خطة متأخرة للتحول الديموقراطي/ ياسين الحاج صالح
الملاحظة الاولى التي تفرض نفسها بخصوص “خطة التحول الديمقراطي في سورية”التي صدرت عن “المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية” و”بيت الخبرة السوري” في آب 2013، أن ما تقترحه من أفكار وتوجهات عملية يبدو منفصلا عن الديناميات الواقعية لتطور الصراع السوري. الخطة تبدو متأخرة عن وقتها الأنسب، وعن سير الأوضاع السورية عاما على الأقل. فإذا انطلقنا من اللحظة التي صدرت فيها قبل أيام، لزم قول كلام آخر، ربما يتمركز حول إعادة بناء الدولة، ككيان، وليس فقط كمؤسسة حكم، أكثر مما حول “تحول ديمقراطي” يفترض أصلا دولة متكونة.
عبر ما يزيد على 200 صفحة، تغطي الخطة ستة محاور للإصلاح في سورية تخلصت من النظام، ودخلت مرحلة انتقالية: أولها الإصلاح السياسي ودولة القانون، والثاني الإصلاح الإداري والسياسي، ثم إصلاح نظام الأحزاب والانتخابات، فإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وبناء جيش وطني حديث، وينشغل المحور الخامس بقضية العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، فيما يترك الإصلاح الاقتصادي للمحور السادس والأخير.
وتثير كلمة إصلاح الارتباك في سياق يتكلم على ثورة، ولا يبدو أن هناك ما يمكن إصلاحه أو البناء عليه من مؤسسات النظام. الخطة نفسها لا تقول إن هناك ما يمكن البناء عليه. هذا يحيل في تقديرنا إلى مرجعية الخطة أو الأدبيات المماثلة التي اقتدت بها، وترجمتها إلى سياق سوري أكثر تعقيدا.
ويغيب عن الخطة محور خاص بشأن يفترض المرء أنه مهم جدا في سورية ما بعد البعثية وما بعد الأسدية: تصور هوية سورية. قيل بعض الكلام عن الأمر في الفصل المتعلق بالإصلاح الدستوري، لكنه لا يحيط بالأهمية السياسية الكبرى للمشكلة وحساسيتها وحدتها المتزايدة. هل ستكون سورية إسلامية بعد أن كانت عربية؟ وهل لإسلامية أن تعني شيئا غير سنية في بلد تشكل أقليات متنوعة نحو ثلث سكانه؟ أم تكون بلدا متعدد القوميات بعد أن كانت “قلب العروبة النابض”؟
تصورنا للنظام السياسي مرتبط بتصور الهوية الوطنية. وإن كان حسم الأمر صعبا اليوم على ما تقول الخطة فعلا، فقد قالت أشياء كثيرة في أمور أخرى يصعب الحسم في شأنها. وكان ملائما لو زكّت تصورا محددا، متوافقا مع “التحول الديمقراطي” الذي تخطط له.
نفتقد أيضا تصورا لدور سورية الجديدة في محيطها الإقليمي، ولا نجد كلمة واحدة عن قضية الجولان المحتل أو فلسطين. لا شيء يمكن أن يسوغ ذلك، وتناوله ليس خضوعا لابتزاز عقيدة الممانعة أو دفع جزية بلاغية لها، بل هو يرتبط بتصور سورية الجديدة وتوجهاتها. لا يمكن أن يبنى شيء قريب من إجماع سوري على الصمت على هذه القضايا المهمة.
على أن أضعف محاور الخطة وأكثرها انفصالا عن الواقع هو المحور المخصص للإصلاح الاقتصادي. يصدر التفكير هنا عن مقدمات ليبرالية تقليدية، تتكلم ببراءة أو بغفلة على “الحرية الاقتصادية” و”الانتقال إلى السوق الحر”. ومن قلة الإحساس أن يرى واضعو الخطة في اتساع نطاق الفقر وتضاعف نسب البطالة وانهيار العملة المحلية “فرصة حقيقية نادرة لبناء نظام اقتصادي حر يقوده السوق وأن يتم ذلك بسرعة بمجرد انتهاء الأزمة”. هذا كلام غير مسؤول، لا يبدو أن قائليه يعرفون شيئا عن معنى الفقر والبطالة، والعواقب الاجتماعية انهيار الليرة. ما تحتاجه سورية في مثل هذه الظروف هو، بالأحرى، دور تدخلي أوسع للدولة في حماية الأشد فقرا وحرمانا ممن دفعوا ثمن الثورة أكثر من غيرهم، وبخاصة اللاجيئن ومن فقدوا مساكنهم، والحيلولة دون تملك الخواص للدولة والموارد الوطنية، وإعطاء أولوية أكبر لنهوض الدولة بوظائف اجتماعية حيوية في مجالات التعليم والصحة، والتمييز الإيجابي لمصلحة مناطق بعينها، وإعادة توزيع الدخل لمصلحة الشرائح الأكثر حرمانا. هناك دوغما سوقية (بمعنيي الكلمة) تهدد بالحلول محل الدوغما الدولتية، ولا يبدو أن أصحاب الخطة يتبينون أن أول من يستفيد من “نموذج اقتصادي يحكمه السوق” هم الأكثر ثراء وامتيازا، بمن فيهم حتما بعض من أثروا في ظل النظام الأسدي، وبعض من أثروا بنهب الأملاك العامة في ظل الثورة، وليس عموم السوريين، ولا الاقتصاد السوري. بالمقابل يشكل الفقر والتهميش بيئة خصبة لانتشار المجموعات الجهادية التي تشكل اليوم تحديا سوريا كبيرا، تحديا لم تكد تلحظه الخطة أو “تخطط” للاستجابة المؤثرة عليه.
تورد الخطة معلومات عن سير الثورة أقل مما يلزم بكثير من أجل التأريخ لها، وأكثر مما يلزم بكثير من أجل خطة سياسية عملية، ولا يبدو أن هناك فكرة واضحة تنتظم المعلومات المختارة أو تسوغ إيراد وقائع وإغفال وقائع غيرها. وهذا ما تسبب في إطالة الوثيقة التي يسهم أسلوب كتابتها المفتقر للحيوية في جعل قراءتها مضجرة وأقرب إلى عقاب. كان يمكن للخطة أن تنال اهتماما أوسع لو كانت من 30 أو 40 صفحة، ولو اعتمدت أساسا على الخبرة السورية والنتاج السوري بدل ما يبدو أنه نسج على منوال وثائق من صنفها في بلدان مرت بأوضاع مقاربة.
موقع الجمهورية