حين أصبحنا ديجتال/ رشا عمران
قبل مدة، أضفت إلى هاتفي المحمول تطبيقا عالميا يدعى “تروكولر”، وهو يمكّنك من معرفة اسم الشخص الذي يتصل بك، إن كان رقمه مجهولا لك. ومثل كل هذه الميزات الخدمية، بدأ “تروكولر” تحديث نفسه بنفسه، وإضافة مزيد من الميزات والخدمات لعملائه. فجأة بدأت أرى أمام أسماء أصدقائي على الهاتف أن فلانا يضع هاتفه على وضعية الصامت، أو يجري الآن مكالمة، أو أنهى آخر اتصال له قبل دقيقتين! وهكذا، يقدم لك “تروكولر” معلومات كاملة عن وضع الشخص الذي كنت تنوي الاتصال به، مهما كانت علاقتك به، وحتى لو كان مقيما في أقاصي العالم. أصبت بالخوف، وألغيت التطبيق على هاتفي المحمول، مستغنيةً عن فضول معرفة أصحاب الأرقام الغريبة، وتاركة لنفسي مفاجأة اكتشاف من الذي يتصل بي.
أتاحت الثورة الرقمية للبشر اختصار الزمن، وسرعة الاتصال والتواصل، وأتاحت لهم أيضا اكتشاف الآخر المجهول، وضمور هالة الخوف منه، لكنها في المقابل ألغت كل أنواع الخصوصية، إذ يصبح الكائن مكشوفا أمام الجميع، وتبدأ مساحته بالخصوصية بالتآكل شيئا فشيئا، وينعدم الخيال الإيجابي الذي يستخدمه البشر في تطوير علاقاتهم الإنسانية، مثلما تلغي تماما ميزة المسامحة والتماس الأعذار للآخرين: تذكّروا معي ما قبل الثورة الرقمية وثورة الاتصالات الحديثة، وقبل اختراع أجهزة المحمول. كان للشوق بين العشاق أو بين الأصدقاء مزاج آخر تماما، كان الحبيب الغائب أو البعيد موضوعا ضمن هالةٍ من الطاقة الإيجابية، عناصرها الشوق والحب والتوق للقاء قريب.
كانت الرسائل المرسلة بخط اليد تحمل معها شيئا من رائحة الحبيب أو الصديق. فيها بعض أثره الحي، بعض الدفء والحميمية، بعض روحه ترسل مع الرسالة الورقية المكتوبة بخط اليد. كان أيضا ثمة وقت ما وجهد يبذله المرسل لكي تصل رسالته إلى من يريد، شراء ورق خاص، الانتباه إلى خط يده، ومحاولة أن يكون جميلا ومقروءا، ثم الذهاب إلى مكتب البريد وشراء الطوابع، وإلى آخر ما هنالك. كانت الرسالة الورقية المكتوبة دليلا أكيدا على المحبة والشوق. وغياب الرسالة أو تأخرها عن موعدها كان يستدعي القلق، لكنه القلق المشوب بالمحبّة لا بالغيرة، فعذر التأخير موجود دائما: المرسل قد يكون مريضا أو مشغولا، (الغايب عذره معه) كما يقولون دائما، على عكس ما يحدث الآن. لا يستطيع أي أحد الآن إيجاد عذر مناسب لتقصيره، حتى الرغبة بالابتعاد قليلا أصبحت غير مقبولة، إذ كيف سألتمس عذرا لحبيبٍ لا يتواصل معي كما أريد، وأنا أعرف أنه قبل قليل كان يتكلم مع أحد؟ وكيف سأعذره حين أرسل له رسالة ولا يجيبني، وأنا أعرف أنه قرأها؟
دمرت وسائل التواصل قدرتنا على التواصل والحميمية الإنسانية. صرنا رقميين مثلها، سريعي الغضب والاستفزاز إذا ما شعرنا بالتجاهل من الآخرين، حتى لو كان تجاهلا غير مقصود. دمرت أيضا الرغبة والحاجة إلى التقاط الأنفاس من الضغط اليومي، ستكون الاتصالات والرسائل المتواصلة ومراقبة التحركات، والمحاسبة على كل حركة أو اتصالٍ لم يُنجز، أو رسالةٍ لم تُقرأ في وجه رغبة الانعزال والابتعاد قليلا! فتحت المجال أيضا للسهولة في كل شيء، في إطلاق العنان للتعبير عن العواطف، وفي قطع العلاقات نهائيا، وفي الشك بالآخر. يكفي أن تمسك هاتفك بيدك وتضغط على أزرار ما، ليذهب ما تريد قوله إلى الآخر بلحظة، ومن دون أي جهد، وبدون إعادة تفكير بما يجب أن تقوله للآخر. في فورة غضبك قد تكتب له ما يدمر كل مودة. لا تعطيك السهولة في الإرسال والاتصال فرصة للتفكير أو المراجعة، وتُفقدك قدرتك على التسامح وامتصاص الغضب تماما، مثلما تُفقدك حميميتك في العلاقة مع الآخرين، إذ يمكن أن ترسل الرسالة نفسها إلى عشرة أشخاص معا، من دون تمييز شخصٍ من الآخر، من دون أن يشعر أي منهم بأنه مميز لديك، هل يمكن لنا أن نسترجع عفوية ما قبل الثورة الرقمية، لنحمي علاقاتنا من الدمار؟ أظن أنه بات صعبا، إذ اعتدنا على وسائل التواصل وأدواتها بين أيدينا اعتياد الإدمان، فلنقل معها وداعا للرومانسية وللغفران.
العربي الجديد