خطأ المعارضة في مصر وسوريا
د. وحيد عبد المجيد
ما أبعد الوضع في مصر اليوم عنه في سوريا. فلا شيء يجمع بلداً حدث تغيير في نظامه السياسي منذ نحو عامين، وآخر يشتد الصراع في داخله من أجل مثل هذا التغيير منذ ما يقرب من سنتين. فقد قرر الرئيس السابق حسني مبارك التخلي عن السلطة بعد 18 يوماً فقط على بدء الاحتجاجات ضد سياسته ونظامه. ولا يزال الأسد يصارع من أجل البقاء في السلطة بعد نحو 23 شهراً على اندلاع الاحتجاجات التي بدأت سلمية ثم صارت مسلحة.
غير أنه على رغم هذا الاختلاف التام في ظروف البلدين، فقد ارتكبت المعارضة في كل منهما خطأ كبيراً في موقفها تجاه رموز النظام السابق في مصر وأركان النظام الحالي في سوريا. وعلى رغم أن أطرافاً أساسية في المعارضة السورية والمصرية بدأت في الانتباه إلى هذا الخطأ متأخرة، فثمة انقسام في صفوفها بشأنه، الأمر الذي يؤثر سلباً في سعيها إلى منع النظام “الجديد” من الهيمنة على الدولة والمجتمع وإقامة ديكتاتورية تلبس رداء دينياً في حالة مصر، ويضعف قدرتها على تغيير “النظام القديم” الذي يهيمن على الدولة والمجتمع ويقيم ديكتاتورية منذ عقود في حالة سوريا.
ويبدو الخطأ واحداً من الناحية المنهجية، وإن طبعته الظروف المختلفة بطابعها الخاص في كل من البلدين. فقد أدت سيولة مفهوم “الفلول”، وهو لفظ يُطلق على رجال النظام السابق في مصر وحزبه (الوطني الديمقراطي) الذي تم حله منذ أبريل عام 2011، إلى إرباك القوى المعارضة لنظام “الإخوان”. فقد اتخذت القوى التي شاركت في الاحتجاجات التي أحدثت التغيير، وتلك التي ساندتها، موقفاً صارماً ضد المحسوبين على النظام السابق طول الفترة التي أدار فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة شؤون البلاد، أي منذ 11 فبراير 2011 وحتى أول يوليو 2012 عندما دخل الرئيس الجديد محمد مرسي قصر الرئاسة.
ولم تجد قوى المعارضة ما يدفع إلى مراجعة هذا الموقف بعيد تولى مرسي رئاسة الجمهورية على رغم أن ميل “الإخوان” إلى المغالبة كان قد بدأ في الظهور. غير أن خيبة الأمل في سياسة النظام التي أظهرت جموح جماعة “الإخوان” إلى الهيمنة على الدولة، فضلاً عن عجز السلطة الجديدة عن وضع حد لتفاقم أزمة البلاد، خلق وضعاً جديداً أحدث خلافاً في أوساط هذه القوى تجاه رجال النظام السابق وحزبه.
فقد بدأ فريق منهم في مراجعة موقفه تجاه من يُطلق عليهم “الفلول” باستثناء من ارتكبوا جرائم مالية أو جنائية.
ولكن فريقاً آخر لا يزال متشبثاً بهذا الموقف ورافضاً إعادة النظر فيه على أساس أن طغيان السلطة الجديدة لا يغسل أيدي أعوان السلطة القديمة من إثم مساندتهم لها، وانطلاقاً من أنه موقف مبدئي ثابت لا يجوز إخضاعه لحسابات سياسية متغيرة.
ويعتبر هذا الخلاف نقطة الضعف الأساسية في “جبهة الإنقاذ الوطني” التي تضم أبرز القوى المعارضة للسلطة الجديدة في مصر، ومصدر التهديد الأول لتماسكها واستمرارها. كما يحول هذا الخلاف دون توحيد قوى المعارضة كلها لأن بعض أطرافها ترفض الانضمام إلى “جبهة الإنقاذ الوطني” بسبب وجود من يعتبرونهم رموزاً للنظام السابق وأعضاء في حزبه بين صفوفها.
