خافيير سيركاس.. الرواية سلاح دمار شامل
أنطوان ابو زيد
في مقابلة شاملة وحديثة أجرتها معه مجلة «ماغازين ليتيرير» (المجلة الأدبية، العدد 573، تشرين الثاني 2016)، كشف الروائي الأسباني خافيير سيركاس عن رؤيته في ما خصّ الرواية والعالم الروائي، وهو أستاذ الأدب الأسباني في «جامعة جيرونا» والمقيم في برشلونة. وقد ذاع صيته منذ أن صدرت له روايته «جنود سلامينا» (ترجمها إلى العربية ندى شديد وأدونيس سالم، وصدرت عن دار «نوفل، هاشيت – أنطوان، 2013) التي احتفى بها ماريو بارغاس يوسا، وصدور روايتيه على التوالي: «تشريح اللحظة» و «الدجّال» بأنه فرض نوعاً معيّناً من الرواية يستند الى التاريخ وينهل من معين الواقع لا الخيال، ومن نماذج الروائيين الغربيين أمثال بورخيس وفلوبير وليريس وغيرهم. بل الأحرى أنّ كلّ الأنواع الأدبية تُذوّب في صلب روايته، من مثل السيناريو والتحقيق التاريخي والافتتاحية السياسية وغيرها من الأنواع. وقد تزامنت المقابلة مع صدور ترجمة بالفرنسية لكتابيه «الجوّال» و «النقطة الحمراء»، وفيهما يعرض الكاتب لرؤيته الى الكتابة. هنا ترجمة (بتصرف) لأبرز ما جاء في هذا الحوار.
^ وأنت تعرف ماذا تعني الرواية؟
} إنه لسؤال جيّد! في الواقع، الجواب عن هذا السؤال سهلٌ: الرواية، هي كلّ ما يُقرأ على أنه كذلك. حتى دليل الهاتف! إنه ما أدعوه النقطة العمياء، تلك النقطة على الأسطوانة البصرية التي لا يسعنا أن نرى شيئاً من خلالها. إنها ذلك الحيّز من الظلمة ما هو في صميم الأدب. قال ذلك بول فاليري في موضع ما: ليس المؤلّف مَن يصنع التحفة الأدبية، إنما هو القارئ الذي ينفذ اليها ويتبنّاها، شرط أن يكون قارئاً متنبّهًا لكلّ شاردة فيها؛ ويستخدم فاليري لإبراز فكرته تلك العبارة المبتدعة «البراءة المسلّحة» أو «السّذاجة المسلّحة»؛ وهي تعني لديه تلك الكفاءة التي تتيح للقارئ أن يستخلص من الكتاب ما يدلّ على أنّ مؤلّفه لم يكن واعياً تماماً حين وضعه إياه. فالنقطة العمياء ما هي إلاّ ثغرة تتيح للقارئ أن يغوص عميقاً في الفضاء الذي ابتدعه الغموض. سرفانتيس كان بدوره يدرك ما كان يصنعه إذ يبتدع قصص دون كيخوته بيد أنه لم يكن واعياً للطريقة التي بتنا نقرأها فيها.
^ للغرابة، لطالما تساءلتَ، في مجموعة دراساتك المسماة «النقطة العمياء» عن طبيعة الرواية، وأنت لم تكن قد كتبتَ روايات بهذا القدر.
} يتحدّث كونديرا عن زمنين في تاريخ الرواية: زمن أوّلي نشأ مع سرفانتيس، ومَن لحق به أمثال ستيرن، وفيلدينغ، وديديرو، ورابليه وكلّ من راقتهم حداثة دون كيخوته المذهلة ـ والتي تكمن في السماح بكتابة التخييل في حرّية تامّة. ثمّ كان الزمن الثاني والذي يمكن تسميته بالزمن الفلوبرتي والذي يطلب اعتباره معادلاً للفن الجادّ، ذلك أن الرواية كانت لا تزال للروائيين السالف ذكرهم نوعاً جديراً بالتسلية فحسب. وقد كان فلوبير يطمح لأن يدفع بالرواية الى مرتبة عليا تقرّبها من الشعر، أو المسرحية المأساة، فيجعل منها نوعاً أدبياً رفيعًا. لقد أراد ذلك، وبناه، باعتباره فناً على قياس ما انتهي اليه سرفانتيس. أما المثال الذي طرحته عن الرواية، والذي وضعتُه قيد التنفيذ في كتبي، فهو توليفة من الرؤيتين: إذ أستعير من كلّ الأنواع الأدبية من دون أي انزعاج…
الرؤية التوتاليتارية
^ ولكن لماذا لم يكن لسيرفانتيس خلفٌ في لغته الإسبانية نفسها؟ إنّ له خلفًا آخرين ولكن خارجًا.
