خريطة طريق لإنقاذ المشرق من الكارثة/ برهان غليون
كتبت، في مقال سابق، أنه لن تكون للحرب ضد الإرهاب التي يزمع المجتمع الدولي تشكيل تحالف دولي بشأنها، نتائج تذكر، وربما ستكون لها نتائج عكسية، إن لم تترافق مع مواجهة المشكلات العالقة الخطيرة التي تزعزع حياة المنطقة واستقرارها منذ عقود، ولا يشكل الإرهاب إلا إحدى طفراتها وطفوحاتها الخارجية. وأخطر هذه المشكلات، على الإطلاق، إخراج الشعوب كلياً من الحلبة، وتهميشها الشامل في حلقة القرار، وحرمانها من أي مشاركة في تقرير مصيرها. وقد كان لهذه العملية آثار كارثية على كل المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والوطنية الأمنية والاقتصادية، تشكل، اليوم، البيئة المولدة، وليس الحاضنة فقط، لكل ما نشهده، اليوم، من اختلاجات وتوترات وعنف. وفي ذلك كله، لم يكن نصيب السياسات الغربية ضيئلاً من المسؤولية.
فليس هناك شك في أن أمراء الحرب في سورية والعراق، من دون حصر، قد نجحوا في اختطاف الدول، بمقدار ما نجحوا في تجنيده من مرتزقة في الداخل، من بين المستعدين لبيع ولائهم بمقابل. لكن، أيضاً، بمقدار ما سمح لهم الغرب باستخدامه من القسوة والعنف ضد شعوبهم. ومع ذلك، لا ينبغي أن ننخدع بالمظاهر. إن عملية إخضاع الشعوب وتقييدها من عصاباتٍ محلية معززة إقليمياً ودولياً لم تتم في الفراغ، أو ردة فعل، وإنما جاءت في إطار خطةٍ هدفت إلى دحر الحركات الشعبية التي بدت في بعض مراحل التاريخ الحديث حاملة تهديدات كبيرة لنفوذ الغرب ومواقعه، وسحقها إلى أطول فترة ممكنه، لدرء أي مخاطر في المستقبل، وتأمين إسرائيل وآبار النفط والنظم الدموية المتعاونة والتابعة.
ولا نبالغ عندما نقول إن ما نعيشه، اليوم، هو نتائج فشل سياسات الغرب وإدارته شؤون المنطقة الشرق أوسطية، منذ نهاية الامبرطورية العثمانية، عندما قضى على المملكة العربية، وقسّم المنطقة إلى مناطق نفوذ علنية، ورفض أي مشروع لتعاون دولها وشعوبها، ثم قرّر القضاء بأي ثمن على الحركة العربية الشعبية التي نشطت في الخمسينات والستينات، خشية أن تهدد التغيرات السياسية المحتملة، بما في ذلك نوع من الاتحاد العربي، مواقع الهيمنة الغربية وأمن إسرائيل، وعمد إلى تشجيع قيام نظم عسكرية، مهمتها الرئيسية ضبط الأوضاع وكبح جماح الشعوب، وتعقيمها ضد أي نزوع للتحرر أو التمرد أو الاحتجاج.
هذا ما حصل في مصر وسورية والعراق، ومتأخراً في فلسطين، وما انعكس في تراجعٍ كبير لنزعات الإصلاح السياسي والاجتماعي في بلدان الخليج، والانكفاء على القيم والتقاليد والإبقاء على أنماط الحكم القروسطية.
وفي أثناء هذه الحقبة الطويلة التي وضعت فيها الشعوب العربية في القفص، وأغلقت عليها الأبواب، وأوكل إلى نظم القمع البوليسية العنيفة أمر ترويضها وتسييرها بالعصا، نشطت شعوب أخرى، وبرزت بقوة إلى الساحة الشرق أوسطية التي كادت أن تخلو تماماً من أي قوة هيمنة محلية غير القوة الإسرائيلية. ومن النافل القول إن أهم هذه الشعوب كانت الشعوب الإيرانية، التي نجحت في نهاية المطاف، وعلى الرغم مما وضع أمامها من حواجز وعقبات، في كسر دفاعات النظام الإقليمي الغربي القائم. ومن خلال العمل الدعائي الثوري، أولاً، ثم الأيديولوجي والسياسي، ومنه تبني التضامن مع القضية الفلسطينية، ثانياً، وتشكيل الأذرع العسكرية التابعة لطهران، والمستندة إلى تعبئة الإرث المذهبي والطائفي، وفي ما وراء ذلك، استغلال القرابة الايديولوجية مع الحركات الاسلامية السنية ثالثاً، استطاعت طهران أن تخلق نظاماً نقيضاً من داخل النظام الإقليمي الشرق أوسطي هذا، وتتحكم بأجزاء رئيسية منه، وتهدد بتقويضه في أي وقت.
