خطر السعادة الثورية على الثورة… وعلى السعادة
دلال البزري
كما في الحب في لحظاته، أو سنواته الأولى، كذلك في الثورة. الذي عاشها بملء جوارحه لا يمكن أن ينسى تلك البهجة، تلك النشوة التي جعلته كائناً خفيفاً مرفوعاً إلى سابع السموات، تلك الوثبة العملاقة التي قذفته إلى قلب المستقبل… كل هذا ليس بالقليل على من عاشه، حباً كان أم ثورة.
لذلك فإن الثوار، هؤلاء الذين لا ينسون لحظات ثورتهم الأولى، لا يريدون أن ينسوا ما غمرهم من سعادة وقتها. تراهم يتشبثون بذكراها، يحملونها باعتزاز على أكتافهم، يرتّلون أقوالها وشعاراتها بتقوى دينية، يستعينون بـ”روحها” كلما تعثّرت سبلهم؛ كأن وفاءٌ مسَّهم أو حنين…
وباسم واحد من الاثنين، الوفاء أو الحنين، يصيبهم الكدر والخيبة والمرارة، من أن هذه الثورة، التي وُضعت فيها جوارحهم على أكفّهم، لم تستمر على بهجتها الأولى، بل تحولت إلى وحول ومستنقعات وفوضى ودماء… أي كل ما يمكن أن يخون تلك اللحظات الأولى من الغبطة السماوية، ويحول أحلامها الكبيرة إلى كابوس مملوء بالتراب.
هؤلاء الذين يبحثون عن سعادتهم الضائعة، وسط المعمعات الضرورية لما بعد الثورة، قد يكونون أخطر الناس على مسارها. سعادتهم الشخصية مرهونة بالتطورات الآتية على مزاجهم الثوري. يعبسون كثيراً، بعد الثورة، يتجهّمون، يتكدّرون، يحزنون. بالطبع كانوا يتوقعون شيئاً آخر من تلك الإحتفالية العارمة بالحياة التي اسمها ثورة، كانوا يرنون إلى إدامتها، هذه الاحتفالية، وإلى التحليق مجدداً في فرحتها المُباغتة. لكن كما في الحب، كما في الحياة…. هكذا لحظات لها قيمة أخرى غير الاستحضار أو الاستشهاد.
لذلك، فإن مشكلتهم الكبيرة هي مع الزمن، مع الوقت: هم من حارقي المراحل، ليس في قاموسهم إلا قياس واحد لهذا الوقت؛ المدى القصير. الآن الآن… وليس غداً… إنها حمى استعادة تلك الطوبى على الأرض، متجاوزين وقائع أكثر عناداً من حرقتهم وحنينهم. وبما أن هذه الوقائع صامدة، تحتاج إلى وقت وحظ لكي تفتح ذراعيها للتغيير “المنشود”، فإن الثورة تتحول، مع هذا الصمود، إلى أيقونة، إلى موضوع عبادة وتذكّر، وتختزل ربما إلى صورة أو صلاة أو نشيد. وكما الحب المنتهية ولايته، مع الوقت تبهت هذه الصورة، يصيبها الشحوب، تعشش على جنباتها الطفيليات… ولكن تبقى…
في هذا المناخ ينبت الثوار المستبدّون، الذين يعيدون سكة الثورة إلى صفائها الأول، إلى قيادتهم، رابطين ربطاً محكماً بين سلطتهم المطلقة وبين “مطالب” الثورة: روبسبيير الثائر الفرنسي الطاهر والنظيف، ستالين، المتمسك بأهداب الثورة وحافظها من التبدلات والأمزجة والطبائع والمصالح والثقافات…. وجميع نظرائهم من الثوار المطلقين؛ حتى غيفارا الذي لا يعرف رافعو صورته الرومنطيقية أنه كان مستبداً صغيراً، بحجم إمارة رجال العصابات الذين قادهم في جبال بوليفيا؛ أو تروتسكي، “الأطهر” من بين قادة الثورة الروسية…. هل كان سيكون أقل تسلطاً من غريمه ستالين لو كان أقوى منه في لعبة السلطة التي أخذت بتلابيب هذه الثورة بعد نجاحها؟ كما في كل الثورات؟
كل هؤلاء “العظماء” ما كان لهم أن يرتفعوا إلى قمة السلطة الثورية القاهرة لولا حجتهم الثورية: من اننا كلما زدنا من جرعة التضحيات البشرية وغير البشرية فداء للثورة، لزم علينا ان نضيف جرعة أكبر من التضحيات نفسها، المسماة “عقبات” أو “عراقيل” أو، خصوصاً، “مؤامرة”… تقف كلها بوجه “مسيرة الثورة”… تحقيقاً لهدفنا الثوري. تلك هي مفارقة الثورات العظيمة؛ إنها من جهة في سباق مع وفائها للحظاتها الأولى، ومع الوقت أي “المؤامرات” و”العقبات”. ولكنها من جهة مقابلة مهدَّدة بالهجران، بعدما حولها الزمن إلى أيقونة شعبوية.
