خطوطنا الحمر وخطوطهم الحمر/ بنجامين بوتش وسكوت ساغان
معلومات جديدة تظهر سبب عدم استخدام صدّام أي أسلحة كيماوية في حرب الخليج
إذا كانت الحرب الأهلية السورية، وبشكل خاص اعتداء الغوطة المرعب في آب الماضي، قد ذكّرا العالم بالخطر الدائم للأسلحة الكيماوية، فمن الجدير أن نتذكّر أنّ هذه ليست المرة الأولى التي واجهت فيها الولايات المتحدة دكتاتوراً مدججاً بأسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط.
خلال حرب الخليج العام 1991، كان صدّام حسين يمتلك مخزوناً كبيراً من الأسلحة الكيماوية، استخدمه مرات عديدة في حربه مع إيران التي دامت 8 سنوات خلال الثمانينات. ومع ذلك، لم يستخدم العراق هذه الأسلحة ضدّ القوات الحليفة بقيادة الولايات المتحدة، حتى بعد أن هزمت الجيش العراقي شرّ هزيمة، وأخرجته من الكويت لعقدين من الزمن، فالسؤال المطروح إذاً، لماذا لم يستخدمها؟
اعتبر بعض المسؤولين الأميركيين أنّ صدّام امتنع عن استخدام الأسلحة الكيماوية بسبب تهديدات أميركية غامضة بالقيام بانتقام نووي وتهديدات صريحة بتغيير النظام. غير أنّ ثمة معلومات قالها صدّام للمحققين معه عقب إلقاء القبض عليه- قبل 10 سنوات- بالإضافة الى تسجيلات نُشرت مؤخراً لاجتماعات صدّام مع مستشاريه، تقول العكس.
فقد رأى صدّام الأسلحة الكيماوية كآخر ورقة رابحة، يمكن أن يحتفظ بها لثني الأميركيين والإسرائيليين عن استخدام الأسلحة الكيماوية، والبيولوجية، والنووية، ولمنع قوات الإئتلاف من السير نحو بغداد. ومن ثم استنتج صدّام بأنّ استراتيجيته الرادعة قد نجحت، قائلاً لمستشاريه إنّ العراق فازت بالحرب لأن الولايات المتحدة أوقفت عمليات القتال بعد أن انسحب العراق من الكويت.
هكذا وفيما يعمل المجتمع الدولي على نزع ترسانة بشار الأسد من الأسلحة الكيماوية، على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في الدروس الحقيقية التي استخلصتها من حرب الخليج. لأنّه إذا لم يجر نزع سلاح سوريا بسهولة كما هو مُخطّط، فإنّ الردع الفعّال والدبلوماسية الذكية سوف يكونان أساسيين من أجل الحؤول دون أي استخدام للأسلحة الكيماوية في المستقبل.
فيما كانت الحرب بين الولايات المتحدة والعراق تلوح في الأفق في كانون الثاني 1991، أرسل الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الابن وزير الخارجية جيمس بايكر الى جنيف للقاء وزير الخارجية العراقي طارق عزيز. وكانت مهمته إيصال تهديد شفهي لعزيز ورسالة رئاسية مُصاغة بلغة دقيقة لصدام حسين.
وجاء في رسالة بوش أنّ “الولايات المتحدة لن تتقبّل استخدام أسلحة كيماوية وبيولوجية أو تدمير حقول النفط في الكويت… أنت وبلدك سوف تدفعان ثمناً كبيراً في حال أمرت بالقيام بأفعال من هذا النوع لا تراعي الضمير”. ومن جهته استخدم بايكر لغة تحذيرية أقسى وأكثر صراحةً، قائلاً لعزيز إنّه إذا استخدم العراق أسلحة كيماوية أو بيولوجية، “سوف يطالب الشعب الأميركي بالانتقام. ولدينا وسائل تنفيذ ذلك… هذا ليس تهديداً، هذا وعد”. ومن ثمّ حذّر من أنّه في حال استخدام مثل هذه الأسلحة، لن يكون “هدف الأميركيين هو تحرير الكويت، بل التخلّص من النظام العراقي الحالي”.
إلاّ أنّ عزيز رفض توصيل رسالة بوش الى صدّام، ولم يتضّح ما إذا كان صدّام قد قرأها. ففي التحقيقات معه عقب اعتقاله، زعم الرئيس العراقي بأنّه لم يعلم حتى بأنّ تهديدات بايكر كانت متعلّقة باستخدام الأسلحة الكيماوية.