ولأن الغرب الوصي على النظام الإقليمي الشرق أوسطي لم يعرف أن يردّ بطريقة عقلانية، وتغلبت أجندة حماية إسرائيل وحدها على أي أجندة أخرى في دفاع الغرب عن الأوضاع الشرق أوسطية القائمة، ارتكب المسؤولون الغربيون والأميركيون، بشكل خاص، أكبر خطيئة في تاريخ السياسة المحلية والاقليمية، عندما قرروا، بمناسبة التدخل لإسقاط نظام صدام حسين، تدمير الدولة العراقية، مقدمين بذلك أكبر هدية لخروج طوفان الثورة الخمينية، ومعه كل تراث الثقافة الشيعية، وأحلامها وطموحاتها ومظلومياتها، وهي الثورة التي تقودها بالأصل النخبة الدينية، عن حدوده، ونقل المعركة إلى داخل الساحات العربية نفسها، وتحقيق انتصارات ومكاسب استثنائية.
ولأن النخب الحاكمة في البلاد العربية نسيت مع الزمن مسؤولياتها تجاه شعوبها ودولها، وأصبحت، مستقويةً بحماية الغرب أو روسيا أو إيران، وبالتحالف مع أي منها أو كلها، لا فرق، تتصرف تصرف الأسر الحاكمة الملكية في القرون الوسطى، وتعامل الشعوب كإقطاعات خاصة، وتتعامل مع مجتمعاتها بوصفها حشداً من العبيد والأقنان التابعين لها، وجدت الثورة الإيرانية ظروفاً لم تكن تحلم بها لتقوم بطفرة غيّرت مسارها الأول تماماً، فتحولت من ثورة تحرر للشعب الإيراني من النظم الدموية، وتضامن مع الشعوب العربية المقموعة، وفي مقدمها الشعب الفلسطيني، إلى مشروع امبرطورية، أو خلافة جديدة، تقاتل من أجل أن تضم تحت جناحها أطراف الشرق الأوسط الإسلامي أو المسلم كله. وكانت أهم أداة أرادت أن تستخدمها لتحقيق هدفها هي تعبئة الأقليات الشيعية المنتشرة في معظم بلاد المشرق، وإلحاقها بها، لتشكيل مجموعات ضغط وتهديد وتقويض للنظم العربية التي تقف في طريق طموحها.
وفي ضوء هذه الطفرة، تراجعت حظوظ التيارات الديمقراطية والمعتدلة في طهران، تلك التي مثلها الرئيس محمد خاتمي وأصحابه من الإصلاحيين أو المعتدلين، لصالح الفريق الأكثر تطرفاً من الناحية السياسية، والأكثر انغلاقاً من الناحية الدينية. ومما ساعد على هذه الطفرة أن طهران النجادية لم تلق صعوبة تذكر في تجنيد النخبة العراقية الجديدة، أو جزء كبير منها، في مشروعها الامبرطوري الإقليمي، ولا في استتباع نخبة الحكم السورية التي وجدت نفسها من دون وكيل ولا كفيل، بعد أزمة اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق، رفيق الحريري، في قطيعةٍ كاملة مع المجتمع العربي والدولي، في وقت كانت تعاني فيه من أزمة سياسية عميقة في الداخل، أجبرتها على إعادة تشغيل آلة القمع والاعتقال والتعذيب إلى عهدها الأول، على إثر انتعاش حركة المعارضة الديمقراطية الداخلية، والانتفاضة السياسية والفكرية التي مثلها ربيع دمشق.
