حول مقولة الإسلام السياسي المأزوم/ حسن شامي
هناك اعتقاد يتزايد رسوخه في هذه الأيام مفاده أن «المشروع» الذي يحمله الإسلام السياسي عموماً وصل إلى طريق مسدود. أصحاب هذا الرأي يرفعونه بطبيعة الحال إلى مصاف المقولة القاطعة ويستندون إلى تجربة السنوات السبع للربيع العربي التي شهدت الصعود الكاسح لتيارات وحركات الإسلام السياسي وتصدره للمشهد الانتخابي والسياسي المنبثق من الانتفاض ضد سلطات النخب الاستئثارية المتسلطة، وانهياره السريع في كل مكان تقريباً.
ينطبق هذا التشخيص على تونس ومصر تحديداً ويتلوّن بألوان أخرى في بلدان مثل سورية وليبيا. وقد تشكل في مخيلة قطاعات عريضة نوع من التوافق على اعتبار تجربة الإسلاميين في السلطة محكوماً عليها بالإخفاق. ولا يصعب على المراقب أن يلحظ من دون عناء أنّ التوافق هذا يفصح في الآن نفسه عن تباينات كبيرة حول تشخيص مآلات التجربة الإسلامية في الحكم وتخبطها السريع في إدارة مجتمعات ذات طبيعة تعددية، ليس على مستوى المعتقد الديني والمذهبي فحسب بل كذلك على مستوى تعريف الهويات الاجتماعية والثقافية وشواغلها وأولوياتها داخل البلدان التي تتسم بقدر كبير من التجانس الاثني والديني، كما هي حال تونس مثلاً وحال مصر في حال ما وضعنا على حدة مسألة الأقباط وتعرضهم دورياً لاعتداءات عنيفة.
هناك بالطبع من يرى بحق أن عبارة «الإسلام السياسي» ترفع كيافطة للتدليل على ظواهر مختلفة جداً عن بعضها البعض. وفي هذا السياق يصبح من الضروري عدم الجمع والخلط بين تيارات وحركات متجذرة على طريقتها في بيئات اجتماعية وثقافية وطنية وبين حركات جهادية عنيفة تخاطب نزعة التطهّر الخلاصي من شرنقة العولمة من خلال إشهار استعراضي لما يمكن اعتباره «تديين» الدفاع عن الخصوصية الإسلامية في مواجهة العولمة على أرضيتها بالذات.
قد يكون صحيحاً أن الحدود بين الترسيمتين هاتين لا تتسم دائماً بالوضوح والجلاء المفترضين. ومن الممكن، في مناخ من العنف المصحوب بمشاعر تدور على المظلومية والاستهداف المنهجي، أن تضطرب الحدود بين تشكيلات إسلامية وطنية وتشكيلات سلفية جهادية. وليس مستبعداً في هذه الحال أن تنشأ خطوط تقاطع قد تصل في بعض الأحيان إلى نوع من التداخل العملي بين الترسيمتين العريضتين المذكورتين لما يطلق عليه اسم «الإسلام السياسي».
تعميم الصفة الإسلامية السياسية كيفما اتفق على ظواهر مختلفة من حيث النشأة والتشكل من شأنه أن يقود إلى التعمية. سنكون في هذه الحالة حيال اختزال كبير يشبه الاختزال الذي ينطوي عليه الاستخدام الشائع والجاري لمقولة وصفة الإرهاب. فهذه الأخيرة باتت العنوان العريض لبازار حقيقي يتنافس فيه المتنافسون الإقليميون والدوليون بقدر ما يستخدمونه لعقد صفقات لا تخلو من الصعوبة ومن التباين في تقدير المخاطر ومصادرها. من هنا يتأتى الطابع الاستنسابي لإطلاق صفة الإرهاب على الخصوم. كمثال على ما نقول كان من الصعب قبل سنوات أن نضع في سلة واحدة تنظيم «الإخوان المسلمين» ومشتقاته ونظائره المتكونة داخل فضاءات وطنية معينة وتنظيم القاعدة المتأسس على أرضية العولمة الجهادية. ليس هناك فقط خلط بين العنف والإرهاب، بل هناك تصنيع وتسويق لهذا الخلط كما لو أنه حاجة لتخليق سياسات لتثبيت السيطرة والتحكم بمسارات معقدة.
