارجي. واستفادت قوى خارجيّة من الفوضى لتحاول السيطرة على مصير البلاد.
الشعب السوري غاضب. بات كلّ أبنائه يعرفون اليوم أن لا عودة إلى الوراء، فهناك دمّ غال قد بذل، لكنّ السلطة الاستبداديّة ذات الطابع العائليّ قرّرت أن تضيعهم شعباً ووطناً قبل أن ترحل. كما قرّرت قوى خارجيّة أن تطيل أزمته وتجعل بلاده أرضاً تصّفي حساباتها عليه. النظام القائم سقط عمليّاً منذ أشهر، إلاّ أنّ النظام البديل لم يظهر بعد، ذلك الذي يحفظ وحدة الشعب السوري، وينظّم رحيل السلطة الحالية.
دعني أخيراً أعود إلى قضيّة تأريخ الثورة. انطلقت أوّل مظاهرة عفويّة في دمشق في 17 شباط 2011، وأعلنت أنّ “الشعب السوري لا يذلّ”. ثمّ جاء النداء لانطلاق الثورة في 15 آذار 2011؛ إلاّ أنّ اللحظة الأساسيّة كانت يوم “جمعة الكرامة” حين هبّ أهل درعا وحوران ضدّ الظلم والقتل في 18 آذار. التاريخ مهمّ، لأنّ ما حصل في سوريا تأرجح بين الانتفاضة والثورة، وما زال، في حين أنّ الثورة هي التي ترسّخ قيم الحرية والكرامة والعدالة ووحدة الشعب السوري.
2 ـ اذا حاولنا ان ننظر الى خارطة الوضع السوري من جميع جوانبها .. كيف ترى المعارضة اليوم .. أين اخطات .. واين أصابت ..وهل يعني تشرذمها انها ضعيفة .. وبالتالي هل إمكانية سحقها ممكنة .. ؟
انتفاضات “الربيع العربي” كلّها هي تفجّر لطاقات المجتمع المدني ضدّ استبداد متجسّد في عائلة وضعت نفسها فوق الدولة. إنّها لحظة من التاريخ العربي والإنساني، تأتي خاصّة نتيجة “المدّ الشبابي”، موجة وصول أجيال شابّة إلى سنّ الوعي والعمل، أضحت تشكّل غالبيّة المجتمع وتريد تغيير أسس المجتمع والدولة. ويكمن الطابع “الثوريّ” بالضبط في إرادة التغيير هذه.
لكن لا علاقة للمعارضة السياسيّة بهذه الثورة، لا في سوريا ولا في غيرها من الدول العربيّة. بعض عناصرها لحق بثورة المجتمع، ولكنّه لم يقدها، وبقي دون مسؤوليّة اللحظة التاريخيّة التي يفرضها هذا التحوّل العظيم. المجتمع المدنيّ هو محرّك هذه الثورة، فهو الذي غرس قيمها في سوريا منذ “ربيع دمشق”، وأوصل قيمها إلى حاملها الشعبيّ، وخاصّة مكوّنه الشبابي.
أبرز ما يميّز المعارضة السياسيّة اليوم ليس تشرذمها، بل عدم اتفاقها على برنامجٍ حدّ أدنى يضع صورة توافقيّة لسوريا المستقبل وللمرحلة الانتقالية. إذ من الطبيعي أن تتشكّل هذه المعارضة من توجّهات مختلفة، لكنّ المسؤولية التاريخيّة التي كانت منوطة أمامها دعماً لانتفاضة المجتمع وتسريعاً لرحيل السلطة القائمة، هي وضع ذاتيّاتها جانباً والإصرار على خلق هذا التوافق. لكنّ كلّ المحاولات فشلت، في سلسلة المؤتمرات التي شهدتها قطر وتركيا والقاهرة. إذ اعتمدت بعض الجهات السياسيّة فكرة أنّها تستطيع أن تسيطر وحدها على مستقبل سوريا.
الشيء الوحيد المتّفق عليه اليوم بين أطياف المعارضة هو أنّ الهدف المنشود هو الوصول إلى دولة “مدنيّة ديموقراطية”. ولكن من الواضح أنّ الاتفاق على هذا الهدف غير كافٍ، بل سمح عدم الذهاب إلى وضع أسس دستوريّة أكثر وضوحاً لسوريا المستقبل، التي أفضّل أن أسميّها دولة “المواطنة والحريّات”، والسبيل للوصول إليها، سمح بكلّ التفسيرات والالتباسات وبحملات تخوين متبادلة بين أطياف المعارضة السياسيّة. ويحزنني فعلاً كيف ذهبت هذه الأطياف تبحث عن اعتراف دوليّ، حتّى على أنّها بديل الدولة السورية وحدها، بدل النقاش بينها والتوافق لتوضيح صورة البلاد التوافقيّة وسبل دفع السلطة إلى الرحيل. بالتالي ساهمت هذه المعارضة بكلّ أطيافها في تدويل قضيّة الشعب السوري، واقعة بالضبط في الفخّ الذي نصبته لها السلطة.
يتحجّج بعض السياسيين المعارضين أنّ هذا التشرذم وعدم التوافق ينتج عن أربعين سنة من الاستبداد. هذه الحجّة واهية برأيي، إذ ما منعه الاستبداد هو السياسة السياسويّة والتنافس، وبقي الوقت متسّعاً أمام السياسة النبيلة، تلك التي تبحث عن التوافقات وعن الأسس المشتركة وعن دعم حركة المجتمع نحو الحريّة والكرامة. وأمثلة ذلك في سوريا كثيرة، أهمّها “إعلان دمشق” في صيغته الأولى، الذي رسّخ توافق سياسيّ حتّى بين مكوّنات مختلفة جدّاً إيديولوجيّاً، من الشيوعيين إلى الإخوان المسلمين، الذين كانوا يخضعون حينها لخطر الحكم عليهم بالإعدام. وفي الحقيقة، تستخدم حجّة أنّ الاستبداد هو سبب مشاكل المعارضة الحالية للتغطية على التهرّب من المهمّة الأساسية في البحث عن التوافقات، بل لمحاولة السيطرة على الثورة من قبل البعض.
ويؤسفني جدّاً أنّ المعارضة لم تعرف كيف تستفيد من الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها السلطة لربط مختلف أطياف الشعب السوري بمشروعها، حتّى تلك الخائفة من التغيير. بل ما يؤسفني أكثر أنّ المعارضة السياسية ارتكبت أخطاء أكبر، استغلّتها السلطة لتأجيل رحيلها وزيادة معاناة السوريين.
ومن أبرز ما يميّز المعارضة السياسيّة السورية أيضاً هو أنّه بالرغم من الإمكانيات المتاحة والوقت، لم تنظّم هيكليّاتها على أسسٍ متينة وديموقراطية، حتّى داخلها. بقيت الأمور هلاميّة، ومرتبطة بأفراد وذاتيّات، أو بتنظيمات معيّنة، دون ضبط لآليّات اتخاذ القرارات الجماعيّة والالتزام بها، ودون ضبط للآليّات المالية والرقابة الداخليّة، حتّى لما يخصّ قضايا الإغاثة. في حين من المفترض أن تشكّل هذه المعارضة مثالاً لسوريا المستقبل الديموقراطية.