كان من الطبيعي أن يترافق صعود نجم إيران الإمبرطورية مع صعود نجم المذهبية الشيعية وبروزها، وارتفاع نسبة نشاطيتها ونفوذها الإقليميين، خصوصاً أن الخامنئية استخدمت الورقة الطائفية جزءاً أساسياً من استراتيجية التوسع والتمدد وكسب النفوذ. وكان لاستخدام ورقة القضية الفلسطينية دور لا يقل عن ذلك في تحييد المقاومة العربية، لتمدد نفوذ طهران. تماماً كما كان من الطبيعي أن يترجم انحسار النفوذ العربي في الإقليم الشرق أوسطي، وتحييد بلدانه في المعادلة الإقليمية، بتراجع مماثل لإشعاع ونفوذ المسلمين السنة الذين وجدوا أنفسهم، وهم الأبعد عن استبطان ثقافة الطائفة، بسبب تاريخهم الامبرطوري الطويل، مجردين من أي قوة قادرة على حماية وجودهم ومصالحهم. وليس هناك مثال أوضح على انقلاب التوازن الطائفي، أو المذهبي، بموازاة انقلاب التوازن الجيوستراتيجي بين العرب من جهة وإيران الخامنئية من جهة ثانية، مما يجري في العراق وسورية، اليوم. وفي مصر وبلاد المغرب العربي أيضاً، تشعر الحكومات، لأول مرة، بوجود تحد مذهبي حقيقي، إلى جانب الإسلام السني الذي لم يكن هناك ما ينافسه منذ قرون طويلة.
وعلى العموم، أدى انحسار الحركات العربية المدنية، وتراجع مكانة الدولة الوطنية في الثلاثين سنة الماضية، لصالح ما ينبغي تسميتها إمارات الحرب والاستيلاء، إلى تراجع مكانة العرب ووزنهم، وفي سياقه، إلى انحسار دور المسلمين السنة ومكانتهم في السياسات الداخلية والإقليمية، وهم الأكثرية بين العرب، وإلى تقدم مضطرد في دور الطوائف والأقليات الأخرى، وصعودها إلى مقدمة المسرح. وفاقمت الثورات التي قامت ضد النظم الديكتاتورية في العراق وسورية من هذا التراجع والانحسار، في مقابل تقدم الشيعة، وهم الأكثرية المذهبية في إيران، وتنامي نزوعهم، بعد سقوط عراق صدام حسين، إلى تأسيس خلافة حقيقية تمتد من قم إلى البحر المتوسط.
على هذا الضغط المنظم والمستمر والناجح لإخراج العرب، ومعهم المسلمون السنة، من الحلبة وتهميشهم، ومحاصرتهم في فلسطين وفي العراق وسورية، وتقليل وزنهم واعتبارهم، حتى أصبح تحقيق مشروع الدولة الفلسطينية القزم نفسه حلماً، بعد أن كان يثير رفض الجميع، وعجزهم عن مواجهة الانفراد الإيراني في سورية والعراق ولبنان، وتدخل طهران في اليمن ودول عربية عديدة أخرى، على ذلك كله، يرد الإحياء وما سمي بالصحوة الإسلامية، ثم حركات التطرف الديني، واليوم، الدعوة الجهادية.
وهذا يعني أن مواجهة النشاطية المتزايدة والنازعة بشكل أكبر للتطرف والتوحش للمجموعات المتمردة من أصول سنية لن تكون مجدية، بل ستكون ذات مفعول معاكس، إن لم تتم مواجهة المسألة الرئيسية التي تكمن وراءها، وهي الانهيار الكبير في مكانة السنة، وموقعهم ونفوذهم في السياسات المحلية والإقليمية في سياق انهيار الاستراتيجية العربية التقليدية ذاتها.
لكن، الرد على تطرف الحركات السنية لا يمكن أن يكون طائفياً سنياً، أي موازنة الطائفية الشيعية المهيمنة بطائفية سنية متمردة، كما الحال اليوم، وإنما بالخروج من نفق الصراعات والتوازنات الطائفية نفسها. وهذا يعني العمل على محورين:
الأول يتعلق بإصلاح الدولة والنظم السياسية، وتوسيع هامش الحريات والحركة للمجتمعات المدنية والأفراد، واليوم ينبغي تجديدها تماماً، لإعادة طمأنة الشعوب إلى حقوقها وأمنها ووجودها، وهذا ما كنا نطالب به، مثقفين وحركات سياسية ومدنية، بل ومنظمات دولية منذ أكثر من ثلاثة عقود، والذي نشرت فيه عشرات التقارير، وعقدت من أجله مئات الندوات من دون جدوى. والسبب في فشلنا وفشل حركات الاحتجاج الشعبية أن هذه النظم لم تكن تستمد الشرعية والقوة من شعوبها ومجتمعاتها، ولكن، من الدول الوصية عليها وحاميتها.
