خوان خوسيه سائِر في ميلاده الثمانين: بوتقة للهويات/ أحمد عبد اللطيف
من أبوين وأجداد سوريين كاثوليكيين، ولد خوان خوسيه سائر (1937-2006)، أحد أهم الأسماء الروائية الأرجنتينية في القرن العشرين، ببلدة سيردونيا بمحافظة “سانتا في”، وهي بلدة ضمت في أغلبها عائلات مهاجرة تعمل في التجارة، المهنة التي اختارها أبوه. وفي سن مبكرة جدًا صادق الكُتّاب وعمل بالصحافة، بل إنه أصدر كتابه الأول عام 1960، وهو مجموعة قصصية بعنوان “في المكان” ظهرت فيها ملامح بورخسية غير أنه ذهب لتحديد المكان أكثر.
بداية من هذا الكتاب، توالت أعمال سائِر بوتيرة سريعة، هكذا صدرت له رواية “نشيد” (1964) و”العودة التامة” (1966)، وهما روايتان وجوديتان، كذلك مجموعة “عصا وعظام” (1965) و”وحدة المكان” (1967). غير أن النقد يقدّر مرحلته الفرنسية أكثر، وهي المرحلة التي انتقل فيها إلى باريس منذ 68، وأصدر فيها “جروح” (1969) وعمله الأهم “شجرة الليمون الحقيقية” (1974).
عرفت أعمال سائر السردية بالتجريبية، خاصة في روايته “لا أحد لا شيء أبدًا” (1980) التي تميزت بحبكتها البوليسية، وقال عنها مؤلفها بنفسه إنها “أكثر أعمالي تجريبية”. والحقيقة أنها العمل البارز الذي وضع سائِر في الصف الأول من كُتّاب الإسبانية. وربما على المستوى الشكلي حقق ما أراد، إذ عاد بعد هذا العمل إلى المنطقة السردية الآمنة حيث الأعمال سهلة القراءة مثل “الربيب” “السهل” “حاشية” “المناسبة”، وهي رواية تاريخية تدور في القرن التاسع عشر، وفازت بجائزة نادال الشهيرة.
سائر والواقعية السحرية
ظهرت أولى أعمال سائر في وقت كان تيار الواقعية السحرية ظاهرة في عالم النشر، وكانت قوة التيار قادرة على أن تقصي أي كتابة أخرى، لذلك ظل الكاتب الأرجنتيني في الظل حتى الثمانينيات، وبداية من هذا العقد تجلت أعماله وحققت شهرة كبيرة، ليس في الأرجنتين فقط، بل في أوروبا أيضًا. في المقابل، رأى بعض النقاد أن سائِر يقترب في عوالمه وأسلوبه من وليم فوكنر، حيث يعمل على أسطرة مدينة ويكتب سرديته بلغة مشغولة ويقدم وجهات نظر مختلفة لنفس الحكاية، ورغم أنها تفاصيل يقترب فيها من تيار الواقعية السحرية، إلا أنه لم يُحسب على هذا التيار.
الحقيقة أن الكاتب الأرجنتيني كان خارج أي تصنيف، ولعل أفضل ما قيل عنه ما قاله ريكاردو بيجليا: “أن نقول إن خوان خوسيه سائر أفضل كاتب أرجنتيني معاصر معناها، بطريقة ما، التقليل من قيمة أعماله. الصواب أن نقول، بدقة أكثر، إن سائر أحد أفضل الكُتّاب المعاصرين في كل لغات العالم، وإن أعماله مثل أعمال بيرنهارد وصمويل بيكيت تقع على الضفة الأخرى من الحدود، في أرض لا أحد، وهي أرض الأدب نفسه”.
عوالم سردية
يتميز عالم سائر بانشغاله الميتافيزيقي وجمالياته الموحدة، بحسب الناقد خوليو بريمات، ما يعني أن كل أعماله مشروع واحد ممتد، ورغم أن كل رواية لها خصوصيتها وبنيتها المميزة إلا أن الموضوعات واحدة، وهو ما يمكن اعتباره، بحسب سائر نفسه، “عملاً واحداً كبيراً”. داخل هذا المشروع يتجلى استعراضه لغرابة العالم لا من أجل أن يتوصل لإجابة قاطعة فيها، بل بالتحديد لوصفها وربط مفرداتها بعضها ببعض معيدًا بذلك إنتاج نفس الواقع، لكن من زاوية رؤية مختلفة. بناءً على هذه الرؤية، يبرز في سائر ما هو شعوري في مقابل ما هو واقعي، والتأليف في مقابل التصوير. بمعنى آخر، ينتصر للمجاز في مقابل المباشرة، وهي طريقته للغوص في الذات الإنسانية وحكي حكايتها.