هناك أيضاً مشاكل أخرى في المعارضة السياسية، لعلّ من أهمّها أنّ أغلب ما يظهرون في وسائل الإعلام هم معارضون لا يقيمون أصلاً في سورية، بل ربّما لم يزوروها في السنين الماضية إلاّ نادراً. وهذه مشكلة حقيقيّة صعبة الحلّ، بالنسبة لبلدٍ عدد مغتربيه كبير. فهل يقرّر المغتربون هم مصير المقيمين؟ حتّى لو كانوا يعينونهم اليوم في محنتهم.
المعارضة السياسيّة إذاً ضعيفة، والمجتمع هو القويّ وهو الذي يثبت إرادته على الأرض. والعلامة على ذلك هو الانتقادات الواسعة التي يوجّهها المنتفضون إلى جميع أطياف المعارضة، بمن فيها المجلس الوطني بعد أن كان تشكيله قد فتح آمالاً كبيرة. إنّ هذا المجتمع لم يعد ممكناً سحقه، حتّى لو كسبت السلطة آنيّاً جولةً هنا أو هناك. وحين سيأتي رحيل السلطة، نتيجة توافق دوليّ كما هو الأمر اليوم، هذا المجتمع هو الذي سيقرّر من يثق بهم ليقودوا المرحلة الانتقالية، وعلى الأغلب سيكون هؤلاء من الوجوه التي ليست الأبرز إعلاميّاً أو من قادة تنظيمات المعارضة الحاليّة. إلاّ أنّ المرحلة الانتقاليّة ستكون صعبة جدّاً.
يبقى أنّ توحيد المعارضة هو مطلب وطني للكثيرين، وهو ضروريّ للمرحلة الانتقالية، ويجب إيجاد الآليّات اللازمة له ولو لتشكيل نوع من نواة لمجلس تأسيسيّ. إلاّ أنّ هذا الأمر يحتاج أيضاً لتوافق دوليّ. فانقسام المعارضة يأتي في الحقيقة نتيجة للمواجهات الدوليّة، ولو أراد “المجتمع الدولي” حقّاً أن تتوحّد المعارضة، لتوحّدت منذ زمن.
3 ـ من اهم النقاط الخلافية بين اطراف المعارضة ..دعوات البعض الى التدخل الأجنبي .. والى التسلح .. كيف تنظر الى هذه النقاط ..وهل تراها دعوة الى تجييش المعارضة وإنهاء طابعها السلمي ..؟
أخذت قضيّة الدعوة إلى التدخّل العسكريّ الأجنبيّ أو رفضه حيّزاً كبيراً من الخلافات لأشهر، في حين لم تكن هناك، وليس هناك اليوم، أيّ دولة خارجيّة مستعدّة للقيام بهكذا تدخّل. هذا شيءٌ لافت، نتج لجزءٍ كبير منه ممّا شهدته ليبيا، والتدخّل الأجنبيّ الواضح فيها منذ اللحظات الأولى لانطلاق انتفاضتها ضدّ عائلة القذّافي. وكانت ليبيا هي فعلاً لحظة انحراف أساسي “للربيع العربي” بالقياس إلى المرحلة الأولى التي شهدت رحيل بن علي ومبارك. بل أنّ حالتي ليبيا والبحرين قد شكّلتا سويّة منعطفاً، تمّ عنده المزج بين انتفاضات الشعوب وبين محاولة تجيير مصير البلدان المتحوّلة لمصالح خارجيّة عبر التدخّل العسكري المباشر.
لم تجرؤ المعارضة السياسيّة في سوريا أن تقول صراحة أنّ التدّخل العسكريّ الأجنبيّ غير مطروح، حتّى لخلق مناطق عازلة أو ممرّات آمنة أو غير ذلك. بل أشاع بعضها أوهاماً أنّ هذا يمكن أن يحدث، ممّا خلق إحباطاً تلو الإحباط لمن يعاني القمع والتنكيل. هكذا تمّ دفع تسمية الجمعات والهتافات دوماً إلى المزيد من المزايدة في هذا الشأن (فما معنى تسمية جمعة “التدخّل العسكري الفوريّ” غير الإحباط). وفي المقابل، زايدت فئات معارضة أخرى على موضوع رفض التدخّل الخارجي، انطلاقاً من أنّ معظم الشعب السوري يخشى أنّ يكون مصيره ما حدث في العراق من جرّاء التدّخل العسكري الأمريكيّ أو ما يحصل اليوم في ليبيا.
دفع بعض المعارضين بعيداً بالمطالبة بالتدخّل العسكري الخارجي، رغم وضوح أنّه يقسم المجتمع السوريّ، ويزيد من نسبة المتخوّفين من التغيير. فبدل أن تتمّ الإهابة بهؤلاء بأنّهم هم مسؤولون كغيرهم من السوريين عن حماية المدنيين، كمسؤولية وطنيّة وإنسانيّة، ومحاولة كسبهم لصفّ الثورة، بات هناك من يطالب حيناً بضربة عسكريّة تركيّة، وحيناً آخر بتدّخل من حلف الأطلسي… لحماية المدنيين. وقد لعبت القنوات الفضائيّة لعبة في تأجيج هذا السجال القاتل، مخصّصة بالضبط للمعارضين الذين يصرخون بهذه المطالبات الحيّز الأكبر من برامجها. ذروة هذه الحملة رافق المبادرة العربيّة، التي صمّمت أساساً لخفض وتيرة عنف السلطة للسماح للحراك السلميّ بأن يقوى ويتوسّع. وأتت المهاترات الإعلاميّة عمّا قاله هذا المراقب العربيّ أو ذاك، في حين أنّ ما كان مهمّاً هو فقط تواجد المراقبين في الأماكن الساخنة، كي لا تقوم السلطة بما فعلته في بابا عمرو. وكأنّ ما كان يراد هو بالضبط ترسيخ هذا السجال العقيم حول التدخّل العسكري للدفع نحو العنف ولإطالة الأزمة ودفع البلاد نحو الفوضى.
بل أنّ الخطاب الإعلامي قد انزلق نحو الحديث عن “احتلالٍ” في سوريا، لتبرير عمليّة “تحرير” من قبل قوى خارجيّة. الأمر قمعٌ ووحشيّة وقتل وتنكيل ولكنّه ليس “احتلالاً”، بما يعني ضمنيّاً أنّ فئة من السوريين ليست سورية وتحتلّ الأخرى. مع أنّ محصّلة ما فعلته السلطة بالبلاد من فوضى بدأ فعلاً يشابه ما صنعه الجيش الأمريكي في العراق.
