“داعش” شيطان له فضائل/ سوسن جميل حسن
“داعش” ليست شراً بالمطلق، صحيح أنها الشيطان، ببعده الثقافي المتجذّر في لا وعينا الجمعي، وهي حمولة تاريخ من الحقائق الفجة التي لا تحتمل تلميعاً، مهما حاول الطامحون. لكنها، للإنصاف، لها فضائلها.
قبل الحديث عن أفضالها، من العدل، أيضاً، إنصاف المثقف، فليس وحده المسؤول عما آلت إليه أحلام الربيع العربي على العموم، والسوري خصوصاً، بما أظهر وكشف من سوءاتنا وعيوبنا وآفاتنا الفكرية واستعصائنا على الحضارة الإنسانية، لتكون جماعة من هذا الصنف الهمجي القادم من مغارات التاريخ المستأثرة بالحياة والعباد في بلادنا. على المثقف جزء من المسؤولية، لأن الغطاء الفكري لثورة شعبنا السوري لم يعرف المثقف أن يشتغله، أو يستثمره، فالشعوب حين تنتفض، إنما تنتفض بضغط لحظة الانفجار، وهي تحتاج إلى من يمسك بوصلة حركتها ويوجهها، لأنها، غالباً، تكون بلا مخطط ولا استراتيجية، ولا تعرف التكتيك، ويمكن استغلال لحظاتها الانفعالية، بما يؤجج عواطفها.
من فضائلها أنها عرّت الواقع، وكشفت عن برنامج تفكير متغلغل في وعينا الباطن، يتحكم في أساليب تفكيرنا وسلوكنا، وإدارتنا للحياة، يقوم على أنظمة معرفية وقيمية وأخلاقية، بإسنادات مختلفة، تتعلق بشريعة الطغيان.
جعلت القائمين على الثورة الذين نصبوا من أنفسهم الآباء الشرعيين لها، ورعاتها الحصريين، يعيدون النظر في مواقفهم وحساباتهم الخاطئة، عندما غضوا الطرف في البدايات عن المد الإسلامي المتطرف، وباركوا جهاد الكتائب المتشددة، ومارسوا السياسة ببصائر مضللة أو معتمة، معتبرين أن الجهاد تحت يافطة إسقاط النظام كاف لصنع ثورات وبناء أوطان ودول حديثة، ناسين تجارب التاريخ وبديهيات الاستقراء لهذه التجارب، وهي أن الاستبداد الديني أكبر عدو للحريات.
كما أن داعش، بسلوكها الإجرامي المبني على عقيدة سالبة للعقول والنفوس باسم الله والدين الإسلامي، دفعت بالطوائف والملل والأقليات وكل المختلفين عنها إلى التفكر ومراجعة تاريخها، أقله الحديث المرتبط بأنظمة الحكم الحالية، فأخذت تعيد حساباتها وتتفكر في ولاءاتها، وتسعى إلى الانفكاك عن ارتباطاتٍ، أغلبها فرضها عليها الواقع والخوف من المستقبل. كما أن الإسلام، بمعناه الإنساني، ديناً حاملاً للإيمان، ولا أقصد المعتدل، كما يحلو للسياسة أن تسميه، في كل بقاع الأرض، بدأ يتلمس وجوده المهدد من هذه الجماعات المارقة التي صادرت راية الإسلام، فسوّدتها وراحت تنشرها بقطع الرؤوس وسبي النساء وتطبيق شريعةٍ، تقوم على اغتصاب الحقوق في عصر الحقوق الإنسانية.
أما الفضيلة المهمة، فهي الحراك الذي أحدثته في عقول الناس وتفكيرهم، فبعد تصدع حاجز الخوف وانهياره في أكثر من مكان، لدى الشعوب المنتفضة، لم يعد هناك تابوات، لا يمكن مقاربتها والخوض فيها، التفت الناس إلى التاريخ، وأعادوا فتح مدوناته وكتبه، وأمسكوا المراجع الفقهية المتمكنة من العقول، أكثر من النص والسنة، والناظمة حياة المسلمين وعلاقتهم بالآخر أكثر. هي أنزلت القدسي من عليائه، ووضعته في مرمى النقد، خلعت عنه غلالته الرهيبة، وعرّته، ليُفرز الإنساني عن اللاإنساني، السليم عن المشوه، الأصل عن المزور، وأعادته إلى بعده الزمني وموقعه التاريخي.
كل من تجرّأ وطرح أسئلة تلحّ على العقل، مستنبطة من أحداث يحفل بها تاريخنا، لاقى ما لا يسرّ بدرجات متفاوتة يحددها عمق السؤال وبعده المعرفي. فرسائل داعش واضحة، لا لبس فيها، هي توصلها، بلا تأخير ولا مماطلة، تستغل منجزات الثورة الرقمية بشكل بارع، فتسوق شرائعها وسطوتها وفصلها الرؤوس وسبيها النساء واغتصابهن، وإقامتها الحدود في الشبكة العنكبوتية. هي تنظيم معلن صريح، على الرغم من كل الغموض الذي يكتنف وجوده وتمويله وتوجيهه ومحركيه وعقوله المدبرة. أما غير المعلن فهو داعش الكامن في دواخلنا، داعش المقيم في النفوس، والتي تصرخ وتهدد وتتوعد، كلما ارتفع صوت أمام هذه الجرائم، يسأل لماذا؟ كلما طُرحت فكرة تشفّ عن عقل ينهض من غفوته، كان آخر هذه الأصوات صوت المرأة السورية التي تحترم العقل، لمى الأتاسي.