حتى إن لم تصل الرسائل، فإنّ طبيعة التهديدات الأميركية جعلت منها غير فعّالة على الأرجح. فقد سبق لبايكر أن هدّد بقلب النظام إذا رفض صدّام الانسحاب من الكويت. فإذا كانت الولايات المتحدة قد هدّدت بالقيام بقلب النظام في حال استخدام صدّام الأسلحة الكيماوية أو عدم استخدامه لها، فقد لا يكون التهديد شكّل رادعاً فعالاً. وبالإضافة الى ذلك، فقد أمر صدّام بحرق حقول النفط الكويتية ولم ينسحب من الكويت، وهذا دليل آخر على أنّ التهديدات الأميركية لم تردعه.
هذا ولا تدعم التسجيلات التي نُشرت حديثاً لصدّام فكرة أنّ تهديدات بايكر قد أثّرت بشكلٍ كبير على قرارات العراق. فبعد أيام قليلة على تحذير بايكر لعزيز من استخدام أسلحة كيماوية أو بيولوجية، كان صدّام يجهّز قواته للقيام بالضبط بما حُذّر منه. ففي اجتماع له بقائد قواته الجوية وصهره في منتصف شهر كانون الثاني، قال: “أريدُ التأكّد من أنّ — أغلق الباب [صوت باب يُغلق بعنف] — رؤوس الطربيد النووية [الجرثومية] والكيماوية، والقنابل الكيماوية والجرثومية متوفرة “للأشخاص المعنيين”، لكي يتمكنوا، في حال أمرنا بهجوم ما، من تنفيذ الهجوم بدون أن يُغفلوا أياً من الأهداف”. وقد حدّد كذلك صدّام الأهداف: “الرياض وجدّة، أكبر مدينيتين سعوديتين يوجد فيهما كل أصحاب القرارات والحكّام السعوديين… وكذلك المدن الإسرائيلية، كلّها”. ولدى سؤاله متى سيتم استخدام الأسلحة البيولوجية، أجاب “فقط في حال أٌجبرنا على ذلك وكان هناك ضرورة كبيرة لاستخدامها”.
وقبل شهر من اجتياحه الكويت، قال صدّام “وفقاً لحساباتنا التقنية، والعلمية والعسكرية، [فإنّ أسلحة العراق الكيميائية والبيولوجية] هي رادع كافٍ لمواجهة السلاح النووي الإسرائيلي”. ومع ذلك قال لمستشاريه العسكريين بأن يجهّزوا خيارات للقيام بانتقام بواسطة أسلحة الدمار الشامل، كضربة انتقامية، إذا لزم الأمر. “أعلم أنّه في حال [تعقّدت الأمور]، سوف يستخدم الأميركيون والبريطانيون الأسلحة الذرية ضدّي، وستفعل مثلهم إسرائيل. الأشياء الوحيدة التي أمتلكها هي أسلحة كيماوية وبيولوجية، وعليّ أن أستخدمها. ليس لدي أي بديل آخر”.
إنّ ثقة صدّام في أسلحته الكيماوية كرادع استراتيجي ترتكز في جزء منها الى اعتقاده بأن أسلحته أقوى بكثير ممّا كانت هي عليه في الحقيقة. فقد أكّد صدّام لمستشاريه، على نحو غير صحيح، بأنّ ترسانته من الأسلحة الكيماوية العراقية أقوى بـ “200 مرة” ممّا كانت عليه في حرب إيران – العراق.
وعبّر صدّام كذلك عن رغبته باستخدام الأسلحة البيولوجية والكيميائية في حال حاولت الولايات المتحدة تسيير جيوشها نحو بغداد. وأثناء أحد التحقيقات معه بعد اعتقاله، زعم صدّام بأنّ “أسلحة الدمار الشامل كانت من اجل الدفاع عن سيادة العراق” وبأنّ “العراق لم يستخدم أسلحة الدمار الشامل خلال حرب الخليج العام 1991 بما أنّ سيادته لم تكن مهدّدة”. وأضاف قائلاً إنّه “كان سيُعتبر غبياً” إن هو استخدم الأسلحة الكيماوية والبيولوجية خارج هذه الظروف.
ويتوفّر كذلك دليل دامغ على أنّ صدّام سبق أن فوّض أحد الأشخاص باستخدام الأسلحة البيولوجية والكيميائية في حال حصول ضربة مدمّرة لبغداد. ففي المحادثة نفسها مع مستشاريه التي تعود لكانون الثاني من العام 1991، حول استخدام الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، ذكر “سوف أعطيهم أمراً ينص على أنّه في لحظة معينة، إذا لم أكن موجوداً ولم تسمعوا صوتي، سوف تسمعون صوت شخص آخر، يمكن أن تتلقوا الأمر منه، وحينها يمكنكم الهجوم على أهدافكم”.