وعرف موضوع التسليح مساراً مماثلاً. إذ في حين استنكر الجميع قتل المتظاهرين السلميين، ظهر مبكراً موضوع قتلى الجيش والأمن والشبيحة كموضوعٍ خلافيّ لدى بعض أطياف المعارضة ووسائل الإعلام المناوئة للسلطة. رفض كثير من هؤلاء حتّى مقولة أنّ هناك من يقتل على الجانب الآخر، واتّهم كلّ من يتحدّث بالأمر بخيانة الثورة. وقد ساهم هذا في زيادة الشرخ، وكأنّه يجب عليك كي تكون داعماً لثورة الشعب ألاّ تقول حقيقة ما يجري. وفي فترة ثانية، اجتمعت كلّ أطياف المعارضة على الحقّ المشروع في الدفاع عن النفس، ولكن هنا أيضاً ظهر شرخ بين من أصرّ على إبقاء سلميّة الثورة باعتبارها الأساس واستخدام السلاح هو الاستثناء، وبين من يعتبر أنّه لا يمكن إسقاط النظام سوى بالوسائل العسكريّة. وكذلك هو الأمر بالنسبة “للجيش السوريّ الحرّ”، فهل هو رمز المقاومة الشعبيّة أم نواة لجيش وطنيّ جديد؟
المشكلة في طروحات التدخّل الأجنبيّ والتسليح هذه، أنّ من كان يدافع عنها لم يكن يعي ما تعنيه حقّاً، أو يبقي قصداً الالتباس لدفع الثورة نحو الإحباط كي تحقّق النبوءة ذاتها، ويتمّ الانزلاق في الفخّ الذي نصبته السلطة. فما تعنيه “الممرّات الآمنة” سوى تدّخلاً عسكريّاً أجنبيّاً… يؤّمنها؟ وما معنى المناداة بالتدخّل العسكري إذا لم يكن هناك أحد يضمن ماذا سيفعله هذا التدخّل بعد أن يقضي على الجيش السوري؟ وماذا ستكون البلد بعد ذلك، إذا غدت مسرحاً للاقتتال الداخليّ كما ليبيا اليوم؟
في كلّ هذا، تكمن المعضلة أساساً في العلاقة بين السياسة، وخاصّة لدى سياسيي المعارضة، وبين وسائل الإعلام. فهذه الأخيرة، أقلّ ما يمكن أن يقال عنها أنّها تهتمّ بالإثارة حتّى لو كان ذلك على حساب المصداقيّة، وتتصوّر أنّها هي التي تصنع السياسة والسياسيين والتوجّهات، وكأنّها ليست هي أصلاً من صنع سياسات وحكومات معيّنة. أمّا سياسيّو المعارضة فقد وقع معظمهم في فخّ هذه الإثارة، موافقين على كلّ ما تقول وسائل الإعلام أنّه رأي الشارع، دون أن يأخذوا حتّى قناعاتهم الأساسيّة بعين الاعتبار. بربّكم، من يجب أن يقود من؟ هل الإعلام، ومن ورائه، هو الذي يقود السياسة، أم أن السياسة الحقيقيّة هي التي تصنع المستقبل والتغيير في حين يبقى الإعلام شاهداً على مصداقيّتها؟
4 ـ ايضا برز العديد من النقاط الخلافية حول المسألة الكردية خلال هذه الفترة .. مارأيك ..وكيف تقيم موقف الأحزاب الكردية ومدى ” انخراطها ” في الحراك الجماهيري.. وهل ترى في دعوة المجلس الوطني الكردي الى ضرورة إجراء استفتاء في المناطق الكردية بعد سقوط النظام مايشير الى نية لدى الاكراد للانفصال..؟
الكُرد السوريّون طيف من أطياف مجتمع سوريا التعدديّ، لهم خصوصيّاتهم الثقافية وطموحاتهم. وهم متوزّعون على ثلاث مناطق سوريّة (في الشمال الشرقي، وفي الشمال، وفي الشمال الغربي)، وكذلك على مختلف المدن السورية بفعل الهجرة الكبيرة من الريف إلى المدينة. وقد حصل غبن كبير تجاههم منذ عهد الانفصال، وحرم كثيرٌ منهم منذ 1962 من حقوق المواطنة السورية. وتخلّفت الدولة السوريّة منذ عقود على وعودها لهم بكامل حقوق المواطنة، حتّى بداية الثورة حين انتفضوا هم أيضاً نصرة لدرعا وحوران وباقي المناطق السورية. وفي الحقيقة، كانت انتفاضتهم هذه أكبر عنوان للوحدة الوطنيّة في سوريا. وقد اغتيل الشهيد مشعل التمو، بالضبط لأنّه كان رمزاً كبيراً للتمسّك بهذه الوحدة الوطنيّة.
لأسباب عديدة، الأكراد في سوريا مسيّسون جدّاً، أكثر بكثير من غيرهم من السوريين، ومنخرطون في أحزابٍ لها خلافات إيديولوجيّة وحتّى عشائريّة. تضامن بعضها مع السلطة، وبعضها الآخر مع هيئة التنسيق، وأخرى مع المجلس الوطنيّ، وشكّلت غيرها مجلساً وطنيّاً كرديّاً.
كنت قد حضرت عيد نوروز 2010 في القامشلي، واجتمعت مع الكثير من الناس العاديين والسياسيين الأكراد، كما رأيت سوريين كثيرين ليسوا أكراداً يحتفلون معهم به. ومن الطبيعي أن يعبّر الأكراد عن آرائهم وطموحاتهم، كجميع أطياف سوريا، وأنا أناصر الفكرة في أن يصبح النوروز عيداً وطنيّاً سوريّاً، وأن تعتمد اللغة الكرديّة رسميّاً لمن يرغب ذلك، ولكنّي لا أظنّ أنّ الأكراد في النهاية سيختارون الانفصال، لأسباب عديدة. فسوريا كانت دوماً ملاذهم من الاضطهاد، وستحافظ على نموذجها التعدّدي رغم الأزمة والصراع الحاليين، إذ أنّ لهذا النموذج ميّزات جاذبة أكثر من نماذج الدول المجاورة.
5 ـ وبالتالي .. وفي ظل المواقف الدولية والعربية هل ترى إمكانية تسليح المعارضة وارد فعلا.. وهل يمكن للجيش الحر حسم الصراع اذا تم تسليحه..؟
بالرغم من الخطابات الإعلاميّة، ليس هنالك حتّى الآن على علميّ أيّ تسليح خارجي حقيقيّ للجيش الحرّ بالمعنى العريض. إنّ هذا الجيش الحرّ هو في معظمه مقاومة شعبيّة، فقدت الأمل بالحلّ السلميّ، بالإضافة إلى عناصر منشقّة من الجيش السوري رفضت إطلاق النار على أهلها. أغلب هذا الجيش الحرّ تسلّح للدفاع عن نفسه، مع افتقاره للذخائر والمؤن، في حين يحضنه الناس ويلتفوّا حوله لأنّه يحميهم ممّا ارتكبته السلطة من أفعال شنيعة ضدّ المتظاهرين السلميين. بالمقابل هناك أيضاً بعض المجموعات الأخرى لا علاقة لها بهذه المقاومة الشعبيّة، حصلت على سلاح زوّدتها قوى خارجيّة أو أنّها تستفيد من الفوضى العارمة، لممارسة لعبتها الخاصّة.
