دبجونة* الإنتظار/ فاطمة الصفدي
بعد مَضي خمسة أيام استيقظت وهي ماتزال حبيسة ذات العبارة “اعتقلوه” كلما سكنتها العبارة اعتقلتها من جديد .. كل التفاصيل التي تتبع ذاك الاعتقال كانت مقتضبة كموجز لأهم الأنباء تُختصر بثلاث كلمات “أجو أخدوه وراحوا”, تفاصيل فقيرة كلاجيء سوري يقبع في مركب في عرض البحر .. حتى هوية القادمين الآخذين لم يكن أحد متأكداً منها همس أحدهم في أذنها ذات ساعة ” اضحكي بعبّك اذا كان فرع أمن اعتقله”
خطر ببالها كيف يمكن لأحدهم أن يضحك بعبّه .. كيف خطرت لأجدادنا هذه العبارة ؟ إذا مانظرنا إلى تاريخهم الممتليء بالأشياء الغريبة كاليالنجي مثلا ً فكيف يخطر لأحدهم أن يقطف ورق شجر ويحشوه رز وخضار وينتظره لأكثر من ساعة لينضج .. نفضت رأسها ثلاثاً وكأنها تتعوذ من الأجداد وعادت لتسأل ” ومن سيعتقله إن لم يكن فرع أمن؟” مصحوبة بهزة رأس هندية خفيفة .. ليجيبها ذات الصوت “بيجوز خطفوه”.
في الواقع لا تختلف تفاصيل الطريقتين كثيراً لكن الفرق يكمن في تفاصيل الطريقة الثانية فهي أسهل, تجلس في منزلك تتأكد دوماً أن الهاتف بحالة جيدة لالتقاط اشارة اتصال وتنتظرهم لأنهم حتماً سيصلون إليك والهدف واحد القليل من المال أو كل ماتملكه ويملكه معارفك من المال .. نعود لليوم الخامس حيث انتبهت أنها بقيت وحيدة دونه هي الزوجة المكلومة بغيابه بانتظار أخباره, كانت متكورة على شكل جنين تنظر ولا تنظر للسقف نظراتها هناك ولكنها ليست هناك .. تشعر بلكماتهم على جسده فيتبقّع جسدها باللون الأزرق
الخزانة :
وككلب بلله الماء نفضت جسدها جيداً وانطلقت إلى الخزانة, ليست خزانة الملابس فلا حاجة لها للشياكة ولكن لخزانة الأكل.. منذ بداية الأحداث وتعرّي المنازل أمام كل من يملك شكّاً أو سلطة أصبح لزاماً على الجميع أن يخفي مقتنياته الثمينة مدّت يدها “لدبجونة الحمص” وأخرجت قطعة ذهبية تضعها النساء في معاصمهن تَسمى إسوارة كانت جميلة كيوم أهداء والدتها لها, لوهلة شعرت بأن القشور أعطتها نشوة لمعان أكثر .. نفضتها ووضعتها في علبة صغيرة وبدأت يدها تتنقل من “دبجونة” الى أخرى تلتقط ذهبها وتنفضها من البرغل والعدس والكشكة والحليب المجفف لم يتبق من المقتنيات البرّاقة سوى خاتمين ألماس ولخوفها أن تجدهما في إحدى قدور شوربة العدس أو طافين في إحدى صحون الكشكة قررت إخفائهم في أماكن محددة أكثر.
فتحت قطرميز المكدوس وتوجهت بحركة سريعة إلى تلك الكبيرة الحجم المحشورة في الزاوبة اليمنى وضعتها في صحن وفتحتها بهدوء لتبصق لها الخاتم الجميل .. ابتسمت كوالدة تحمم طفلها بعد سبع أيام دون حمام وتهمس له “تقبرني وإنت مزيت” لم يبق إلا قطرميز اللبنة المدعبلة أخرجت تلك المدعبلة ببهاء وأخرجت آخر أطفالها.
جمعتهم بكيس ودسستهم في حقيبتها وانطلقت إلى محلات الصاغة .
