داعش والإسلام السياسي/ بدر الإبراهيم
لم يترك تنظيم داعش فرصةً لمن أرادوا التعاطف معه، ليفعلوا ذلك، فقد وجَّه سهامه للجميع، وبات صعباً على من يريد تأييده أن يعلن ذلك، ما يجعل موتورين طائفيين، يؤيدون فعل التنظيم بخصومهم، يلجأون إلى أساليب ملتويةٍ في إعلان التأييد، وإنْ كان الأكثر توتراً منهم يعلن تأييده “داعش” صراحةً في العراق، على الرغم من موقفه ضد التنظيم وممارساته في سورية. هذا الموقف من “داعش”، واعتباره مشكلةً في شبه إجماعٍ بين التيارات المختلفة والمتناقضة، جعل تحليل نشوئه وتمدّده مرتبطاً بمحاولات التبرؤ منه، ومن أي مسؤوليةٍ عن وجوده. الإسلاميون الحركيون، من جهتهم، يقومون بجهدٍ مضاعف، نظراً لأن التنظيم يرفع رايةً دينية، ما يستنفر أولئك الحركيين، للدفاع عن الإسلام السياسي التقليدي، ونفي صلته بأيديولوجيا تنظيم داعش، مستشهدين بتكفير “داعش” لهم، ومقارنة أفعال التنظيم بأفعال حركاتٍ وأنظمةٍ علمانية، استخدمت العنف أيضاً وقمعت وقتلت، واعتبار أن “داعش” يشبه هؤلاء، ولا علاقة له بالإسلام السياسي.
هنا، لابد من فحص أيديولوجيا التنظيم، وصلتها بالإسلام السياسي، وبأفكار الحركيين من السلفيين والإخوان المسلمين الذين يتبرأون من هذا التنظيم. في المبدأ العام، لا يمكن عزل “داعش” عن الإسلام السياسي، وهو المظلة التي تجمع تياراتٍ عديدة، قد تختلف مع بعضها وتتناقض وتتحارب، لكنها تنتظم ضمن مبادئ محدّدة، على غرار الشيوعية وتياراتها المتعاركة، حيث لا يمكن القول إن التروتسكيين لا ينتمون إلى الشيوعية، بسبب موقفهم الحاد من الماركسيين اللينيين. الإسلام السياسي، بما هو تسييس للانتماء الديني، ورفضٌ للفصل بين الديني والدنيوي، وعملٌ للمطابقة بين التشريعين “الإلهي” والقانوني، تحت عنوان تطبيق الشريعة، يشمل تنظيم داعش، كما يشمل الذين يتبرأون منه من الإسلاميين.
في التفاصيل، الغالب على أيديولوجيا “داعش” هي السلفية في نسختها المسيّسة، أي أنها ليست السلفية المحصورة بالدعوة، ولا التي يتلخص موقفها السياسي بطاعة ولاة الأمر، إذ إنها سلفيةٌ لا ترى إمكانية نشر الدعوة والعقيدة إلا بقيام الدولة، والجهاد في سبيل ذلك. لكن هذه النسخة من السلفية، كما نسخٌ أخرى، لم تبقَ معزولةً تماماً عن تأثيرات أفكارٍ إسلاميةٍ أخرى، وقد حصلت تقاطعاتٌ كبيرة، في العقود الماضية، بين السلفية وأفكار “الإخوان المسلمين”، ما أدى إلى نشوء تياراتٍ إسلامية هجينة، تتبنى أفكاراً سلفيةً وإخوانيةً في الوقت عينه، مثل التيار السلفي الحركي في السعودية، أو ما يُعرف بالتيار السروري، نسبةً إلى محمد سرور زين العابدين الذي انتمى إلى “الإخوان المسلمين” في سورية، وتأثر بأفكار سلفية.
لم تكن الحالة الجهادية، في العموم، معزولةً عن تقاطع الأفكار السلفية والإخوانية، وهي
“المفاهيم الأساسية لداعش مستقاةٌ من تياراتٍ إسلاميةٍ متعددة، ولا يمكن فصله عن الإسلام السياسي” استمدت من “الإخوان” خطابهم الأممي الذي لا يعترف بالحدود الوطنية، ويؤكّد أن كل بقعة فيها مسلم ينطق الشهادتين وطن يستحق البذل لأجله. تولدت الجهادية العالمية من هذا الخطاب الأممي، وصارت تقاتل في أفغانستان والبوسنة والشيشان، ولم تكن جماعة الإخوان المسلمين في منأى عن ذلك، إذ إنها شجعت الحركة الجهادية ودعمتها، منذ ولادتها في أفغانستان، بل إن شخصياتٍ جهادية شهيرة، كانت منتمية لتنظيماتٍ إخوانيةٍ، مثل عبدالله عزام، وأسامة بن لادن الذي كان عضواً في تنظيم “إخوان الحجاز” الذي يعد أحد فروع الجماعة في السعودية.
بالإضافة إلى الأممية الإسلامية، استمدّت التنظيمات الجهادية، ومنها “داعش”، فكرة الخلافة، من أدبيات “الإخوان المسلمين”، كما أن أفكاراً مثل الحاكمية وجاهلية المجتمعات، أثّرت في جماعاتٍ جهاديةٍ كثيرة، وكتب سيد قطب وأفكاره تُدَرَّس داخل عدد من هذه الجماعات، وإن كانت هذه الجماعات ترى “الإخوان” اليوم منحرفين عن الطريق القويم، لقبولهم الدخول في اللعبة الديمقراطية، وسعيهم إلى عضوية البرلمانات.
ربما يبرز الأثر الإخواني أكثر في تنظيم القاعدة، حيث تنظيم داعش أكثر تظهيراً للعقيدة السلفية، لكن هذا لا ينفي التأثير الإخواني فيه. يؤكد تنظيم داعش انتماءه للمنظومة العقائدية السلفية، ويبرز، في خطابه، التركيز على مفاهيم التوحيد، والولاء والبراء، ونواقض الإسلام، وهو يتفوّق على أشباهه في تمسّكه بتطبيق النواقض على المسلمين، وإخراجهم من دائرة الإسلام، وتضييق تعريف المسلم إلى أقصى حدّ، واستخدام التكفير السياسي في إطار عقيدة الولاء والبراء، سلاحاً في وجه جميع المختلفين مع التنظيم، بما فيهم أبناء الحركة الجهادية نفسها، ومن يشقّ عصا الطاعة، من أمثال جبهة النصرة.
يمكن الحديث مطولاً عن أيديولوجيا تنظيم داعش وتفاصيلها، لكن الواضح أن المفاهيم الأساسية مستقاةٌ من تياراتٍ إسلاميةٍ متعددة، وأن هذا التنظيم لا يمكن فصله عن الإسلام السياسي. صحيحٌ أن حركاتٍ وأنظمةً غير إسلامية، ومن مختلف المشارب والأيديولوجيات، تمارس العنف ببشاعة، لكن هذا لا يمكن أن يكون عذراً للإسلاميين، لكي لا يراجعوا مفاهيمهم التي يستخدمها تنظيم داعش، مراجعةً جذريةً لا سطحية.
تأييد إسلاميين حركيين كثيرين لجبهة النصرة، والتماهي مع تنظيم القاعدة في السنوات الأخيرة، والانخراط في حروبه الطائفية، والتبرير له وتلميع ممارساته، ينبئ أن المراجعات الجادّة لم تحصل بعد. دعاوى البراءة من “داعش” وأمثاله، تستدعي مواقف جذرية، لا يغيرها الغضب أو النزعات الثأرية، الدافعة نحو احتضان الجهاديين.
العربي الجديد