وقد اختلفت قوى المعارضة السورية هي الأخرى بشأن الموقف تجاه أركان نظام الأسد وجيشه الذين لم يلوث الدم أيديهم وقادة حزب “البعث” وأعضائه. وظل صوت الاتجاه الأضعف الذي يفضل التمييز بين من تتوجب محاسبتهم وغيرهم ممن لم يرتكبوا جرائم ضد الشعب خافتاً حتى وقت قريب عندما دعا رئيس “الائتلاف الوطني” معاذ الخطيب إلى محاورة مسؤولين في النظام وطرح مبادرة في هذا الشأن. ولكن تجاهل النظام لهذه المبادرة دعم مركز الاتجاه المتشدد في المعارضة خلال اجتماع الهيئة السياسية للائتلاف الوطني في القاهرة الأسبوع الماضي. فلم يتطرق البيان الصادر عنه إلى هذه المبادرة التي اعتبرها بعض أعضاء الهيئة منتهية.
ولكن هذا البيان تضمن ما قد يمكن اعتباره بداية متواضعة لتصحيح الخطأ عندما أشار إلى أن الحل السياسي للأزمة يعني جميع السوريين بمن فيهم الشرفاء في أجهزة الدولة والبعثيون الذين لم يتورطوا في جرائم ضد الشعب. ولكنه لم يتطرق إلى المسؤولين في هذه الأجهزة ناهيك عن كبار الشخصيات في النظام وحزبه على رغم أن الكثير منهم لا يزالون موالين للأسد اضطراراً وليس اختياراً لأنهم يخشون على أنفسهم بعد أن ارتبط مصيرهم به، في الوقت الذي لا تفتح فيه المعارضة لهم باباً يخرجون منه مطمئنين على أنفسهم وعائلاتهم. ومع ذلك يمكن أن تكون هذه بداية لتصحيح الخطأ على نحو يتيح توسيع نطاق الانشقاقات عندما يطمئن من يتمرد على النظام.
فلم تتفق قوى المعارضة السورية، قبل بيانها الأخير، إلا على طمأنة الأقليات العلوية والمسيحية والكردية وغيرها. ولكن هذا موقف لا يؤثر كثيراً في مسار الصراع لأن رسالة الطمأنة موجهة إلى من يصعب بث الاطمئنان في قلوبهم. فمن أصعب الأمور إقناع معظم العلويين بأن أحداً لن يتعرض لهم في حالة تغيير نظام الأسد. ولا يقل صعوبة إقناع المسيحيين بأن المواطنة التي يتمتعون بها، وهي الحسنة الوحيدة حصرياً تقريباً للنظام، لن تتراجع في الوقت الذي لا تتوافر لديهم فيه ثقة في أن “الإخوان” والسلفيين لن يكونوا في قلب النظام الجديد.
ويعني ذلك أن هذه المعارضة تحاول أن تطمئن من يصعب إقناعهم بأنهم لن يكونوا ضحايا تغيير نظام الأسد، بينما تحجم عن توجيه رسالة واضحة إلى من تسهل طمأنتهم.
ولذلك تخطئ المعارضة السورية، مثلما لا تصيب المعارضة المصرية، عندما تعجزان عن الاتفاق على موقف موحد تجاه المسؤولين في نظامي الأسد ومبارك. والأرجح أن كلاً من المعارضتين سيكون في موقف أقوى في حالة الاتفاق على أن المصلحة الوطنية تتطلب عدم تحميل مسؤولين لم يرتكبوا جرائم ذنب غيرهم. وهذا هو ما يقتضيه الإنصاف أيضاً. كما تفرضه الحسابات السياسية المجردة التي تقوم على ضرورة التمييز بين التناقض الرئيس والتناقضات الثانوية. والأكيد أن سعي سلطة “الإخوان” وأعوانهم إلى الهيمنة على مصر، ومحاولة سلطة بشار الأسد وأتباعه استمرار السيطرة على سوريا، هما التناقضان الرئيسيان بالنسبة إلى المعارضة في البلدين، أما كل ما دون ذلك فهو من نوع التناقضات الثانوية التي لا يضعها العقلاء فوق التناقض الرئيس.
الاتحاد