خالد خليفة والكتابة العارية/ هيثم حسين
“مَن يجرؤ اليوم على نقد نص لكاتب يقرأ نصوصه في مدن ألمانية ويتحدث عن الثورة؟”.. سؤال أطلقه السيناريست والروائيّ السوريّ خالد خليفة في رأي سريع له بعنوان “الكتابة العارية“.
استهلّ خليفة مقالته بقوله: “لا نستطيع الحديث عن تغيير جوهري في الأدب السوري حتى الآن، رغم أن سوريا القديمة انتهت، وقرار دفنها ينتظر حضور المعزين والقتلة لإكمال تكفين الجثمان والدفن”. ثمّ أكمل بالإخبار بنوع من اليقين الذي يجب أن يقتنع به قارئه: “كل التحولات في الكتابة السورية خلال السنوات السبع الماضية كانت شكلية، رافقها ضجيج كبير يمكن تلخيصه بفتح كل الأبواب أمام كتّاب شباب ومخضرمين من قبل دوائر ثقافية أوروبية، قدمت المنح والدعم المطلق لهؤلاء الكتاب الذين وجدوا أنفسهم فجأة تحت أضواء مربكة، وغالباً ما تكون هذه الأضواء مؤقتة ترتبط بزمن الحدث، لكن لا يمكن إقناع كاتب شاب يجول أوروبا ويقرأ نصوصه في منتديات ثقافية بأنه لم يصل إلى سدرة منتهى الكتابة، لا يمكن إقناعه بأن نصوصه لا قيمة لها بمعايير الكتابة وحساباتها”.
حاول خليفة اختصار التحوّلات التي طرأت على الأدب السوريّ بعد الثورة السوريّة برأي سريع أطلق فيه سهام الانتقاد هنا وهناك من دون تحديد، بشكل لا يخلو من تعميم متملّص من المواجهة قد يصيب عدّة أهداف بالمصادفة، أو قد يمضي سريعاً كما أطلق من دون أن يحقّق أيّ مراد أو مبتغى.
سأحاول هنا مناقشة بعض الأفكار السريعة التي طرحها، والتي كان التعميم ميسمها وعنوانها، والتأثيم عنواناً مضمراً مرافقاً للتعميم، بحيث يكون تضليل القارئ من خلال هذا التعميم، وتمويه الرأي والإيهام بأنّ الكارثة شاملة، وهو كروائي يكتشفها وينتقدها ويدرك واجبه إزاءها، وبما أنّه يقوم بتشريحها وتشخيصها ومواطن الضعف والخلل فيها، فهذا يوحي بافتراض أنّه خارج هذه الدائرة، وقد يحتمل التخمين أنّه يشمل نفسه به لئلّا يظنّ القارئ أنّه أبقى نفسه بعيداً عن سهام النقد التي ينثرها هنا وهناك من دون تحديد يمكن أن يشكّل كوّة للإفادة والمساجلة والتجاذب.
لعلّنا لا نذيع سرّاً إذا ما قلنا بأنّ خليفة هو واحد من أكثر الروائيّين السوريّين ممّن أفاد من دوائر ثقافيّة أوروبيّة وعربيّة، ومن ظاهرة المنح المقدّمة وما وصفه بـ”الدعم المطلق لهؤلاء الكتاب الذين وجدوا أنفسهم فجأة تحت أضواء مربكة، وغالباً ما تكون هذه الأضواء مؤقتة ترتبط بزمن الحدث”.. وخالد نفسه لم يهدأ وهو يجول العواصم والمدن الغربيّة ويقرأ نصوصاً مكرّرة ويحاول الوقوف على مسافة وهو ينتقد النظام والمعارضات البائسة التي لم ترتقِ لمستوى الثورة السوريّة.
تصادف أن حضرت مشاركتين له في قراءات وجولات له في مدن بريطانية سنة 2014، (في مدينتَيْ ليفربول وبرادفورد الإنكليزيتين) مع بضع شباب آخرين رافقوه – لم أعد أذكر أسماءهم جميعاً – كانت ميزة بعضهم الوحيدة أنّهم يرفعون أصواتهم بـ”الصراخ الإيديولوجي”، وتجريم النظام المجرم الذي تشبه حالته حالة مَن ينطبق عليه مثل “ضفدعة يبصق عليها بعضهم فتضحك وتردّ على الباصق عليها بأنّ ماء البحر لم يستطع تبليلها فكيف لبصقة سريعة أن تبلّل وجهها”. وكأنّ معارضة النظام وحدها كافية لتصنع مبدعاً وتضعه على منصّة يقرأ شعراً أو نصّاً مسلوقاً على عجل!