والمحور الثاني ضرورة التعاون الدولي من أجل إخراج المنطقة من الهاوية التي سقطت فيها. فمشكلات المنطقة المشرقية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالاستراتيجيات والمنازعات والمواجهات الدولية، إن لم تكن من إنتاجها. ومن دون تعاون الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا وغيرها من الدول المعنية، لن يستطيع أبناء المنطقة وحكامها الوصول إلى أي حل، لتجفيف منابع النزاع والتوتر والعنف الداخلي والإقليمي، لا في الساحة الفلسطينية الإسرائيلية، ولا في الملف النفطي، ولا في الملف الأمني الذي تحول، اليوم، إلى حرب على الإرهاب الدولي، ولا في الملف الإيراني، ولا في الملف الطائفي نفسه، ولا في الملف الاجتماعي الذي يشكل قنبلة موقوتة، وجاءت الأزمة الإقليمية لتسرع في تفجيرها، ولا في ملف التنافس بين القوى الاقليمية.
وإذا كان من الممكن تشكيل تحالف ضد الإرهاب، كما تسعى الولايات المتحدة إلى عمله اليوم، كما أمكن تشكيل تحالف ضد هذه الدولة المارقة أو تلك، في الماضي، فليس هناك سبب لئلا يكون ممكناً، إذا وجدت الرغبة والإرادة، تشكيل التحالف الدولي لبسط السلام والأمن والاستقرار في منطقة عانت كثيراً، خلال القرن الماضي كله، من الإهمال السياسي والثقافي والتنموي، ونخرت دولها وأمنها التدخلات الخارجية المتعددة الأشكال، والتلاعب بالنخب الحاكمة واستتباعها وقلبها على شعوبها، وهي تهدد بأن تتحول، منذ الآن، إذا لم نسارع إلى إطفاء الحرائق الناشبة في كل مكان فيها، إلى بركان يصب حممه على كل من يحيط به.
ينبغي أن يكون هدف التحالف الدولي التوصل، تحت إشراف الأمم المتحدة، إلى ميثاق عمل إقليمي جديد، يطمئن الدول والشعوب معاً، ويساعد على إيجاد حلول نهائية للخلافات الإقليمية والدولية التي سممت المنطقة، ووضع حد لأحلام ومشاريع الامبرطوريات الدموية المتنازعة: الإسرائيلية والإيرانية والنفطية والعربية الإسلامية وغيرها.
من دون ذلك، لن يكون هناك حل. ولن يفيد شيئاً ترقيع النظم القائمة بزيادة وزير هنا لهذه الطائفة ووزير هناك. لن تساهم مثل هذه الحلول السطحية في إعادة بناء الدول والنظم السياسية واستعادتها ثقة الشعوب وتأييدها، تماماً، كما أن زيادة مشاركة أمراء الحرب السنة في الحكومات الهزيلة والفاشلة، حكومات المحاصصات الطائفية، مهما كان رئيسها، لن توقف الشعور الجارف لدى مئات الملايين الذين تركوا على قارعة الطريق بالتهميش التاريخي والسياسي والانهيار الاجتماعي. ولن يستطيع مثل هذا الإجراء الشكلي الضعيف أن يضع حداً لنزعات التطرف داخل المجموعات السنية التي ستتبارى، منذ الآن، في المبالغة في العنف، حتى تنتزع لنفسها بعض الشرعية من مجتمع سني زُعزعت أركانه، وهُجر أبناؤه، وقضي على مستقبل الملايين منه. ولن تستطيع أي مجموعة أن تستقطب تمثيله، بالإضافة إلى أن هذا المجتمع لن يقبل أن يتحول إلى طائفةٍ، أو ينظر إلى نفسه كطائفة، ويتمثل ذهنيتها وتقاليدها، ويقبل أشكال تمثيلها الرمزي، بعد أربعة عشر قرناً من ثقافة الدولة الامبرطورية والسيادة الكونية، وغياب أية آليات موحدة للنخبة الدينية، وشموله جماعات وشعوباً يتجاوز عددها مليار نسمة، وتعدد ثقافاته ولغاته وتقاليده، وتوزع سكانه على عشرات الدول والممالك العربية وغير العربية.
والخلاصة، ليس هناك بديل لعملية ومشروع إعادة بناء الدولة والنظام العام على أسس عمومية مدنية جامعة، ولا توجد إمكانية لذلك، من دون تحالف دولي ضد الفوضى التي أوصلت إليها السياسات الغربية، بما في ذلك روسيا، المنطقة، وإعادة الأمن والهدوء والسلام إلى شعوبها، أي إعادة بناء النظام الإقليمي على أسس جديدة متوازنة، وإيجاد حلول حقيقية للمشكلات التي أحدثتها السياسات الدولية ذاتها. بناء الدولة والنظام الإقليمي أو الفوضى العارمة والإرهاب.
العربي الجديد