صحيحٌ أنّ بعض الدول صرّحت حديثاً في مؤتمر “أصدقاء سوريا” في تونس أنّها ستسلّح الثورة في سوريا. لكنّها تصطدم بمعضلات حقيقيّة. فهي وإن سلّحت بعض الأطراف حتّى الآن، دون غيرها، تعرف أنّ هذه الأطراف تبقى أقليّة ضمن الحراك، ولا يمكنها أن تحسم الأمور لصالحها على المدى القريب، لا ضمن الحراك ولا ضدّ السلطة. وهي إن سلّحت بشكلٍ واسع كلّ الأطياف ستخلق وضعاً قد يشابه الوضع في العراق أو في ليبيا حالياً، ما يمكن أن يكون له تداعيات داخليّة حتّى على الدول التي قد يمرّ منها السلاح كلبنان والأردن وتركيا. خاصّة وأنّه لا يبدو واضحاً أنّه سيتمّ قريباً خلق قيادة موحّدة للجيش الحرّ، مرتبطة بقيادة سياسية لها دعم شعبيّ واسع؛ والخلافات التي تظهر على السطح من حينٍ لآخر بين الجيش الحرّ، والمجلس العسكري، والمجلس الوطني خير دليل على ذلك.
في أحسن الأحوال سيخلق السلاح استعصاءً على الأرض لأيّ كان، سلطة أو معارضة، كي يحسم الأمور لصالحه، ممّا قد يدفع إلى حلّ سياسيّ. هذا إذا توصّل فريق كوفي أنان لتثبيت وقف لإطلاق النار. بكلّ الحالات ينبغي على الحلّ السياسيّ أن يأخذ بعين الاعتبار الصعوبات الناتجة عن انتشار السلاح بشكلٍ واسع.
6 ـ وكيف تقيم حركة الشارع .. وهي العنصر الأكثر فاعلية في الحراك الثوري .. الى أي مدى يمكن له ان يتابع ويستمر في حركته تلك ضمن ظروف القمع والقتل الوحشي الذي يمارسه النظام..؟
أنا لا أحبّ تعبير “حركة الشارع”. هذا الشارع هو المجتمع، هو “الحراك الشعبي”، وهو صاحب الثورة قبل السياسيين، وقبل المجالس والهيئات. هذا المجتمع أضحى شابّاً بفعل “المدّ الشبابي”، وأصبح، بفعل تراكم ثقافي حضّر له الجيل السابق عبر ربيع دمشق، ثوريّاً بمعنى أنّه سيصنع للبلاد قيماً جديدة، قيم حريّة ومواطنة وكرامة. إذاً “حراك شبابيّ” أصلاً.
يتساءل كثيرون في الداخل والخارج بإعجاب: كيف يصمد هؤلاء الشباب في ثورتهم بالرغم من التدهور الاقتصادي الكبير وانقطاع سبل المعيشة؟ وكيف تنتفض كلّ منطقة في سوريا لنصرة المنطقة الأخرى؟ وكيف لا تزال الغالبيّة العظمى ترفض التوجّهات الطائفيّة بالرغم من استفزازات السلطة وتوجّهات بعض فئات المعارضة ومهاترات وسائل الإعلام؟ وكيف ينتصر الناس لبعضهم البعض ويتعاونون ويتعاضدون ضدّ القمع والتعسّف بالرغم من التشنّج الكبير الحاصل؟ وكيف لا تزال عسكرة الثورة هي الاستثناء وليست القاعدة، بالرغم من طول الأزمة والإحباط؟
مخطئة السلطة إن اعتقدت أنّه بإمكانها هزيمة حراك شعبيّ له هذه المقوّمات. ولن تستطيع ذلك عبر القمع والقتل. إذ أنّ هذا الحراك هو حالة اجتماعيّة واسعة وليس تنظيماً معيّناً تستطيع تحديده وتوجيه ضربة قاضية له. انظروا كم من المرّات اجتاح الجيش والأمن والشبيحة المدن والقرى نفسها وقتلوا واعتقلوا، ثمّ لا تمرّ سوى أيّام ويعود الحراك بزخمٍ وقوّة أكبر.
لكنّ الخطر يكمن في أن يصبح السلاح هو المهيمن على الأرض، وتصبح كلمته هي الغالبة، وربّما في الحقيقة كلمة من يزّود بالسلاح، وبالتالي ينكفئ الحراك الشبابي الأساسي، وتضيع الأهداف الأساسيّة للحريّة والكرامة والوحدة الوطنيّة، وربّما تضيع الثورة كثورة.
7 ـ ..على الطرف المقابل كيف ترى حال النظام .. وهل يعني تماسك آلة النظام، السياسية والعسكرية والدبلوماسية حتى الان، انه لا يزال قويا فعلا وانه قادر على الحسم.. ؟
من المستحيل أن تكون السلطة قادرة على الحسم أمنيّاً، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل آذار 2011. هناك مسألة أساسيّة، وهي أنّه حتّى المتخوّفين من التغيير باتوا يحمّلون هذه السلطة، وبشّار الأسد بشكلٍ خاص، مسؤوليّة الأحداث الحالية في سوريا والفوضى الحاصلة وكيف يمكن أن تضيع البلاد. الدلالة الجوهريّة اليوم لكلّ الدمّ الذي سفك، بين المدنيين والعسكريين على السواء، هي أنّ السوريين لم يعودوا يقبلون مقولتي “سوريّة الأسد” و”الأسد إلى الأبد”، بعد أن شاهدوا كيف لفظت تونس ثمّ مصر ثمّ ليبيا وأخيراً اليمن مبدأ توريث السلطة. ومهما سيكون شكل الحلّ، سينتهي تسلّط عائلة الأسد على مقدّرات البلاد.
أمّا لماذا لم ينقسم الجيش بشكل كبير؟ ولماذا لم ينشق سوى القليل من كوادر الدولة والدبلوماسيين؟ هذا له أسباب كثيرة، منها أنّ المعارضة السياسية لم تكن على مستوى المسؤوليّة، ولم تبنِ الأسس التي تجذب هؤلاء إليها، ولا مشروعٍ وطنيّ بديل واضح يشمل جميع أطياف الشعب السوري، في حين استخفّت بقدرة السلطة على تجييش مناصرين لها، ولم تعمل بثبات على قلب موازين القوى لصالحها رويداً رويداً.
انظروا! هل حسمت السلطة حقّاً معركة حمص؟ تهجّر عدد كبير من السكّان، وأصبحت الأحياء مقطّعة وأغلبها خارج عن سيطرة الدولة وفي فوضى كبيرة، وحالة تشنّج على نطاق واسع، حتّى في الأحياء التي توصف بالموالية. ماذا كسبت السلطة بعد معركة بابا عمرو؟ لا شيء سوى إدخال البلاد إلى الفوضى، وزيادة قناعة السوريين، موالين ومعارضة، أنّها لا تستحقّ بأيّ شكلٍ كان أن تبقى مهيمنة على مقدّرات البلاد. وحتّى إذا اعتبرنا أنّ السلطة ربحت معركة عسكريّة، فهي قد خسرت المعركة السياسيّة، وأثبتت أنّ ما يهمّها هو الحكم وليس الوطن.
