خياران في سورية: انقلاب داخلي وإلاّ تدخل خارجي
عبدالوهاب بدرخان
في دمشق يجزم رئيس النظام السوري بأن نهاية الأزمة باتت قريبة رغم أنه لم يمضِ وقت طويل على قوله إنها لا تزال في بدايتها… وفي الدوحة التأم حشد من الفنانين والمثقفين السوريين ليقولوا «قرّبنا يا الحرية»… قد تطول الطريق الى الحرية لكنها مآلها الطبيعي أن تشرق، وقد يفلح الاستبداد في إطالة مكوثه لكن مصيره الأفول والزوال. لا مجال لتعايشهما في أي منطقة «رمادية» رفضها رأس النظام في خطابه الأخير، وصار الآن يتمنّاها فهي التي أدامته طوال العقود السابقة.
ليس معروفاً اذا كان صدّق ما استمر يقوله لمدة ساعة ونيّف، أو اذا كان من يخاطبهم صدّقوا كلمة واحدة، خصوصأً عندما قال بشّار الأسد أن «حتى الوحوش لا تقوم بما رأيناه» في مجزرة الحولة. الوحوش؟ انه يعرف تماماً عمّن يتحدث، ويعرف الأمكنة، ويكاد يذكر الضحايا اسماً اسماً. حاول أن يبيع للعالم وللسوريين «المنتخبين» حديثاً لما يسمى «مجلس الشعب» رواية أن «عصابات» المعارضة هي التي ارتكبت مجازر الحولة والقزاز والميدان ودير الزور وحلب، وأنها هي التي أوقفت العمال على حاجز القصير وكبّلت أيديهم قبل أن تجهز عليهم وترمي جثامينهم.
للمرة الثانية كان المشهد في «مجلس الشعب» مروّعاً بسورياليته. في الأولى، بعد أيام على بدء الانتفاضة، كان محزناً بصخبه الملقَّن، وفي الثانية مذهلاً بصمته المبرمج. في الحالين لم يتغيّر الراوي ولا الرواية. وفي الحالين كان الجمهور من «المنتخبين – المعيّنين» للاستماع والتصفيق. ما اختلف هذه المرة أن الراوي استخدم جرائمه لينسبها الى ضحاياه، وكذلك نياته ومراميه، لكن الحقيقة صارت واضحة: شعب يريد الحفاظ على سورية الوطن ونظام لا يمانع تفتيته. ومجزرة الحولة دقّت ناقوس الخطر لأنها في وسط بؤرة التناحر المذهبي ومرتبطة برسم خريطة أطراف «الدويلة» المتوهَّمة.
بالنسبة الى النظام السوري، بدأ «الحل الأمني الدموي» للتوّ، فهو يريد أن يدحر «الفتنة» (الطائفية) بعدما هزم «المؤامرة الخارجية» رغم أن رئيسه يعترف أن «العدو صار في الداخل» وأن سورية باتت ملعباً دولياً على نحو أسوأ مما كانت عليه أيام الدويلات والغزوات الغربية الصليبية. بل انه شرع في مرحلة جديدة من «الحل الأمني»، متوسعاً الى لبنان، ليؤكد أنه بصدد الانتقام ممن لم يعترفوا بأنه أنجز الإصلاحات المتوقعة منه، وتوّجها بالانتخابات، وصار جاهزاً لـ «الحوار» اذا وافقت «المعارضة الوطنية» على المشاركة فيه. كل ما عدا ذلك هو عنده مجرد صراع مع «الإرهاب»، بمؤازرة من «خطة كوفي انان» اذا شاء أصحابها التعاون، وإذا لم يشأوا فمن دونها. لم يعترف العالم بما يسمى «اصلاحات»، لأنها ببساطة مجرد ترتيبات استخدمها النظام للتذاكي بإعادة انتاج نفسه والقول إنه تغيّر، وأرفقها برسائل كثيرة ملحّة خصوصاً باتجاه الأميركيين وعبرهم للإسرائيليين، لكن هؤلاء وغيرهم يعرفون الآن أنه يغرق ويريد إغراق سورية معه فلماذا يرمون اليه طوق النجاة. وحده الشعب، لا «الأوراق الإقليمية» كان يمكن ان ينقذه وإذ خسره الى غير رجعة لم تعد لتلك الأوراق سوى قيمة تخريبية لن تعيد تعويمه بأي حال. فلو أوقف القتل لكان أثبت أنه تغيّر، لكنه لجأ الى أساليب معروفة سبق أن جرّبها في لبنان والعراق ومع الفلسطينيين للإيهام بأن آخرين يَقتلون وأنه صار ضحية، معتقداً أن هذا يكفي لإعفائه من أولى النقاط الست في «خطة انان»، أو يكفي ليعاود العالم التعامل معه. كشفته «الوحوش» بارتكابها جريمة الحولة، فطُرد سفراؤه، وبدأ البحث في ما بعد مهمة انان.
