حين تغيب العقلانية
د. طيب تيزيني
يمر العالم العربي الراهن بمحنة بل بمحن كثيرة، وبعضها أصبح مستعصياً بكيفية تحمل مخاطر تتصل بوجود البلد المعني، من حيث هو، وهذا، بالضبط، ما ينطبق على سوريا في وضعها الحالي، ويبدأ الأمر، في هذه الحال، بالإرهاصات الباكرة لانتفاضة الشباب بفعل داخلي وبتأثير خارجي. فلقد انطلقت شرارة الانتفاضة المذكورة من تونس، التي كانت -في ظل النظام الأمني- تئن تحت قبضة الفساد والإفساد والاستبداد. ويلاحظ أن أولئك المنقضين مثلوا وَرَثة شرعيين لمن قام قبلهم بحركة أطلق عليها السادات في مصر “انتفاضة الحرامية”. فلقد خرج “بوعزيزي” في تونس يجر عربته وجسده إلى الموت، يائساً من الحصول على ما يجعل الإنسان إنساناً. لم تأت الانتفاضة من الخارج، أيّ خارج، وإنما هي اشتعلت من داخل تونس ذاتها، التي لم تعد قادرة، بفعل المهيمنين عليها، على تقديم ما يجعل البشر فيها مختلفين عن الحيوانات.
وهذا الأمر لم يختلف -في مصادره وبواعثه الداخلية أولاًً- عما حدث في مصر. لقد انتفض “الغلابا”، وقرروا الدفاع عن حقوقهم الشرعية، واستلهموا -ضمناً- ما كان “مكسيم غوركي” يلح عليه، حين قال: ليست المساواة والكرامة أن يتساوى الناس كلهم في الموت، وإنما هي أن أن يتساووا في الحياة”. وإذا كان الأمر كذلك في تونس ومصر، فلمَ لا يكون هكذا أيضاً في ليبيا واليمن وسوريا؟ لقد أجاب سادة النظم العربية المعنية أن البلدان العربية التي تحكمها تملك من “الخصوصية التاريخية والبنيوية” ما يجعل كلاً منها مختلفاً عن الآخر. وها هنا، نضع يدنا على “خطأ طريف” يقع فيه أولو الأمر في البلدان المذكورة، ويقوم على أن خطابهم السياسي السابق ألح إلحاحاً مشدداً على “وحدة الوطن العربي” جيوسياسياً وتاريخياً وغيره، مما جعلهم يؤسسون عليه استراتيجية الوحدة العربية، التي أخفقت بسبب الدخول إليها بعد تفكيك المجتمع المدني بين سوريا ومصر. أما الآن في زمن انتفاضة “ماء الحياة -الشباب”، فهم يعلنون هنا وهناك أن ما راح يحدث عمقاً وسطحاً في تونس، لا يمكن أن يحدث في مصر وليبيا وسوريا وغيرها بسبب “الخصوصيات”، وهذا هو الذي يكمن وراء خطاب الاستبداد المهيمن: لقد غابت “وحدة الوطن الطبيعية”، وحضرت “خصوصيات الأقطار”، التي غاب التفاعل والتأثر فيما بينها. إنه خطاب أمني منافق ومؤسَّس على القصور المعرفي والخذلان السياسي والأخلاقي والقومي.
والآن وقد تعاظم الخطر حِيال الوجود القطري والقومي العربي نكتشف ما هو الآن أخطر المصائر العربية، إنه تفكك البلدان العربية “من الداخل أولاً”، وذلك بكل الوسائل المتاحة، من الرصاص إلى الدبابات فاختطاف النساء والأطفال وحرق البيوت وتفجير المحال والشوارع والمدارس. إنه بكلمة، تدمير الحاضر والمستقبل، مع غياب كلي للعقلانية الشجاعة والحكمة العميقة، التي ترى في الوطن مجسَّداً في أقطاره، خطاً أحمر لا يجوز أن يتخطاه أحد.
حالة مأساوية فظيعة تهيمن في الأفق السوري وغيره، دون أن يظهر ما يطفئ النار. فلقد أخفقت كل المحاولات والتجارب والخطط في أن تكتشف “كلمة سواء”. وهنا نلاحظ كم هو خطير أن تكون “السياسة” قد اختطفت ومُرِّغ أنفها، فهي التي تحمل واحداً من عناوينها الكبرى الفارقة: إنها تتأسس على المساومة والاحتمالات المفتوحة والتنازلات الممكنة والضرورية. وهذا هو ما أسس له أرسطو الفيلسوف، حين قدم كتابه “السياسة”، وهنا تكمن خطورة تجاوز ذلك، خصوصاً حين يبلغ الصراع بين الخصوم حداً يهدد بسحق كل شيء.
ما يحدث في سوريا الآن، خصوصاً، يمكن أن يفككها ويصدعها، إذا لم يأخذ العقلاء والحكماء من كل الفئات والطوائف والطبقات، الذي دلّل تقريباً دائماً على استنارته ووسطيته، خصوصاً إذا كان الهدف إنقاذاً وطنياً.
الاتحاد