} إنه لأمر غريب بغرابة ما يلقاه كتابٌ ذو رواج تجاري هائل، من نزعات الى تقليده للحال. والحال أنّ ذلك لم يحصل في إسبانيا خلال القرون الثلاثة المنصرمة. الجواب عن ذلك ماثل في خاتمة الرواية. ذلك أنّ سيرفانتيس ابتدع نوعاً جديدًا من التهكّم وهو نوع يختلف بطبيعته عن ذلك الذي أرسته اليونان القديمة وما كان يُنمى الى المفارقة. ولئن كان كيخوته مجنوناً، فإنه ينعم بحكمة عالية، وبذكاء بيّن، وبرؤية نيّرة. ولكن ما الذي حال دون أن يحدث منافسات له في إسبانيا في زمنه وفي بلاده؟ للإجابة نقول إنّ الإسبانيين قرأوا الكتاب على اعتبار أنه كتاب هزليّ بالأساس. وكانت قراءتهم الكتاب مبتسرة للغاية. وفي الآن نفسه كانت كلّ من فرنسا وإنكلترا تفتحان باب التأويلات المتناقضة على مصاريعها، وتنبّهان النفوس الى مضامينه. إني أعتقد جازماً بأنّ الرواية هي سلاح دمار شامل ضدّ رؤية العالم التوتاليتارية. ومَن يعتبرون أنفسهم حائزين على الحقيقة المطلقة يبدون استعدادهم لقتلك من أجل فرضها عليك. إنّ المتعصّبين يخشون الرواية، بل يرتعبون منها.
^ إذن، أين هم خلَفُ سيرفانتيس؟
} أعتبر ماريو بارغاس يوسا أعظم روائي كلاسيكي في اللغة الإسبانية المعاصرة. ولكنه يظلّ أقرب الى فلوبير من سرفانتيس. وبالمقام الثاني كونديرا… وبأي حال فإنّ على كلّ روائيّ دينًا يؤدّيه لسرفانتيس، حتى لو لم يقرأه! وحتى لو كان يحتقر مكانة دون كيخوته ويجده طويلاً للغاية… إنّ الرواية هذه نوعٌ أدبيّ أكّال كلّ الأنواع ومبتلع إياها. والحال أني أخشى من ألاّ نستخدم كل الحرية التي تركها لنا سيرفانتيس، مع كلّ ما يؤسسها، عنيتُ: التهكّم، الارتيابية، والتسامح. تلك هي عقيدتي الوحيدة!
رواية بلا تخييل
^ كتابك المسمّى «تشريح اللحظة» كان حول المحاولة الانقلابية الفاشلة في 23 شباط 1981، أكان كناية عن طبخة أدبية؟ أقول «كتابَاً» لعجزي عن التسمية..
} أنت محقّ في ذلك، فالكتاب خليط من كلّ شيء، قليل من التأريخ، قليل من البحث، قليل من الريبورتاج، وقليل من الرواية التاريخية، وقليل من كل شيء. فالرواية، من حيث المبدأ، هي صنيعة الخيال. ومن هذا استمددت الحرية بأن أكتب رواية بلا تخييل. وفي أي حال، تعتبر الرواية نوعاً هجيناً. وهذا ما ينطبق على رواية «الدجّال» والتي أنهيتُها لتوي وأصدرها في شباط بإسبانيا. كلها روايات بلا تخييل. إنها أو الرواية المجردة من التخييل لروايته (non fiction novel) على ظني معادلة لتسمية ترومان كابوت «دم بارد»: وهي شكل من أشكال السرد الذي يلجأ فيه الكاتب الى كلّ تقنيات فن التخيّل، من دون التخلّي عن كونه واقعياً. ذلك هو الحال أيضاً مع كتابي المقبل، ذلك الذي لطالما أردت كتابته منذ البدء. إنها قصة شخصية جداً لأنها تدور حول ماضي عائلتي الموالي لفرانكو.. أما الشخصية المحورية فيه فهو عمّي وقد كان شاباً في السابعة عشرة من عمره، وكان قارئاً نهماً، التفت الى أعمال أورتيغا وأونامونو. ومع ذلك فقد صار كتائبياً، والتزم بالحزب، وقاتل في صفوفه الى أن سقط قتيلاً في خلال المعركة الكبرى في تاريخ إسبانيا. لطالما أخجلني هذا الماضي، ماضينا الذي لم تكفّ والدتي عن سرده، كيف لا وهو كان بكر إخوتها… لم أكن مستعداً لمواجهة ماضيّ العائلي. والواقع أنّ ما كان يشلّني عن تناوله مسألة أدبية محضة ولئن كان التاريخ بحوزتي، فإني ظللت أسعى في إثر الشكل الذي ينبغي للتاريخ أن يتخذه…
^ أتعتبر كلّ كاتب مثقفاً؟
} إنّ مهنة الكاتب لا تمنحه مكانة المثقف على نحو آليّ.. إني أتبنّى نوعاً من الأدب الملتزم على النحو الذي يدعو له ميشال ليريس: الأدب من حيث كونه سباقاً للثيران. أمر بالغ الجدية يسعى فيه الأديب الى إماطة اللثام عن الواقع المتواري خلف المظاهر. وبهذا المعنى فإنّ كافكا وبورخيس هما بطلاي لأن أدبهما سياسي للغاية. وما أعظم التزامهما؟
ترجمة: أنطوان أبوزيد
السفير