لم تفعل لمى شيئاً، غير أنها كتبت عن حادثة وقعت في التاريخ عن سلوك عنفي للصحابي خالد بن الوليد، وأوردتها، كما جاءت في أربعة مصادر مرجعية، تطابقت فيها رواية الحادثة، أول تلك المصادر صحيح البخاري، وما له من قوة إسناد ومرجعية لدى المسلمين. هكذا، لمجرد رأي يفتح باباً واسعاً على التاريخ الإسلامي لإعادة تقييمه وإرجاع الإسلام إلى صورته الحقيقية التي رسمها النبي محمد ومارسها لتصبح سنة للمسلمين، أثار بركاناً هائلاً من الغضب الأعمى.
لم تسلم لمى الأتاسي من القدح والذم والشتائم والسباب والتهديد والتخوين والتشكيك والرجم والجلد، بنعتها بأبشع النعوت المستبيحة تاريخياً كيان المرأة وكرامتها. رجمت لمى الأتاسي، ولعنت وجلدت وأقصيت وأعدمت مجازياً، ثار في وجهها بركان، ليس ذكورياً فقط، بل من نساء مسلمات، تغلغلت في خلاياهن الثقافة الذكورية المنبتّة من بيئةٍ تزدري المرأة، وتحملها ميزان العفة والطهارة والعرض والشرف، كارهين أن يكون لها عقل إنساني.
وعندما وقف بعض أصحاب العقول، ومنهم دارسون ومتخصصون في علوم الشريعة، مثل الدكتور محمد حبش، لينير الزوايا المعتمة، ويفند الحادثة التاريخية، ويقول رأيه مشيراً إلى مكامن الخطأ، لاقى ما لاقاه. هو قال بالحرف: “أما أنا فلا يمكنني قبول ذلك أبداً، وأعتبره بكل تأكيد من مبالغات الرواة وتهورهم… وأعتبر الفقهاء مسؤولين عن تضخيم الخطأ، حين أوردوه في كتبهم بدون تمحيص”. وذلك بعد أن ألمح إلى رواية الحادثة في الكتب التالية: “البداية والنهاية” لابن كثير، و”تاريخ الإسلام” للذهبي، و”الروض الأنف” للسهيلي، و”السيرة الحلبية” لعلي بن برهان الدين الحلبي، و”سمط النجوم العوالي” لعبد الملك العصامي المكي، و”مرآة الجنان” لليافعي.. لم يقصر الغيورون على الإسلام، والمعتبرون أنفسهم حماته الشرعيين والحصريين في الاعتداء اللفظي على الدكتور محمد حبش، على الرغم من تخصصه ومكانته العلمية، ولم يردعهم قانون، ولا سلطة، من نكران حقه، كما حق لمى الأتاسي، في الدين والوطن، وجاهروا بالوعيد بأقسى العقوبات بحقهما، بل والتهديد من العودة إلى سورية، لأن حكمهما جاهز، وسينفذ في حال التفكير بالعودة.
في المقابل، كانت هناك آراء جدلية وحجج عقلية عديدة، طرحت وجعلت الجدال يتحول إلى معركة حامية، لا زالت دائرة. وكانت السورية، عفراء جلبي، قد نالت نصيبها، أيضاً، عندما خطبت في المصلين، فأثارت جدلاً واسعاً وعنيفاً حول هذا الموقف الجريء، المستند إلى العقل والكرامة الإنسانيين، فهي تنتمي إلى رتبة الإنسان، ولو كانت بيولوجياً كائناً أنثى، فهل الإسلام الحق ينادي بتفصيل كرامة الإنسان على أساس نوعه البيولوجي؟
وأخيراً، عرّفت داعش العالم بأسره على هذه البقعة الوادعة المنسية، على الرغم من تاريخها العريق، ومن ريادتها الحضارة الإنسانية، سورية التي لم يلتفت العالم إلى انتهاك الحياة فيها، وقتل أبنائها وتشريدهم وتجويعهم، ودفعهم في تغريبة التيه والذل والبحث عن معنى آخر للوجود. داعش، اليوم، هي النجم المرصود له تحالفات القوى العظمى وإبداعاتها في شتى ميادين الهيمنة والسيطرة وترسيم السياسات والحدود، كما هي النجم الشاغل للإعلام في عصره الذهبي، وامتلاكه أدوات إدارة الفضاءات العامة، بحسب أجنداته.
العربي الجديد