8 ـ هل يمكن القول ان النظام استطاع فعلا ان يجر المعارضة الى حرب أهلية وطائفية، وهو الامر الذي سوف يسهل عليه كثيرا عملية البطش بها ..؟
منذ البداية اعتمدت السلطة سياسة الدفع إلى العنف والطائفيّة والتدويل، لأنّها رأت أنّها السياسة الوحيدة التي لا تؤدّي إلى استعصاء له طابع مدنيّ سلميّ يدفع إلى رحيلها سياسيّاً بشكلٍ سريع. وقد شكّلت السلطة فرق الشبيحة حتّى قبل انتشار الانتفاضة. وهي ذاتها قامت بتسجيل المشاهد التي تبيّن إهانة محتجّين سلميين من قبال عناصر يتحدّثون بلهجة معيّنة ووزّعتها عن سابق تصميم إلى الإعلام. فعلت هذا بالضبط لاستثارة العنف والطائفيّة.
للأسف انجرّت بعض مكوّنات المعارضة إلى الفخ. ويتحمّل سياسيّوها مسؤوليّة كبيرة في ذلك. إلاّ أنّ وسائل الإعلام الفضائيّة تتحمّل مسؤوليّة أكبر كما ذكرت. فهي تتبع لسياسات صانعيها ومموّليها، وهي وسيلتهم للهيمنة على المنطقة في ظلّ تحوّلات الربيع العربي، وهي سبيلهم لتصفية حسابات صراعاتهم الإقليميّة، وهي أداتهم للانتقام من سوريا التي تلعب تاريخيّاً دوراً أساسيّاً في المنطقة. بربّكم، لماذا على سوريا أن تكون أرضاً لصراع بين السنّة والشيعة؟ وأن يقرّر أحدٌ في الخارج أن مستقبلها هو أن تخضع لهيمنة سنيّة مقابل خضوع العراق لهيمنة شيعيّة؟ سوريا أكبر من ذلك.
اليوم إذاً، وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، يجب التأكيد على المشتركات الوطنيّة، والإصرار عليها بحزم. كلّ طائفيّ هو عدوّ لسوريا، أكان موالياً للسلطة أم معارضاً لها. وإذا لم تصرّ الثورة على أنّ هدفها هو في النهاية المساواة في المواطنة وتحرص، حتّى أثناء فترة الفوضى الحاليّة، على نبذ كلّ ما هو طائفيّ، رغم كلّ الآلام، وأن تضع نصب عينها أنّه حتّى أولئك الذين يتمّ إرغامهم اليوم على تنفيذ أوامر السلطة سيكونون شركاء لها في سوريا الغد، فهي لن تكون في نهاية المطاف سوى انتفاضة تؤدّي إلى اقتتال أهليّ وضياع سوريا كوطن.
إذاً المسألة اليوم ليست إمكانيّة بطش السلطة بالمعارضة. ولكن هي بالأحرى الفوضى القائمة والاستعصاء.
9 ـ بالنسبة للمواقف العربية .. كيف ننظر الى موقف كل من قطر والسعودية بشكل خاص ..والى أي مدى يمكن الاعتماد على موقفها الداعي لتسليح المعارضة..او الضغط على روسيا والصين ” اقتصاديا ” مثلا ؟
منذ الأشهر الأولى، لعبت قطر دوراً علنيّاً وأساسياً في الأزمة السوريّة، عبر قناة الجزيرة وتشكيل المجلس الوطني وفرض عناصر معارضة بعينها ضمنه. إلاّ أنّ اللافت مؤخّراً هو بروز العربيّة السعوديّة في مقدّمة المواجهة، من سحب المراقبين العرب من طرف واحد إلى الدعوة إلى تسليح المعارضة والتدخّل العسكري الخارجي في مؤتمر “أصدقاء سوريا” في تونس. وهذا فعلاً أمر لافت للانتباه. هذه هي إحدى المرّات النادرة التي تندفع فيها العربية السعودية، الحذرة جدّاً عادة في سياساتها، إلى هكذا مواجهة إقليميّة.
كثيراً ما يجري الحديث عن غضب قادة هذين البلدين على السلطة في سوريا، وعلى بشّار الأسد بالتحديد، الذي وصف هؤلاء القادة يوماً “بأنصاف الرجال”، والذين بدورهم يصفونه “بالكذّاب”. إلاّ أنّ هناك ما هو أبعد من ذلك. فمن ناحية، هناك شرخ حقيقيّ بين دول الخليج والدول العربيّة الأخرى، الأولى تعتبر إيران هي العدوّ الرئيسي، في حين ترى الثانية إسرائيل هي العدوّة. وهناك أيضاً تموضع جديد لدول الخليج في تحوّلات الربيع العربيّ، حيث تحاول فرض توجّهات معيّنة للتطوّرات من تونس إلى مصر وليبيا. وهي بطبيعتها تخشى عواقب الربيع العربيّ.
لكنّني لا أظنّ أنّهما ترغبان حقّاً في الدخول في مواجهة مع الصين وروسيا، بالرغم من بعض التصريحات هنا أو هناك. الأمور أعقد من ذلك، ولها جذور عميقة وأبعاد جيوستراتيجيّة ضخمة. لكنّني أثق بعقلانيّة السعوديين، وبأنّهم سيذهبون في نهاية الأمر إلى إيجاد مخرج سياسي للأزمة، اعتماداً على توافق دوليّ عريض، كما فعلوا في اليمن. وسيلتحق القطريّون حكماً بهذا المخرج.
10 ـ ايضا كيف نفهم موقف مصر والعراق من الثورة السورية .. لاسيما في ضوء مايقال عن طرح كل منهما مبادرة لحل الأزمة السورية ..؟
لو كانت مصر في وضعٍ طبيعيّ للعبت منذ البداية دوراً أساسياً في حلّ الأزمة في سورية. تذكّروا أنّ أحد أسباب ذهاب بعض الضبّاط السوريين لطلب الوحدة الاندماجية مع مصر عبد الناصر كان غرق البلد في الفوضى وقوّة المؤامرات الأجنبيّة عليها. إلاّ أنّ مصر معطّلة اليوم أكثر ممّا كان عليه الأمر خلال حكم سنين مبارك، بفعل الثورة الحاصلة فيها وتحوّلاتها. مع هذا تبذل الدبلوماسية المصريّة جهوداً كبيرة لإيجاد مخرج سياسيّ، ودور الأمين العام للجامعة العربيّة، السيّد نبيل العربي محوريّ في هذا الخصوص.