هكذا وبما أنّ القوات الأميركية لم تعمد الى قلب النظام، حتى بعد أن تخطّى العراق أحد “الخطوط الحمر” الأميركية من خلال إشعاله حقول النفط الكويتية ، استنتجت القيادة العراقية أنّ الأسلحة الكيماوية والبيولوجية نجحت في ردع الولايات المتحدة. إذ يشير شارلز دولفير في تقريره الرسمي للـ CIA حول برنامج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية في العراق الى أنّ “العراقيين اعتقدوا أنّ امتلاكهم أسلحة الدمار الشامل (الأسلحة الكيميائية والبيولوجية) واستعدادهم لاستخدامها ساهما بشكل أساسي في ردع الولايات المتحدة عن السير نحو بغداد العام 1991”.
هكذا إذاً، وفيما يواجه القادة الأميركيون ديكتاتوراً آخر في الشرق الأوسط يمتلك أسلحة كيماوية، لديهم أربعة دروس ينبغي أن يستخلصوها ممّا جرى في العراق.
الدرس الأول، هو أنّه في التعامل مع الحكومات الفاشستية، قد لا ينفع الردع. فالمرؤوسون يكونون في الغالب مترددين في إيصال التهديدات [التي يُبلّغون بها]، والديكتاتوريون قد تكون تقديراتهم لقدراتهم العسكرية مضخّمة جداً بما أنّ “الرجال الذين يكتفون بالموافقة على كل ما يقولونه” من مرؤوسيهم يقولون ما يعتقدون أن الرئيس يريد سماعه. والأنظمة الفاشتسية تعتمد في الغالب على تحليلات مخابراتية ضعيفة لأهداف الولايات المتحدة وقرارتها. وبالتالي فإنّ نزع سلاح الدكتاتوريين، إذا كان ممكناً، يُفضّل على محاولة ردعهم.
الدرس الثاني، هو أنّه على الرغم من أنّ الحكومة السورية تحاول كما يبدو واضحاً كسب رضا المجتمع الدولي من خلال تعاونها مع خطة الأمم المتحدة لنزع الأسلحة، فإنّ بشار الأسد قد يرى السلاح الكيماوي كرادع استراتيجي تماماً كما كان صدّام يراه. وهذا الأمر يُرجّح على وجه الخصوص كون أحد الدروس التي بينتها حرب العراق (ومؤخراً حرب ليبيا) هو أنّ الولايات المتحدة قد تنجح في تغيير النظام حتى بعد أن يسلّم البلد أسلحته ذات الدمار الشامل.
وبالتالي قد يمتنع الأسد عن تسليم آخر مخبأ لديه من الأسلحة الكيماوية، محتفظاً بقسم منه كسياسة يضمن بها عدم تعرّضه لأي هجوم في المستقبل. وبالفعل تشير بعض التقارير الصحافية الأخيرة الى أنّ وكالات الاستخبارات الأميركية تخشى أن يستبقي الأسد لديه جزءا من أسلحته الكيماوية.
والدرس الثالث يتمثّل بوجود توتّر بين رغبات الولايات المتحدة برؤية سوريا منزوعة السلاح النووي تماماً وتصريح إدارة أوباما بأنّ هدفها هو تغيير نظام الأسد. فهل الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة هي الإطاحة بنظام الأسد أو الحد من خطر استخدام الأسلحة الكيماوية في المستقبل؟ إذا كان هدفها هو الأخير، قد تحتاج الولايات المتحدة الى إصدار تطمينات أمنية أوضح، أو الى القول إنّ الحكومة [السورية] سوف تُكافأ في حال قامت بتسليم الأسلحة [الكيميائية] كاملة.
وأخيراً، إذا كان هناك عقبات في عملية نزع الأسلحة، على الإدارة أن تستخدم اولاً إجراءات الامم المتحدة للتفتيش والتحقّق المتفّق عليها، وأن تحذر حذراً شديداً من إصدار تهديدات لا تنوي تنفيذها فعلياً. فإن الإعلان عن الخدعة التي نعتمدها يضعف من قوة أي تهديدات مستقبلية تهدف الى الردع ويزيد من احتمال أن نتعرض للتحدي. وبتعبير آخر لبرينت سكاو روفت، حول حرب الخليج العام 1991، “يُعدّ تصرفاً سيئاً أن تقوم بالتهديد بأمر ليس لديك أي نية بتنفيذه”.
فورين بوليسي