في خلفية هذا التسويق يكمن ابتزاز منهجي قابل للاستخدام من قبل جميع اللاعبين. إنها لعبة تتعلق بصناعة العدو المناسب أو التكاملي، وفق عبارة مشهورة للباحثة الفرنسية الراحلة والمتخصصة بالحالة الجزائرية قبل الاستقلال الوطني جيرمين تيّون.
هكذا يصبح من السهل، تحت اللافتة المعولمة، إقحام صفة الإرهاب وإسقاطها على كل ظاهرة لا تعجب أصحاب القرار والسلطة أو الطامحين إلى احتكار القرار. ويصبح من السهل تقديم تغطية أخلاقية لشعارات تعتبر «كل من ليس معنا فهو ضدنا». ليس هناك أفضل من ظاهرة الورم العنفي والمعولم الذي يمثله اليوم تنظيم «داعش» وما يناظره، بعد أن كان يخص تنظيم «القاعدة» المعولم، لتذويب الثقل التاريخي والسوسيولوجي الخاص للحركات والتيارات الإسلامية السياسية ونجاحها في استقطاب فئات عريضة في هذا البلد أو ذاك. من دون الالتفات إلى الثقل التاريخي والسوسيولوجي المشار إليه ستكون مقاربة الإسلام السياسي مجرد ترداد لمقولتين شائعتين جداً في ادبيات الفئات الحديثة العلمانية في أوساط الليبراليين واليساريين والقوميين. المقولة الأولى تتحدث عن فراغ خلفه انهيار الإيديولوجيات والحركات القومية واليسارية منذ السبعينات وسعي الإسلام السياسي لملء هذا الفراغ. المقولة الثانية تدور على الوظيفة الاستعمالية لحركات الإسلام السياسي، خصوصاً منذ الحرب الباردة. هناك ما هو صحيح في هاتين المقولتين. لكن قصر الظاهرة الإسلامية السياسية المعقدة على الوجهين المذكورين ينم عن تبسيط مريح لتفسير تعاظم الظاهرة والطلب المحموم على إشهار الهوية الإسلامية في المعنى الشامل للكلمة.
في الشق التاريخي، قد يكون من الأجدى أن نلتفت إلى التبدلات التي طاولت الخطاب الإسلامي منذ عصر النهضة. هذه التبدلات لم تكن خلواً من الالتباسات ومن التلفيقات لكنها اتسمت عموماً، وفي تعبيرات متفاوتة، بالإصرار على المواءمة بين متطلبات العصر الحديث وتثبيت الهوية الذاتية للمجتمعات الإسلامية. فهذا وحده يوفر الأساس الأخلاقي أو المعنوي للتحديث ويرسم حدوده في الوقت ذاته. فالخطاب الإسلامي، على تنويعاته وتباينات رهاناته، كان يهجس عموماً بالحاجة إلى تعيين حدود التغيرات الحاصلة حتى عندما يعتبرها ضرورية وحتمية كما هي حال الخطاب الإصلاحي. وليس هنا مجال الخوض في هذه المسألة.
في الشق السوسيولوجي ينبغي الالتفات ليس فحسب إلى التحولات الاجتماعية التي صاحبت التبدلات الطارئة على الاقتصاد المحلي والعثماني ونشوء طبقة من الملاّكين وعلى العلاقات بين المدن والأرياف، بل كذلك إلى المفاعيل الناجمة عن تغلغل أفكار حديثة لم يكن صعباً العثور على أسانيد لها بل حتى على ما يعادلها، وإن رمزياً، في الموروث الإسلامي. في مقدمة هذه الأفكار نجد فكرة المساواة. نعلم أن هذه الفكرة تقيم في صلب الصورة الراسخة في التجارب الغربية عن الديموقراطية. لكنها في الإطار العثماني، ومنذ «التنظيمات»، كانت تعبيراً عن حاجة إلى تجسير الهوة بين الملل والجماعات المختلفة. طاولت الفكرة تدريجياً فئات الجماعة المسلمة نفسها. ازدهرت المساواة لدى الجميع من دون ربطها بالديموقراطية ومتطلباتها.
الحياة