أمّا العراق فهو أيضاً يعيش أوضاعاً غير مستقرّة، ويعرف مسؤولوه جيّداً الكلفة البشريّة والوطنيّة للفوضى التي تنتشر في المنطقة. وتتركّز جهود العراقيين على ناحيّتين: تفادي انغماس سورية في الفوضى؛ وإنجاح مؤتمر القمّة العربي الذي سيعقد في العراق نهاية شهر آذار، إذ سيكون الأوّل بعد الغزو الأمريكي له وسيشكّل برأيي منعطفاً لتطوّر العلاقات العربيّة-العربية.
حتّى الآن لعب هذان البلدان دورهما من خلال الجامعة العربيّة، مع مبادرات واتصالات قامت خارجيّتهما بها، إلاّ أنّ الضغوط الكبيرة التي تمارسها دول الخليج عليهما قد دفع في النهاية إلى قيام مهمّة السيّد كوفي أنان، كمبعوث مشترك للجامعة العربيّة والأمم المتحدة.
11 ـ على صعيد الموقف الدولي .. كيف تقيم نتائج اجتماع لافروف مع وزراء الخارجية العرب ..وهل ترى فعلا ان روسيا قد غيرت موقفها باتجاه تبني موقف الجامعة العربية الداعي لتنحي الأسد وتكليف نائبه ..؟
في البدء، تجدر الإشارة إلى أنّ المبادرة العربيّة في صيغتها الثانية التي رفعت إلى مجلس الأمن لا تنصّ بدقّة على تنحّي الأسد، بل تشير إلى “تفويض رئيس الجمهوريّة بصلاحيّات كاملة للقيام بالتعاون التام مع حكومة الوحدة الوطنيّة لتمكينها من أداء واجباتها في المرحلة الانتقالية”، وهذا لا يعني التنحّي بالمعنى الصرف، خاصّة وأنّ نائب الرئيس السوري ليس له صلاحيّات سوى في الشؤون الخارجيّة. الإعلام لعب كثيراً على هذه القضيّة، وكذلك سياسيو المعارضة وبعض الدول.
هكذا تمّ خلق التباس أدّى إلى تشنّج المواقف في مجلس الأمن، واستخدام روسيا والصين لحقّ النقض. كما كان الأمر بالنسبة لالتباس آخر حول الأطراف التي تستخدم السلاح. وهنا حتماً لا يمكن الموازاة بين من يزجّ بجيشٍ نظاميّ ويقتل متظاهرين وبين من يدافع عن نفسه؛ لكنّ وقف إطلاق النار يتطلّب حُكماً آليّات تعتمد واقع الأرض والاعتراف بانتشار السلاح.
السؤال الأساس هنا، هل كان ممكناً تجاوز الخلافات التي برزت في مجلس الأمن، كي لا يتفجّر الانقسام الدولي حول سوريا، وكأنّ القضية هي بداية “حرب باردة” جديدة؟ برأيي، لو أراد الفرقاء الدوليين ذلك لفعلوه! وجميعهم، وليس فقط روسيا والصين، يتحمّلون مسؤوليّة إطالة الأزمة السورية. ذلك أنّ قراراً كالذي صدر في البيان المشترك بين اللجنة الخماسية العربية وروسيا في القاهرة، ثمّ كالبيان الرئاسي الذي صدر لاحقاً عن مجلس الأمن، وطريقة التعامل مع المسائل الخلافيّة، كان ليرسل باكراً رسالة واضحة إلى السلطة في سوريا أنّ هناك توافقاً دولياً حولها، وهذا بالطبع يضعف موقفها.
واللافت في بيان القاهرة المشترك ليس تغيّراً للموقف الروسي، بل قبول بعض الدول العربيّة بالرغم من خطاباتها الطنّانة “وقف العنف من أيّ مصدرٍ كان”، ممّا يشكّل تناقضاً مع موقفها حول تسليح المعارضة، و”رفض التدخّل الخارجي”، وإيلاء كوفي أنان مهمّة إيجاد حلّ سياسيّ، “دون إعاقة” ليس فقط من قبل السلطة في سوريا بل أيضاً من القوى الإقليميّة.
يجب دوماً أن نأخذ مسافةً من التصريحات العلنيّة للدول، الموجّهة أكثر لاسترضاء رأيٍ عام أو لتحقيق مكاسب معيّنة مخفيّة، بدل أن تعكس لعبة المواقف والمصالح الحقيقيّة، مثل تصريحات بعض الدول العربيّة عن “إبادة ممنهجة” في سوريا. وما يجب قراءته من وراء البيان المشترك العربي-الروسي هو محاولة إعادة التوافق الدولي حول سوريا، ما أدّى إلى صدور بيان رئاسي معقول من مجلس الأمن في وقتٍ لاحق.
بالتالي كيف تنظر الى زيارة كوفي عنان ولقائه مع الأسد .. وهل يمكن القول ان الحل السياسي قد بدا فعلا .. وكيف ننظر الى مجزرة كرم الزيتون التي أعقبت زيارته ..؟
زيارة كوفي أنان إلى سوريا هي زيارة استكشافية أولى للمواقف من الناحية السياسية، ولا يمكن توقّع بروز عناصر الحلّ السياسي قبل بضعة أشهر. إلاّ أنّ ما يبحث عنه أنان منذ البداية هو إيجاد آليات لخفض وتيرة العنف ولإغاثة المناطق المنكوبة. إذ لا تفاوض حقيقيّ في ظلّ تصاعد العنف، ولا أقصد هنا فقط التفاوض بين السلطة والمعارضة، بل أيضاً وأهمّ من ذلك التفاوض بين الدول الإقليميّة والدوليّة التي تصفّي بعضها حساباتها على الأرض السوريّة.
أمّا مجزرة كرم الزيتون، فأنا لا أعرف تفاصيلها. إلاّ أنّني ألاحظ، كما الكثير من المراقبين، أنّه كلّما كان هناك أيّ محاولة لدفع التفاوض السياسيّ، أكان ذلك اجتماعاً للجامعة العربية، أم لمجلس الأمن، أم زيارة لمراقبين، أو في هذه الحالة لكوفي أنان، ينفجر العنف ويزداد عدد القتلى بشكلٍ كبير عن الوتيرة المعتادة. وبرأيي أنّ هناك أطرافاً ضمن تركيبة السلطة، وكذلك أطراف في المعارضة تحرّكها أصابع خارجيّة لا مصلحة لها في أن يتوقّف العنف وأن يكون هناك حلّ سياسيّ. هذه الأطراف هي التي تشعل الأمور عن قصد. بل أنّنا نشهد أيضاً في هذه اللحظات بالضبط الفارق الأكبر بين أرقام القتلى التي تسجّلها مراصد حقوق الإنسان والأخرى التي تعلنها وسائل الإعلام، ممّا يعني أنّ هذا الرقم بحدّ ذاته هو وسيلة للضغط الإقليميّ والدوليّ. وقد شهدنا الأمر ذاته خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة، حتّى أتى التوافق الإقليمي والدولي على إيقاف الحرب.