كما في الحب تماماً؛ لو بقيتَ مصراً على إعادة إحياء لحظاته، أو سنواته الأولى، وعلى تحطيم كل ما حولك من أجل بلوغ هذا الإحياء، وفي زمن يمتد ويطول… فسوف يصيبكَ العارض نفسه: مستبد على نفسك وعلى من حولك، تبتلع المرارة تلو الأخرى من أجل شيء يبتعد عنك وعن واقعك سنوات ضوئية، وينتهي بك الأمر إلى شيخوخة لا تُطاق، بطبائع فتاكة، حجتها الوحيدة وجه أكل الزمن ملامحه وحولها إلى رماد.
كل هذا ليس ذماً بالثورات، خصوصاً تلك التي نشهد بداياتها وأواسطها الآن…. بقياس زمننا المعيوش طبعاً، لا الزمن التاريخي المديد. ولا ذماً بالحب بطبيعة الحال. انها بالأحرى دعوة إلى النظر للثورات بغير الحماسة الرائعة التي استقبلناها لدى اندلاعها. أولاً لأن هذه الثورات، ومهما حرصنا على أداء أبطالها، الأولين منهم خصوصاً، لم تكن من صنعنا ولا من إعدادنا ولا من توقيتنا. ولا هي طبعاً “مؤامرة صهيونية امبريالية”. كانت اشبه بأفعال الطبيعة الجبرية التي تجرّنا بأيدينا إلى نهرها المتدفق العميق، بتياراته الخطيرة المتضاربة. ليست كالثورة البولشفية خصوصاً، الراسخة في دماغنا، والقائمة على الطبقة والحزب “القائدين” والنظرية المنحوتة… ومع ذلك انظر إلى مآلها. كوننا استمتعنا أشد المتعة باللحظات المفرحة لهذه الثورة، كوننا متمسّكين بنسائم هذه اللحظات… يملي علينا واجب محدّد تجاه أنفسنا: واجب بناء المسافة اللازمة إزاءها، لكي لا تتحول مجرياتها إلى مصدر تعاسة شخصية وإحباط وسوداوية، يصحبها بالضرورة بطش وعنف وأثمان رهيبة… في حال لم تَعُد، تلك اللحظات، وهي لن تعود. هي المسافة الحافظة للعقل وللحس السليم. والمسافة التي تجعل النقد ممكناً، والتي تحفظ مسار الثورة عن تبدلاتها واختلالاتها، عن الفوضى العارمة، ابنة الديكتاتوريات الجديدة، عن انغلاق ثورييها على حبهم الأول، على لحظات عشقهم لأنفسهم ولغيرهم يوم حلّت عليهم تلك الأيام التي لا تُنسى… ساعتها، لن يفيد التباكي أو التخوين أو التعاسة الشعرية.
نقد الثورة أيضاً يأتي من التوغل في مضاعفاتها الزمنية. والتساؤل عن العلاقة الممكن قيامها بين مستويات المدى المتوافرة: المدى القصير والمتوسط والطويل. المستعجلون هم على خطأ طبعاً، ولكن ماذا عن المتباطئين؟ متحججون كانوا بالبطء أم متذرعين به أم ناظرين اليه، مجرّد ناظرين؟ ماذا عن المؤجِّلين؟ أصحاب خطة كانوا أم مجرد صابرين؟ ماذا عن الخالطين خلطاً عشوائياً بين الأزمنة كلها، القريب والمتوسط….؟ مهرّجين كانوا أم ديماغوجيين؟ كل مدى له حقه في التاريخ. ولكن التاريخ ليس لوحاً مكتوباً سلفاً، “على الجَبين”… والمساهمة في صياغته تتطلب تشبيكاً معقداً بين الأزمنة؛ تداخلاً بين الآجال، لا ينفي التناقض، ولا يستبعد أيضاً التناغم.
أصحاب الأدوار في مرحلة ما بعد الثورة كثيرون، وهذا طبيعي لأن الثورات، تعريفاً، هي تفريغ السلطة من رجالاتها القدماء. وبما أن لا شيء يكره الفراغ قدر ما تكرهه السلطة، ترى اللاهثون عليها في حمى غريبة ونشاط، بعد نوم؛ كلٌ يستقتل من أجلها. وفي المروحة الواسعة من المرشِّحين أنفسهم لهكذا أدوار، هناك “الفلولي”، والطموح، والعسكري والإسلامي، الليبرالي والقومي واليساري و… نكاد نضيف “الثوري” لولا اختلاطه بمن سبقوه. والسؤال هو: كيف يتعامل هذا “الثوري” مع المفاجآت التي طلعت بوجهه بعد الثورة؟ من بشاعة وكراهية وتذرر وعنف… بعدما ذاق في لحظاته الثورية كل حلاوة الجمال والحب والاندماج والسلمية؟
المستقبل