خسائر إيران ومكاسبها في سوريا
فاطمة الصمادي
يبدو أستاذ العلاقات الدولية والأكاديمي البارز في إيران، الدكتور محمود سريع القلم، محقاً عندما يعتقد أن”إيران خسرت الربيع العربي”، وله أيضا الحق في أن لا يقف عند حدود ذلك، وأن يذهب إلى أن” دولاً أخرى كانت الرابحة من هذه الثورات”، لكن هذا الرأي يجب ألا يسقط قراءة أخرى يمكن الحديث عنها، وقد تثير “حنق” الكثيرين واستغرابهم. ويمكن القول أن هذا الرأي الذي يتبناه سريع القلم وباحثون كثر داخل إيران وخارجها، يصدق مرحلياً وظاهرياً، لكنه على المدى البعيد قد لايسير في هذا السياق.
ويبدو أن إيران بدأت تكسب نقاط قوة تجعل الحديث عن عزلها ضرباً من الأمنيات السياسية، وهي وإن لم تكسب معركة سوريا، فإنها تسعى لجعل نتائجها تأتي في إطار” السيئ في حدوده الدنيا”.
داخل إيران نفسها تراجعت وتيرة الحديث سياسياً وإعلامياً، بأن الثورات العربية هي امتداد لثورة إيران ضد الشاه عام 1979. وغاب الحديث عن أن “الثورات العربية تبنت أفكار الثورة الإسلامية الإيرانية”، وبدت إيران أخيراً لا تلقي بالاً لـ”الميزة” التي جرى التركيز عليها في مساهمات الباحثين الإيرانيين، ولم يستسغها النظام السياسي هناك، وهي غياب الأبعاد الإيديولوجية من مطالب الثورات وظهور الصبغة المحلية والواقعية عليها، لدرجة جعلت أساتذة جامعيين وباحثين إيرانيين يتحدثون بحماسة عن الثورات العربية التي “أغلقت دكاكين الأيديولوجيا”.
تتراجع وتيرة الخطاب الأيديولوجي، في حين يحافظ خطاب آخر على حضوره، وهو الذي يتحدث عن “النسخة المزورة للثورات العربية”، والثورة السورية التي “تأتي بتحريض من الولايات المتحدة وإسرائيل بهدف استهداف المقاومة، ورأس حزب الله على وجه التحديد”.
بدت إيران في مرحلة زمنية معينة من عمر الثورات العربية وكأنها ” تقف على هامش تطورات الشرق الأوسط والربيع العربي”، إلا أنها سريعاً عادت لتذكر بدورها الإقليمي، وتسحب الاعتراف تلو الآخر بأن الأزمة في سوريا لا يمكن أن تحل من دون دور مؤثر لها يساويه دور مؤثر لتركيا أيضاً.
ويمكن أن يضاف إلى خسائر إيران خسارة أخرى تتمثل في “هزيمة النموذج”، وليس من أدل على ذلك الردود السريعة التي توالت من زعامات عربية،أرسلت إلى إيران رسالة سريعة بفشل نموذجها الذي سعت إلى تصديره. وفي مقابل ذلك تسلل”النموذج التركي” إلى المنطقة العربية مدعوماً بجهد محموم من الحكومة التركية التي لا تتوانى عن اطلاق تصريحات تبدي حساسية تجاه الحديث عن هذا “النموذج” الذي يأتي مسبوقاً بترحيب لا يحمل محظورات البعد الطائفي، ويشكل هو الآخر مأزقاً جديداً لإيران.
و”أزمة النموذج”، حديث لا يقتصر على أعداء إيران ومنافسيها، بل يتواجد بشكل كبير في خطاب قيادات فكرية وسياسية إيرانية، بدأت تطرح السؤال: هل تشكل إيران نموذجاً يحتذى؟ وتأتي الإجابات في الغالب حاملة الكثير من النقد والتشكيك.
وبعد استعراض خسارات إيران فقط، لا تكون الصورة مكتملة. والنقطة التي يجب الانتباه لها في قراءتنا هذه المسألة، هي القدرة التي تمتلكها إيران على اجراء عمليات تحول وانعطاف سياسي، تتجاوز الخيارات الشعاراتية والأيديولوجية.
تميل غالبية التحليلات إلى قناعة مفادها أن مخاطر سقوط الأسد على إيران ستكون كبيرة. وهذا صحيح، لأن هذا السقوط سيؤثر بلا شك على قدرة ونفوذ إيران في المنطقة، وسيكون فاتحة لتراجع كبير على هذا الصعيد. لكن النتائج لن تكون بالشدة التي جرى الحديث عنها. ويساهم بذلك أن سقوط الأسد لم يأتِ ولن يأتي سريعاً، ولم يكن بالسهولة التي جرى تصويرها مع بدايات الثورة السورية.