أدافع بإصرار منذ انطلاق الثورة في سوريا عن ضرورة تمسكّها بالسلميّة، مع إدراكي أنّ هذا مطلب صعب لمن يفقد أهلاً له وأصدقاء، وأنّ حقّه مشروع في الدفاع عن نفسه. إلاّ أنّ الذهاب إلى الحلّ العسكريّ يعني حرباً، والحرب تعني مزيداً من القتلى المدنيين، ومجازر كالتي حدثت في كرم الزيتون ومجازر مقابلة، وجنوح البلاد إلى اقتتالٍ أهليّ. والإصرار على الثورة يعني الإصرار على قيمها، وخاصّة على قيمة كلّ نقطة دم تبذل في سبيل الحريّة، وعلى أنّ الطرف الذي يحمل قيم هذه الثورة يجب أن يتحلّى بأعلى درجات ضبط النفس، مهما كانت وحشيّة الطرف المقابل.
13 ـ على صعيد الموقف الصيني والمبادرة المطروحة من قبلها .. مارايك بالمبادرة .. وكيف تتوقع مواقفها المستقبلية.. ؟
وقوف الصين مع روسيا في الحرب الباردة الدوليّة التي تمّ افتعالها لافت للانتباه، وكذلك نشاطها الدبلوماسي الحثيث. خاصّة لأنّ لها علاقات استراتيجيّة مع دول الخليج العربيّ، أعمق بكثير من علاقات هذه الدول بروسيا، وأبعد بكثير من قضايا النفط والغاز.
لكنّ الموقف الصينيّ له بعد استراتيجيّ عميق، وإلاّ لم تأخذ الصين كلّ هذه المخاطرة، حتّى بالنسبة للرأي العام الداخليّ لديها. وأظنّ أنّ النظرة الصينيّة تتعلّق بالأمر التالي: إذا هيمنت الولايات المتّحدة وأوروبا على سوريا، كما تهيمن على معظم الدول العربيّة الأخرى – ولنلحظ خريطة توزّع القواعد الأمريكيّة في المنطقة – فإنّ هذه الهيمنة ستنتشر بعدها إلى مجمل آسيا الوسطى.
تبحث الصين إذاً عن مخرج يؤدّي إلى تجنّب هذه الهيمنة. لكنّ موقفها صعب إعلاميّاً، ومن هنا مبادراتها السياسيّة، ومبعوثوها الذين يجولون المنطقة، ويقابلون الدول المختلفة، كما فصائل المعارضة السوريّة.
14 ـ تميز الموقف الأمريكي بتذبذب كبير .. فهو تارة يتوعد وتارة يتحدث عن صعوبة التدخل ودخول القاعدة واحتمال تهريب الأسلحة الى حماس ..بمعنى انه يتذرع بذرائع شتى كي لايتدخل فعليا .. كيف تحلل موقفه..؟
الولايات المتّحدة تلعب لعبة الأزمة السوريّة على مسافة كبيرة، إذ أنّها ستكون هي الرابحة، وكذلك إسرائيل، مهما حصل: فإن ربحت السلطة ستكون ضعيفة ومحاصرة، وسيمكن التعامل معها بشكلٍ أسهل ممّا قبل؛ وإن نجحت القوى الإقليميّة هيمنتها على سوريا فهي ستستطيع أن تتعامل بارتياح مع الأمر، إن كانت القوّة المهيمنة على الحلّ قطر أم السعودية، تركيا أم فرنسا!
حتماً الرأي العام الأمريكي ضدّ أيّ تدخّل خارجي، بعد التجربة المرّة التي عاشها في العراق، ويعيشها اليوم في أفغانستان. ولم تعلن واشنطن بوضوح عن تدخّلها العسكريّ الحقيقي في ليبيا، مع العلم أنّه لولاها لما استطاعت دول حلف الأطلسي الأخرى القيام بما قامت به هناك. وهذا يعني أنّه إذا ذهبت إلى التدخّل العسكري في سوريا فلن تكون في مقدّمة الجبهة لأسبابٍ داخليّة، وإنّما مختبئة وراء تحالف تقوده دول أخرى.
المثير للانتباه هو أنّها تنفخ الساخن والبارد على الأزمة السوريّة. تارةً تطلب بتنحّي الرئيس في توقيتٍ غريب، وتارةً أخرى يصدر مسؤولوها تصريحات عن صعوبة أيّ تدخّل عسكريّ، بدل أن يتركوا الأمر ملتبساً للضغط على السلطة القائمة. برأيي، لا تريد الولايات المتّحدة، وإسرائيل، أن تنتهي الأزمة في سوريا سريعاً، ولا أن تنتصر الثورة، بمعنى ثورة القيم التي سترسي دولة ديموقراطيّة المواطنة والحريّات. إذ أنّ دولة تتبنّى مثل هذه القيم ستشكّل خطراً كنموذج تقتدي به شعوب دولٍ أخرى في المنطقة، هي حليفتها الرئيسة. وهي لا ترغب أن ينتهي “الربيع العربي” نظيفاً، بل صراعات مستدامة بين أنظمة وشعوب، بين إسلاميين وعلمانيين، تدعم أحدهم أحياناً والآخر أحياناً أخرى. لأنّ هذه الصراعات ستقتل روح “الربيع” وتجعله خريفاً تخشاه الشعوب. برأيي الولايات المتّحدة وإسرائيل تريدان أصلاً أن تتطول أزمة سوريا أشهراً وسنيناً، لأنّ أهوال هذه الأزمة ستقتل في النهاية الوطنيّة الكبيرة للسوريين، ودعمهم لقضايا التحرّر العربي في فلسطين وغيرها.
15 ـ ايضا تميز الموقف التركي بتذبذب اكبر .. كيف نفهم هذا الموقف.. وهل تتوقع ان يخرج مؤتمر أصدقاء الشعب السوري المزمع عقده في اسطنبول بعد اسبوعين بشيء مختلف عما خرج مؤتمر تونس ..؟
لعبت تركيا دوراً في الأزمة السوريّة لم تكن لتلعبه لولا الاتفاقيّات التي عقدت مؤخّراً، بما فيها حرية حركة الأفراد بينها وبين سوريا. لكن الأزمة السورية أربكتها، ووضعت سياستها التي كانت مبنيّة على مبدأ “صفر مشكلة مع الجيران” على المحكّ. هكذا واجهت تركيا صدمة الثورة التي حدثت في بلدٍ يتشارك معها بحدود جغرافيّة ولشعبها روابط كثيرة متنوّعة مع الشعب السوري. ليس فقط أنّه كان عليها أن تختار موقفاً بين السلطة والشعب، بل أيضاً حول تفاصيل التحوّل الذي يحدث في سوريا. ومن هنا يأتي تذبذب مواقفها.
