حينما تحترق دمشق بصوت عالٍ/ إياد الجعفري
عنوّن موقع إخباري سوري، بـ “دمشق تحترق بصمت”، خبراً عن حريق جديد، أقل ضراوة، شهده سوق أثري آخر بدمشق القديمة، يوم الجمعة، هو سوق المناخلية، من جانب حي العمارة. فكانت التعليقات على الخبر مؤلمة في جانب منها، إذ قال أحد المعلقين بالعامية، “عئبال ما تحترق بصوت عالٍ”، في إشارة لدمشق، ليكون ذلك أكثر التعليقات مباشرةً، وسط عشرات تعبّر عن ذات النَفَس الذي ينضح بالتشفي والحنق حيال دمشق والدمشقيين.
مبرر هؤلاء المعلقين، الذين هم سوريون، ومحسوبون على شريحة المعارضين، تلك النظرية الرائجة في أوساطهم، ومفادها أن الدمشقيين يتحملون مسؤولية عدم نجاح الثورة في بداياتها، لأنهم لم يتحركوا، بالصورة المأمولة، فبقيت دمشق خارج الزخم الضخم للحراك الجماهيري الثائر في كبريات مدن الريف والمحافظات السورية الأخرى، وكانت مع شقيقتها حلب، ثائرة بخجل، أو محايدة، أو مؤيدة في جوانب منها أيضاً.
لم يداخل أذهان هؤلاء المعلقين الشامتين بدمشق والدمشقيين، أن أولئك المُحتسبين على دمشق، بعامل النسب، لا بعامل السكن الجغرافي فقط، باتوا أقلية فيها، بحيث أن التعريف الدقيق للدمشقي، ابن دمشق، أباً عن جد، ينطبق على أقل من نصف سكانها الفعليين اليوم، إن لم يكن أقل من ذلك أيضاً.
ولم يُداخل أذهان هؤلاء حجم التحوط الأمني، والتواجد الاستخباراتي الهائل بدمشق، التي بقيت في ذهن رجالات النظام، بيضة القبان الحاسمة في موازين الصراع الدائر، سياسياً وعسكرياً.
ولم يُداخل أذهان هؤلاء المعلقين أيضاً طبيعة الدمشقيين، المدنية، بما تعنيه من تشتت أسري نسبي، وتفرّق جغرافي بين الأقرباء، والاختلاط السكاني الهائل، الأمر الذي يجعل نظرية “الفزعة” السائدة في الأرياف والمدن السورية الأخرى، غير مُتاحة نهائياً في دمشق، ناهيك عن غياب عادة حمل السلاح بين سكان المدينة، وعزوفهم عن الشأنين العسكري والأمني بشكل شبه كامل، الأمر الذي يجعلهم أكثر تخوفاً من هاتين الدائرتين، العسكرية والأمنية، بسبب قلة معرفتهم بدواخل هاتين الدائرتين، خلافاً لأهل الريف المُنتفضين، الذين ينتسب الكثيرون منهم لإحدى المؤسستين العسكرية والأمنية، ويعرفون الكثير من خباياهما.
لكن بعيداً عن كل تلك العوامل الموضوعية، وغير الموضوعية أحياناً ربما، التي لم تداخل أذهان المُعلقين الشامتين بعاصمتهم، لأنها لم تنتفض بالصورة المأمولة في وجه الأسد، تلك الحيثية التي تتمثل في أن “تحترق دمشق بصوتٍ عالٍ”. ففيما تتوارد الأنباء وتتقاطع بصورة تؤكد أن نظام الأسد مدفوع إيرانياً يحاول تغيير المشهد الديمغرافي في دمشق القديمة، قلب دمشق وسوريا، وإرثها النابض، بما فيها من آثار وتجار ومعادلات اجتماعية أثيرة على نفوس السوريين جميعاً، يبدو أن ثلة من التجار الدمشقيين المتبقين في العاصمة، يحاولون الصمود قدر المستطاع وعدم المغادرة بما خف حمله من مال معروض عليهم لقاء بيع إرث أجدادهم.
ورداً على تعنت بعض التجار الدمشقيين، احترق قبل أسابيع أحد أشهر أسواقهم، العصرونية، وأتى حريق ضئيل، على ما يبدو، الجمعة، على جانب صغير من سوق آخر، المناخلية. وسط أنباء متقاطعة عن ضغوط شرسة على هؤلاء التجار للبيع، والمغادرة خارج البلاد.
حينما تحترق دمشق “بصوتٍ عالٍ”، كما تمنى أحد المعلقين، ربما عن جهل، لكنه غير مبرر، بل يمكن وصفه بـ “المقيت”، حيث تنضح المناطقية، إحدى مثالب السوريين الكبرى، المسكوت عنها في هذه الثورة، والتي أجهضت الكثير من آمالهم بتحول سياسي سلمي نحو الديمقراطية.. حينها، حينما تحترق دمشق، لن يبقى للسوريين ما يحزنون عليه.. ليس لأنها دمشق فقط، بل لأن المدينة التي تشكل رمزاً سورياً جامعاً، بسماتها المعروفة، من تجار وعلماء دين وآثار، ستصبح برداء آخر، لا نعرفه، ولن تصبح لعموم السوريين.. بل ربما لن تصبح إلا لثلة ضئيلة جداً منهم.. وحينها، سيتحقق حلم من أحلام المشروع الإيراني، وهو “تشييع دمشق”، لا بنشر المذهب، بل بتغيير السكان، أو غالبيتهم، خاصة الثقل الوازن الباقي منهم، المتمثل بالتجار. الذين رغم ملاحظاتنا الكثيرة على موقفهم من الحراك الثوري، إلا أنهم يبقون اليوم التعبير الأبرز عن وجه دمشق الذي نعرف، الذي يبدو أنه في خطر أن يتغير إن فقدوا قدرتهم على الصمود، وحينها سيكون لدمشق وجه آخر لا نعرفه، حيث لا مكان لنا فيه، كسوريين، خاصة منهم أولئك الذين أملوا احتراقها بصوتٍ عالٍ.
هل آن الأوان للنظر من زاوية أخرى للأمور، قبل فوات الأوان؟ هل بات على منظّري الثورة والمعارضة الحضّ على دعم صمود التجار الدمشقيين بدمشق، وإعانتهم على ذلك قدر المستطاع؟ أم ستبقى ثورتنا سلباً للغرائز ولعموم الناس، يقولون فيها ما يقولون، إلى حين فوات الأوان..؟!
المدن