وعلى الرغم من موقفها شبه الثابت من النظام السوري، إلا أن إيران بدأت فعلياً خطوات لإيجاد حالة من الانسجام بين سياستها والتغيرات التي تشهدها المنطقة. وتسعى بشكل غير معلن للوصول إلى صيغة “أقل ما يمكن من النتائج السيئة”. وهذه الصيغة اختبرتها إيران في أكثر من مناسبة وتجيد التعامل معها. ويمكن على هذا الصعيد اجراء قراءة عميقة ولها قدرة تفسيرية لفهم هذا الجانب في سلوك إيران في العراق وأفغانستان، ولنا أن نأخذ من علاقة إيران بحركة طالبان بعداً يمكن من خلاله تفسير الكثير.
من جوانب عدة تشكل سوريا أهمية كبيرة لإيران. فهي بالنسبة لطهران رمز لإعمال النفوذ والتأثير، ومن خلالها يمكن الوصول إلى منطقة المتوسط. وسوريا هي طريق مرور المال والسلاح والخبرات الفنية والعسكرية لحلفاء إيران. وهذا الارتباط تحقق بفعل العلاقة الطويلة بين عائلة الأسد وإيران. وهذه العلاقة بالمناسبة تحققت بفعل المصالح السياسية، لا بفعل التقارب الفكري أو العقائدي كما يحلو للبعض أن يصور. ومن المفارقات أن كتب وأفكار الخميني لم تكن تجد، بقرار حكومي ورغبة من الأسد الأب، ترحيباً في سوريا، في حين وجدت هذه الأفكار طريقاً وقبولاً في مصر التي كان لنظامها السياسي علاقات تشاحن وقطيعة مع إيران.
بالنسبة لطهران لن يكون من السهل خسارة حليف كبير، له ثقل كبير على صعيد الجغرافيا السياسية، لكن ذلك لايصنف كأمر يحدث للمرة الأولى بالنسبة لإيران. ومن المهم أن نلاحظ هنا أن الجمهورية الاسلامية تمتلك مهارة في رسم استراتييجيات للعمل في محيط الخصم، وإيران بالتأكيد ستكون قادرة على التحرك في مرحلة ما بعد الأسد، وهي المرحلة التي بدا من الواضح أنها لن تكون مرحلة انتقال سلس وتحول سياسي بقدر ماستكون مرحلة فوضى سياسية واقتتال وتصفيات دموية. وحتى مع الذهاب بعيدا في “التفاؤل” وتشكيل حكومة سورية جديدة، فمن المستبعد أن تكون هذه الحكومة متجانسة من حيث التركيب وقادرة على فرض السيطرة والسيادة عل كامل الاراضي السورية، وحالة الفوضى هذه تصب في مصلحة إيران أكثر من مصلحة أعدائها.
وإذا أردنا الحديث عن الخيارات الفضلى بالنسبة لإيران في سوريا، يتصدر ذلك منع سقوط الأسد. وإذا حدث وسقط، فالخيار المفضل الثاني هو الفوضى وغياب الاستقرار.
وستعتمد إيران في سوريا سياسة عملية تأخذ بعض جوانب سياستها وطريقة عملها في العراق، خاصة على صعيد السياسة الناعمة.
اليوم ومع تفاقم الوضع الاقتصادي، ترتفع شعارات مناوئة لسياسة الحكومة الإيرانية في سوريا. وتقول الشعارات لنجاد وحكومته :”دعكم من سوريا واهتموا بشأننا”، لكن القادة الإيرانيين لهم رأي آخر،إذ لايخفون أهمية الموقع الجيوستراتيجي لسوريا، بالنسبة لإيران. وقد تكون تصريحات نائب رئيس لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الإيراني أحمد رضا دستغيب مشخصة للحالة عندما شدد على “ارتباط المصالح الإيرانية بالجغرافيا السياسية لسوريا”، ورأى ضرورة “إطلاع الشعب الإيراني بصراحة على مدى أهميّة سوريا والنظام السوري بالنسبة لإيران “، بهدف حشد التأييد الشعبي لموقف الحكومة الإيرانية الداعم للأسد رغم الثورة المستمرة منذ أكثر من عام ونصف.
ومحاولة إيران لجعل النتائج في سوريا تأتي لصالحها، هي نفسه السبب الذي يجعلها تواصل دعم الأسد بشراسة،وهذا الدعم ينصب بصورة أساسية في المجالات المالية والاستخبارية.تواصل إيران بلا شك أو تردد دعم نظام الأسد، لكنها مع ذلك تدرس خيارات تغيير الخارطة السياسية وما سيأتي بصورة لاحقة، ومن الواضح أن العالم سيختبر نوعا جديداً من “التكيف السياسي الإيراني”.