ومن الغرابة بمكان، أنّ تصريحاً كالذي أطلقه رجب طيّب أردوغان في مصر، موضّحاً أنّ النموذج التركي هو دولة مواطنة علمانيّة، تفصل شؤون الدولة عن شؤون الدين، وليست دولة إسلاميّة، وأنّه فقط رئيس حكومة لأغلبيّة إسلاميّة في نظام يسمح بالتداول على السلطة، لم يكن مثل تصريحاته حول سوريا. وكذلك لم تأتِ تصريحات واضحة من الحكومة التركيّة تدين مطالبات بعض أطياف المعارضة التي تلجأ إلى أراضيها بضربة عسكريّة تركية ضدّ سوريا. هكذا يبدو التذبذب التركي وكأنّ تركيا تدعم التيّار الإسلامي المتشدّد، وأطيافاً معارضة سوريّة دون غيرها، جاعلاً منها طرفاً في الأزمة. لا شكّ أنّ هناك عناصر سياسيّة داخليّة تركيّة دفعت إلى هذا المنحى، ولكنّ مصلحة تركيا هي ألاّ تبدو طرفاً يدفع إلى حلٍّ بعينه بل على مسافة واحدة من كلّ أطياف الشعب السوري، صاحب القرار في مستقبله.
هكذا من غير الواضح أن يخرج مؤتمر أصدقاء سوريا القادم في تركيا بجديد بعد مثيله في تونس. من ناحية ليس لهذا المؤتمر شرعيّة دوليّة، مقارنة مع نشاطات الجامعة العربيّة والأمم المتّحدة ومجلس الأمن. وبرأيي سينجح مؤتمر استنبول بقدر ما ستقترب نتائجه من التوافق الذي حصل مؤخّراً بين الجامعة العربيّة وروسيا، وفي البيان الرئاسي الأخير لمجلس الأمن، وإذا ما ساهمت فيه الجامعة العربيّة وكوفي أنان بشكلٍ فاعل. أتمنّى فقط ألاّ يزيد هذا المؤتمر الأمور توتّراً.
16- علمت انه وصلك دعوة من الخارجيّتين التركية والقطريّة لحضور مؤتمر توحيد معارضة في استنبول يوم 26 آذار القادم، والانضمام إلى المجلس الوطنيّ ..ماسبب رفضك للذهاب والانضمام . في وقت ينتقد الجميع تشرذم المعارضة.. الا ترى ان النضال داخل المجلس خير من النضال خارجه ..؟
نعم وصلتني دعوة غير اسميّة بالبريد الالكتروني، قبل يومين من انعقاد مؤتمر لتوحيد المعارضة. لم تشر هذه الدعوة لا إلى برنامج عمل معيّن ولا إلى وثائق ستناقش. وحسب علمي، لا علاقة لهذا المؤتمر لا بجهود الجامعة العربيّة ولا الأمم المتّحدة ومهمّة كوفي أنان.
لا أظنّ أنّ دعوة كهذه ستساهم حقّاً في توحيد المعارضة. يعيش المجلس الوطني انشقاقات متعدّدة بسبب سوء تصميم آليّاته الداخليّة منذ الأساس، وعدم ديموقراطيّته كما ذكرت. وموضوح إصلاح آليّات المجلس الوطني غير مطروح للنقاش، بل فقط الانضمام حوله. كذلك، لم تتمّ دعوة المكوّنات الأخرى للمعارضة، بمعزل عن رأيي بها، وهذا سيخلق تشنّجاً من جديد لا يذهب في طريق التوحيد. أخيراً، هناك وثائق متداولة بشكل غير رسميّ حول عهدٍ وطنيّ سيطرح في هذا الاجتماع. وصلتني عبر الأصدقاء ثلاثة مشاريع لهذا العهد، تحتاج إلى نقاش حقيقيّ لا يمكن أن يحدث في مؤتمر غير منظّم. وكما تعرفون أنا صغت منذ أيلول “عهد الكرامة والحقوق” الذي اعتمدته هيئة التنسيق كأحد وثائق مؤتمرها، تناول نواحي مختلفة من المواطنة إلى العدالة الاقتصادية والاجتماعيّة. وللإشارة فقط أنا لم أعد عضواً في تلك الهيئة.
كان من الأفضل أن تستقبل الحكومة التركية قبل ذلك كلّ أطياف المعارضة، كما تفعل بقيّة الدول. وكان من الأفضل أن تكون هناك لجنة تحضيريّة مصغّرة من كلّ هذه الأطياف لتحضير البرنامج والأوراق. وكان من الأفضل أن يكون لقاء توحيد المعارضة برعاية الجامعة العربيّة ومهمّة كوفي أنان. وكان من الأفضل أن تكون هناك لجنة من مختلف الأطياف تضع مشاريع وثائق العهد بينها وتصل إلى توافق أوليّ قبل عرضه على مؤتمر عام.
على كلّ حال أتمنّى للمجتمعين النجاح في مؤتمرهم، وأتمنّى لهم أن يصلوا إلى توافقات حول وثائق محدّدة. فهذا هو الأساس الذي يمكن النقاش معهم حولها، وهذه هي الوسيلة الحقيقيّة لتوحيد المعارضة: الاتفاق على الأسس، لا توزيع المناصب.
17 ـ اخيرا .. ماهي السيناريوهات المتوقعة..في ظل طرح موضوع تقسيم سورية .. واعادة رسم خارطة المنطقة ككل .. ؟
سوريا مفترق طريق الربيع العربي. هناك من ناحية ثورة شعبيّة ضد سلطة، وهناك لعبة أمم حول سوريا. وهذان أمران لا يتناقضان. الثورة في سوريا لا يمكن أن تنجح إلاّ إذا جلبت قيماً جديدة للربيع العربي، تقوم على مواطنة حقّة يتساوى فيها الجميع بمعزل عن الاعتقاد والعرق والتنوّع الكبير، مع أنّ الهويّة هي عربية إسلاميّة راسخة في القدم. ولعبة الأمم حول سوريا قويّة، وتسعى إلى إقامة تحالفات جديدة لمواجهة تحوّلات الربيع العربي في سوريا ومصر وتونس وغيرها.
لا أظنّ أنّ طرح تقسيم سوريا أمر وارد، مهما كانت لعبة الأمم. الشعب سوري قوّته في تنوّعه، ومازالت فيه عناصر هذه القوّة التي تكبح أيّ حلّ من هذا النوع، رغم الانهاك الكبير الذي يعاني منه المجتمع السوري اليوم بفعل القمع والحصار. لقد احتاج العراق ثلاث عشر سنة من الحصار حتّى تفكّكت عرى تماسكه الاجتماعي. وبرأيي ستحتاج سوريا عشرين أو ثلاثين سنة حتّى يحصل هكذا تفكّك. ولا أظنّ أنّ التغيير سيحتاج كلّ هذا الوقت.
التغيير سيحصل في سوريا، وسيشكّل مرحلة في تطوّرات كبرى ستأخذ عدّة سنين ستشمل المنطقة برمّتها. وقناعتي أنّ التحوّل السوري وتداعيات ثورته سيكون علامة فارقة في تحوّلات المنطقة، ولهذا المخاض طويل ومؤلم. سوريا أحد أعمدة النهضة العربيّة الأولى، وأثق أنّها ستكون ركيزة بارزة لتحوّلات الربيع العربي.