وقد يغمز البعض من زاوية أنّ خالداً شارك في تعزيز حضور نماذج من تلك التي تحدّث عنها وانتقدها، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من خلال مشاركته إيّاهم، أو استغلاله وجودهم وحضورهم في الغرب، وعلاقاتهم المتداخلة مع “دوائر ثقافية”، وهم بدورهم احتاجوه كاسم “مكرّس” تمّ الاشتغال على ترويجه من خلال العلاقات في وسط الدراما والصحافة، وعبر شلل عابرة للحدود وتشابكات يحتاج المرء لوقت وجهد للتفصيل فيها وتحليلها، وذلك كي يشرعنوا لبعضهم الكفاءة والجدارة والصدارة والتحدّث باسم سوريا بصيغة ما.
لن أتطرّق إلى سهامه المطلقة باتّجاه الأدب الفلسطينيّ الذي وصفه بأنّه “مات ولم يعد يسمع به أحد اليوم، أو حتى يشعر بوجوده”، كي لا يأخذنا الحديث إلى مكان آخر بعيد عن الحالة التي حاول وأحاول التركيز عليها، وهي الحالة السوريّة، ولقناعتي أنّ هذا اتّهام مجّانيّ مطلق كذلك بتعميم لا يستند إلى أيّ دقّة واقعيّة. كما تراه في السياق ذاته يتنبّأ بيقين أنّ “هذا ما سيحصل للكثير من الكتب التي تكتب اليوم، ستموت الروايات والقصائد، والمسرحيات ومئات الأفلام التي أنتجت. وما تبقى أو سيبقى قليل جداً”. ولا يخفى أنّ الإشارة إلى “الكثير” تحتمل بدورها استثناءات قليلة، والقارئ الفطن يدرك أنّ الكاتب نفسه يعتبر كتابته ومؤلفاته ضمناً من تلك “الفئة الناجية” من النسيان، وقد يكون التبرير أنّه مشمول بذاك الذي سيحصل للكثير ويقرّع نفسه على ما سيحصل.
إن كنّا نعرف سلفاً ما سيحصل من مصائب لماذا لا نتداركه؟ لماذا لا يتداركه خليفة باعتباره يشخّص الحالة ويعرف مواطن الضعف فيها؟ فليقدّم للأجيال القادمة وصفته للأدب الخالد والروايات الخالدة؟ هل تحمل رواياته التي تدور في العوالم نفسها، وفي فلك التكرار وتقليد الذات كأنّها قصص مستنسخة عن بعضها بشيء من التحوير، أي تجديد خارق أم أنّ الصلات والعلاقات الموطّدة بـ”دوائر ثقافية” في الغرب والشرق وضعت نتاجاته في قوائم ولوائح يعرف المطّلع على واقع الصحافة والإعلام ممرّات ودهاليز مفضية إليها…؟
صنّف خليفة الأدباء السوريّين إلى ثلاثة أصناف، صنف مع الثورة، وآخر مع النظام، وثالث يزعم الوقوف في المنتصف، وبالطبع فإنّه محسوب على أدباء الصنف الأوّل، وتراه يكرّر أنّه يرفض مغادرة بلده والتحوّل إلى لاجئ في أيّة دولة أخرى، بالرغم من أنّه صال وجال أوروبا وأميركا، إلّا أنّه يعود إلى منزله في دمشق، ولا يخفى أنّ دمشق تعدّ منطقة “آمنة” إذا ما قورنت بالمدن الأخرى، كما لا يخفى أنّ الكتّاب المعارضين المقيمين في الداخل هم آخر همّ النظام الذي لا يني يدّعي محاربته الإرهاب والجماعات المتطرّفة، لذلك فلن يقوم بـ”إزعاج” أيّ كاتب إلّا ضمن حدود الإشارة إلى أنّه موجود وأنّ بالإمكان محاصرته ومعاقبته حين الحاجة. وهذه معادلة اعتاد عليها السوريّون، بين شدّ وجذب ومناورة وتورية.