شمس:
“ما دفعني للانطلاق إلى محلات الصاغة هو ارتفاع الليرة مقابل الدولار فهذا التحسّن قد لا يدوم لأكثر من يوم أو يومين وربما ساعة, ومن محلات الذهب الى أحد تجار السوق السوداء باحثة عمن يستطيع أن يحول مابين يدي من نقود إلى دولار, الدولار ضمانك في الأيام السوداء كنت أردد لنفسي المرتجفة الخائفة من ضوء الشمس, حاولت التواصل مع أصدقاء زوجي لكن الأغلبية الساحقة أدارت ظهرها لي لا عتب فهم خائفون أن يأخذوهم خلفه”
“هم ” ضمير الغائب الحاضر .. تحدثوا عنهم بلباقة .. بسم الله كش برا وبعيد
انتظار :
منذ اليوم الأول أوقفت تاريخ كل شيء يمضي إلى الأمام حتى عقارب الساعة.. جمدتها
أبقت بيجامته مفرودة على السرير بعناية تندس بجيوبها كل مساء وتغرق برائحته, وفي لحظات النساء الشهرية الحرجة كانت تنفخها بالمخدات فتبكي هي وكل هرموناتها المجنونة.
وصباحاً ترهف السمع لخطوات الدرج المقتربة من شقتها, هي لا تخاف من اللصوص ولكنها بإنتظار حذاء بقياس 44 يسكرها كأم كلثوم وأكثر, سيرقصها كنانسي وأكثر سيبعثرها كقذيفة وأكثر وأكثر ولكن دوماً لا ينفذ من شقوق المنزل إلا صوت فيروز التي تصر كل يوم في ذات الوقت على الغناء “لما لمحتو طل صرت ملبكي.. فتشت ع كلمة تأفتحله حديث وقفت ووقف وتنينا نسينا الحكي”
أما الدولارات فصرفتها كلها على “المفاتيح” التي لا تفتح أبواب السجن بل هم لصوص قدماء بثياب جديدة.
مرّت سنة :
سنة تشبه إلى حد كبير السبات الشتوي, أمضي كل وقتي في المنزل ربما عاد عليه أن يجد مايتخيله, الفرح يحدث خلسة أحياناً كما الحزن لذلك يجب أن نبقي عيوننا دوماً متنبهة لنأكله كله دفعة واحدة, خلال هذه السنة المترهلة -كجسد أنثى خسرت 150 كيلوغرام- كان كل شيء كما تركه الكهرباء تنقطع بانتظام الماء وسيلة تهديد من الطرفين القذائف تدور دورتها المعتادة عزرائيل يطوف كما عهدته والموت سيد الموقف والناس كلها مثلي بإنتظار شيء ما.
في سنة الاحتضار كنت كمن أقف في الأعراف فلا أنا من أهل الجحيم ولا أنا من أهل النعيم كل الحكايات لديّ مؤجلة, كل المستقبل مؤجل إلى تاريخ غير معلوم. أصبحت مدمنة لصفحات المعتقلين ومتابعة لحملات الاعتقالات وتواريخها وأعداد المعتقلين في كل حملة وأصفق وأهلل للخارجين وأتفحص صور الجميلين الذين غلبهم النوم تحت التعذيب بدموع وخوف, كل صورة لا تكون لك أحمد الله وأحتقر نفسي وأكمل البكاء.
ستون يوماً بعد الاعتقال أصبح للهاتف طنين مزعج وتدفقت اشارات الرسائل والواتس وكأن كهرباء 220 فولت تحمل اسمي ضربت الناس فأصبحوا كالمجانين تسع وأربعون ألف وخمسمائة وستون اتصال في الدقيقة.
الجميع كان يتكلم بطريقة سريعة “افتحي صفحة الجميلة ذات الشعر الأسود اسم زوجك هناك” هنا كان الخبر الأول, خرج أحدهم من المعتقل وأخبرني بأن زوجي بخير وهكذا تعلمت لغة اتصال المعتقلين مع عائلاتهم, الطريقة الأولى أن تنتظر والطريقة الثانية أن تنتظر والطريقة الثالثة أن تنتظر.
خلال هذا العام أيضاً أصبحت الأرض الواطية التي على الجميع أن ينظّر عليها, فجارتي الأولى تنصحني أن أتطلق وجارنا يحاول أن “يطبقني” بالمناسبة أتعلمون من أين جاءت كلمة تطبيق ؟! .. هذه الكلمة تستخدم عندما يحاول الديك أن يطبق الدجاجات معه في القن, وصديقتي تشمت و.. و.. و.. وأنا؟ أنا لا شيء سوى غبية لا تعرف مصلحتها “هكذا يثرثرون خلفي, وأمامهم عليي أن أفتح عينيّ بإنتباه لكل مايقوله الجميع وأهز رأسي موافقة فأي محاولة للجدل تنتهي بأنه “والله عم انصحك متل أختي” من أين جاؤوا هؤلاء بأخوة آخر العمر هذه لا أعلم تماماً.
يتبع ….
*الدبجونة وعاء بلاستيكي يستخدم في في حفظ المؤونة