وما بعد مهمة انان ليس واضحاً إلا أن الاتجاه المتدرّج نحو التدخل الخارجي أصبح على الطاولة. ولن يكون تدخلاً من النوع الذي يعيد الى النظام عذريته العروبية والقومية التي كان يتفاخر بها، فهو بطش وتجبّر الى الحد الذي جعل من التدخل لخلعه واجباً انسانياً. وبطبيعة الحال فليس من السهل الانتقال الى البند السابع، كما تمنت الجامعة العربية، لأنه سيعني استطراداً بلورة تدخل متمتع بشرعية دولية كاملة. أكثر من يقاوم فكرة التدخل هما روسيا وإيران، الدولتان الأكثر تدخلاً لمصلحة النظام، والأكثر ادراكاً أنه لم يعد قادراً على الاستمرار، وبالتالي الأكثر قلقاً على مصير ما استثمروه فيه طوال العقود السابقة. يريد الروس والإيرانيون أن يضمنوا مصالحهم ما بعد النظام، ولا يرون الى ذلك سبيلاً إلا بأن تكون لهم يد في بناء صيغة النظام التالي، رغم أنهو أخفقوا تماماً في التواصل مع قوى الانتفاضة وظنّوا أن المعارضة التي يستأنسها النظام سلعة صالحة للاستعمال كونها ترفض التدخلات الخارجية وتقبل بتدخلهم، ثم اكتشفوا حقيقة أن لا مستقبل ولا وجود وازناً لها متى رحل النظام.
ليس أمام روسيا وإيران، للحؤول دون التدخل الخارجي حتى من دون مظلة الأمم المتحدة، سوى أن تبادرا الى خطوة تعطّل هذا الاحتمال المتعاظم. من الواضح أن سيناريو المرونة الإيرانية في المفاوضات النووية لم يتناسب مع استعجال طهران الى اتفاقات تلبي طموحاتها كلها وبالسرعة التي يمكن تثميرها في مقايضة تضمن بقاء النظام السوري. فالاتفاق على معدّل تخصيب اليورانيوم قد تتوافر الشروط التقنية لجعله ممكناً، أما الاتفاق الموازي بالنسبة الى الشراكة الأمنية الإقليمية فدونه كمٌ من الشروط أهمها أن تؤهل ايران نظامها نفسه لتصبح شريكاً معترفاً بنفوذه. اذاً فإن مسعى انقاذ نظام دمشق من داخل الصفقة النووية لن يسير بالوتيرة المتوخّاة، على افتراض أنه يمكن أن يحقق النتيجة المرسومة.
صحيح أن تكرار ورود فكرة الانقلاب الداخلي أمعن في استهلاكها، إلا أنها كانت دائماً المرادف الحتمي لـ «الإصلاح الحقيقي»، وطالما أن النظام لم يتمكن من الإقدام عليه فإن الضرورة تلحّ على أصدقائه كي يقلبوه صوناً لمصالحهم. وما بات يرجّح خيار الانقلاب أن البديل منه أن يكون الروس والإيرانيون مندفعين الى مبارزة دولية لإثبات هيمنتهم على المنطقة، أو أن تكون الدول الغربية راغبة في أن تُستدرج الى فخ مشابه لما شهده الأميركيون في العراق. لا هذا الاحتمال وارد ولا ذاك. لكن منطق التدخل، بمعزل عن تفاصيله، يشقّ طريقه بقوة مع بروز ميل «الوحوش» الى جعل الإبادة نهجاً اعتيادياً على وقع مجازر متكررة. وإذا كان هناك من يطرح حالياً هذا السؤال: مَن الأقدر، ومَن يتحرك أولاً، روسيا أم ايران، أم يُقدمان معاً؟ فإنهما في ضوء المعطيات الراهنة لا تضمنان الحصول على النتيجة المرتقبة، أي اعادة هندسة النظام بما يخدم استمرار وجودهما ونفوذهما. لكن الخطوة صارت ملحّة أقله للحدّ من الخسائر.
* كاتب وصحافي لبناني.