يعدّ خالد نفسه خارج التصنيفات بمعنى ما، لطالما هو يصنّف ويقوم بالتشريح فهو الحكم القادر على تمييز الأصناف ونقدها وتشريح عللها وأوبئتها، لذلك فلن يكون ضمنها، أو مندرجاً في سياقاتها أو مقيّداً بقيودها.. وبالحديث عمّن بقي في البلد أو مَن خرج منه، فإنّ الظروف حتّمت على كلّ امرئ خياراته في اللجوء أو الإقامة في دول الجوار أو غير ذلك ممّا ارتضاه لنفسه، وتنظيمه لعلاقته مع محيطه والسلط والدوائر التي يقيم علاقاته معها.. لذلك فالبقاء ليس مِنّة أو تضحية من قبل أحد، ولا المغادرة مِنّة أو تضحية بمعنى آخر.
أشار خليفة إلى “القحط الإبداعيّ” وإلى “خيبة أمل كبيرة” والحاجة “إلى مئات الصفحات، والكثير من الألم بالمكاشفة”، وقد ذكّرتني مقالته السريعة بقصّة للألماني باتريك زوسكيند بعنوان “هوس العمق” التي صوّر فيها مشاهد من حياة فنانة مبدعة صارت أخرى مهووسة بأقاويل الآخرين عنها، وفقدانها ثقتها بنفسها، وذلك كله بعد أن أبدى أحد النقاد رأياً في تجربتها وأعمالها في معرضها بأنها لافتة، لكنها تفتقر للعمق. صوّر زوسكيند كيف تحول رأي الناقد العابر المطلق من غير وعي وفهم و”عمق” إلى مشكلة حقيقية بالنسبة للفنانة التي تقرّر البحث عن العمق في ما يحيط بها، يصبح العمق بالنسبة لها هوساً لا يفارقها، يطغى عليها ويقودها في دهاليز معتمة، وتصل إلى درجة تفقد فيها بوصلتها وقدرتها على الاستمرار في الحياة، وذلك بعد قنوطها من فكرة اكتشاف العمق وفهم معناه الدقيق، ولم تجدها محاولات التفتيش في كتب الفنّ ودراسة أعمال الفنانين الآخرين، في بحثها عمّا يسمّى بالعمق وفي تخليصها من هوسها القاتل الذي أودى بها.
هل يمكن أن يساعد خليفة في صياغة معنى العمق كي لا يُبقي الآخرين في معمعة هوس يفتقر لـ”العمق”؟ هلّا يصوغ بيانه الأدبيّ والروائيّ العميقين للزمن القادم؟
التعميم الذي أطلقه خليفة من دون تسمية أحدهم يكون تعبيراً عن نوع من الغضب على مآلات الأوضاع الراهنة، لكنّه يفتقر للمكاشفة، وهنا أحاول التعاون معه وتحمّل ألم المكاشفة معه، كي لا نبقى متحدّثين في فراغ يحتمل التأويلات المتناقضة، ولا يتجرّأ على التسمية والتحديد للإفادة والمناقشة وتقبّل الآراء المختلفة.
لا أختلف مع خليفة أنّ هناك مَن ركب موجة الثورة، وكان قبل ذلك نكرة في عالم الأدب والكتابة والفنّ، استغلّ الأوضاع المستجدّة وحاول الظهور وانتهاز الفرص، لكن هذا لا يعني تعميم الأمر واتّهام نتاجات مرحلة كاملة، وكأنّها خارج عالم الادب والكتابة الذي يجب أن يظلّ محتكراً لدائرة بعينها. كما لا أختلف معه أنّ الكتابة الركيكة والأدب التسطيحيّ يسيئان للقضايا العادلة، ولا يجدي الضجيج المصاحب ولا “الصراخ الإيديولوجي” بإسباغ المسحة الإبداعية على نتاجات تقوم بتمييع الفكر والأدب والثورة.
أودّ الإشارة في الخاتمة إلى أنّ هذا الرأي يتعلّق بمادّة خالد خليفة، ولا تروم الانتقاص من شخصه الكريم، وهو الذي له حضور إنسانيّ مميّز يضفي على اللقاءات بصمته الخاصّة، كما أودّ التأكيد على أنّني أكنّ له احتراماً ومحبّة خاصّين، لكنّني أحاول مناقشة بعض الأفكار التي طرحها، كنوع من المشاركة في الإجابة عن سؤاله عمّن يجرؤ على النقد في حالتنا السوريّة التي يحار المرء في وصفها لقتامتها ومأسويّتها.
المدن