خيار المثقف/ ممدوح عزام
يقول شرف الدين لأستاذه ابن خلدون في مسرحية سعد الله ونوس “منمنمات تاريخية”، حين أراد المعلم أن يمضي إلى تيمورلنك ويعرض عليه ولاءه: ماذا سيقول عنك التاريخ يا سيدي؟ فيجيب: لن يذكر التاريخ إلا العلم الذي أبدعته، والكتاب الذي وضعته.
اللافت أن التاريخ قدّم له تلك الخدمة، وهذه مفارقة خطيرة لم تجد الثقافة الإنسانية مجتمعة حلاً حصيفاً لها، إذ يعثر المرء في جميع الثقافات على نماذج مشابهة، تعيش الحالة التي توصف بالتناقض بين إبداع الكاتب، وبين سلوكه اليومي، أو الفكري، أو السياسي.
يشير تاريخ الثقافة العربية، والعالمية أيضاً، إلى استمرار الصراع المكشوف، أو الضمني، حول مهام المثقف، أو دوره في المجتمع الذي يعيش فيه. وفي الغالب، فإن الجميع متفقون على منح هذا “الكائن” هالة من الألوان الفكرية، تتبدل حسب الموقع الذي يشغله القائل أو الدارس لأحوال المثقف.
غير أن ابن خلدون في المسرحية يعرف أن شروط تحقق خياره التقني، أي ذهابه إلى التفكير والكتابة، لا تتم إلا بالانحياز إلى جانب القوي. فالعمل الفكري يحتاج الوقت والمال، وهما ما يمكن أن يضمنهما المنتصر تيمورلنك. لكن السلطان لا يدفع مالاً كي يضمن للمثقف العالم سياحة سعيدة، أو مكتباً حالماً، بل يطالبه بتأليف كتاب عن جغرافيا المغرب، من مصر إلى مراكش: إنك تقدم له المخطط الذي يحتاجه لغزو بلادك، يهتف التلميذ في وجه معلمه. وهذه يا سيدي.. إن هي إلا خيانة.
في مقالته التي يتحدث فيها عن “تجسير الفجوة بين المثقف والأمير”، يقدّم سعدالدين إبراهيم مجموعة من المواد المعدنية المناسبة لبناء الجسر، أو الجسور التي يقترح اعتمادها لتسهيل اللقاء المتبادل بين المثقف والأمير. أفضلها “الذهب”، حيث يلتقي المثقف والأمير في منتصف الطريق، وأوسطها “الفضة” حيث يأخذ الأمير بعض وصايا المثقف، ويقنع المثقف براحة الضمير، وأكثرها رداءة هو “الخشب”، حيث يطأطئ المثقف رأسه أمام الأمير.
ما الجسر الذي اختاره ابن خلدون للعبور إلى لقاء السلطان؟ يسأله شرف الدين: أليست مهمة العالِم أن ينير للناس ضوءاً، أو أن يهديهم إلى سبيل يخرج بهم من الانحطاط؟ فيجيبه ابن خلدون: لا!.. مهمة العالِم أن يحلل الواقع كما هو، وأن يكتشف كيفيات الأحداث وأسبابها العميقة.
يمكن للمرء أن يتخيل حضور الساحة في مواجهة الجسر، ولا يحتاج الأمر إلى أي مواد إضافية كي نرى أن بوسع المثقف أن يكون في أمكنة أخرى لا تطأها في العادة سنابك خيل الحكام، ولا يحتاج فيها إلى إعداد أي تأليف مطبوخ.
لا يمثل ابن خلدون في المنمنمات المثقف العربي، فهو في نهاية الأمر “مثقف” وليس المثقف العابر للزمن، فالشخصية في العمل الفني عينة، وليست نمطاً، أو نموذجاً قياسياً يمكن أن ينجم عنه تجريم الكل المنتمي إلى هذه الشريحة، كما يفعل الكثير ممن يميلون إلى تعميم النماذج، لتوبيخ المثقف.
ذات يوم كتبت سيمون دو بوفوار في روايتها “المثقفون” تقول: أجل، أنا مثقف، ويغيظني أن نجعل من هذه الكلمة شتيمة”.
العربي الجديد