سائر، في نهاية الأمر، فنان لم يلتفت للنجاح والشهرة، فخلال أكثر من عشرين عامًا كان يكتب وينشر بصبر وصمود دون أن ينال إلا القليل من الالتفات النقدي والكثير من التجاهل القرائي، وربما كان ذلك مفيدًا ليمارس هوايته في التجريب دون أي ضغوط من معايير السوق والقارئ المفترض.
هنا واحدة من قصصه القصيرة:
قصة في السر
اشترى تاجر أثاث كرسيًا مستعملًا بمسند ثم اكتشف ذات مرة يوميات حميمية قد دستها إحدى مالكاته القديمات. لسبب ما، ربما موت أو نسيان أو هرب مفاجئ أو حصار، ظلت اليوميات هناك وعثر عليها التاجر، الخبير في ترميم الأثاث، بمحض صدفة عند نفض ظهر الكرسي ليختبر صلابته. في ذاك اليوم، ظل حتى وقت متأخر في متجره المكتظ بالأسرّة والكراسي والمناضد والدواليب، منهكمًا في الجزء الخلفي من المتجر في قراءة اليوميات الحميمية على ضوء لمبة، متكئًا على مكتب. كانت اليوميات تكشف، يومًا وراء يوم، مشاكل مؤلفتها العاطفية، وأدرك تاجر الأثاث، وهو رجل ذكي ومتحفظ، أن المرأة عاشت حياتها بشخصية غير شخصيتها الحقيقية، وأنه لصدفة لا يمكن تصديقها بات هذا الرجل يعرفها أكثر بكثير من كل هؤلاء الذين كانوا يحيطون بها وتظهر أسماؤهم في اليوميات. شرد تاجر الأثاث، وخلال شروده الطويل بدا له أن فكرة إخفاء شخص لشيء في بيته، بعيدًا عن نظر العالم – سواء كان ذلك يوميات أو أي شيء آخر – فكرة غريبة، شبه مستحيلة، غير أنه بعد دقائق، وفي اللحظة التي نهض فيها وبدأ يرتب مكتبه قبل العودة للبيت، انتبه، بشيء من المفاجأة، أنه هو نفسه، وفي مكان ما، يحتفظ بأشياء مختبئة يجهل العالم وجودها. في صندرة بيته، على سبيل المثال، وبداخل صندوق صفيحي مدسوس بين مجلات قديمة وخردوات بلا فائدة، يحتفظ تاجر الأثاث بلفة بها تذاكر تنمو وتتضخم من حين لحين، لفة لا يعرف عنها أولاده ولا زوجته شيئًا. بل إن التاجر نفسه لا يمكنه أن يشرح بطريقة محددة غرضه من الاحتفاظ بتلك التذاكر، غير أنه رويدًا رويدًا بدأ يتيقن بقلق أن حياته كاملة يمكن تعريفها لا بأنشطته اليومية التي يمارسها في ضوء النهار، بل بلفة التذاكر هذه التي تتآكل في الصندرة. وأنه من بين كل أنشطته يظل إضافة تذكرة إلى اللفة المتآكلة النشاط الرئيسي، بلا شك. وبينما كان يضيء اللافتة التي تملأ بالضوء البنفسيجي المحيط المعتم للرصيف، كان التاجر يقفز من ذكرى إلى أخرى: كان يبحث عن ممحاة في غرفة ابنه الأكبر حين عثر مصادفة على سلسلة من صور بورنوغرافية خبّأها ابنه في صندوق الكومودينو. أعادها التاجر سريعًا إلى مكانها ليس خجلًا بقدر ما هو خوف من أن يظن الولد أن أباه معتاد على انتهاك خصوصياته. تأمل تاجر الأثاث زوجته أثناء العشاء: للمرة الأولى بعد ثلاثين عامًا معًا تخطر بباله فكرة أن لديها ما تحتفظ به سرًا، شيئًا خاصًا بها ومدسوسًا في أعماق غائرة، حد أنها حتى لو أرادت ما استطاعت أن تعترف به ولو تحت التعذيب. شعر التاجر بشيء من الدوران. ليس الخوف المبتذل من أن يكون مستغفلًا أو مخدوعًا ما جعل رأسه يدور كمن لعب النبيذ به، بل اليقين من أنه، وهو على أعتاب الشيخوخة، على وشك أن يغيّر مضطرًا أكثر الأفكار الأساسية التي كوّنت حياته. أو ما سمّاها حياته: لأن حياته، حياته الحقيقية، بحسب حدسه الجديد، كانت تحدث في مكان آخر، في الظلام، بمنأى عن الأحداث، وكانت تبدو مستحيلة المنال أكثر من الرياض التي تحيط بالكون.
ضفة ثالثة