دخول المجتمعات العربية في التاريخ/ ماجد كيالي
يمكن قول أشياء كثيرة حول أسباب تعثّر ثورات الربيع العربي، مثل افتقادها النظرية السياسية، والتنظيم الحزبي، والخبرة النضالية، وغياب الإجماعات الوطنية، والتدخلات الخارجية، والتلاعبات الدولية. مع ذلك فإن السبب الأساسي يكمن في غياب السياسة، واعتبار ان الصراع يجري على الوجود: يا غالب يا مغلوب، يا قاتل يا مقتول، في حين أن السياسة تفترض إيجاد مقاربات أو حلول وسط للصراعات الدائرة.
وثمة سبب آخر لذلك يكمن في أن الأنظمة المعنية لم تتأسس كدول، بمعنى الكلمة، بقدر ما تأسست على اعتبارها مشاريع سلطوية خاصة، تتمحور حول عائلة معينة، بحيث أن انهيار هذه العائلة، او خروجها من الحكم، يؤدي إلى خراب البلد، وتفككه، وتشظي مكوناته.
ولعل هذين، أي غياب السياسة، وطبيعة النظم العائلية التسلطية، تفسر ما يجري في بلدان مثل اليمن وليبيا وسورية والعراق، في حين اختلف الأمر بالنسبة لكل من مصر وتونس، مع الفارق بين البلدين، لمصلحة التجربة التونسيةَ طبعاً. وبديهي أن الأخيرة تدين بنجاحها إلى البورقيبية، في أشياء كثيرة، ضمنها وجود قانون مدني وحرية المرأة ونوعية التعليم ، وقوة النقابات، والانفتاح على الغرب، وتقييد تدخل الجيش في الحكم.
وفي الواقع فإن تجربة النظم الدكتاتورية /الشمولية في العالم العربي لا تشبهها أي تجربة في العالم، ولا في آسيا ولا أفريقيا ولا أميركا اللاتينية، فهي هنا ترتكز على ايدلوجيا معينة، وعلى هيمنة عائلة على المجتمع والدولة والموارد، وهذه تشمل الموارد المادية والمعنوية، والتي ضمنها الثقافة والإعلام والتربية والتصورات المتعلقة بالتاريخ، ورؤية الذات، وهذا ما كان يحصل بخاصة في العراق وليبيا وسورية. فالدكتاتوريات في أميركا اللاتينية لم تكن على هذا النحو، ولا نظام سوهارتو في اندونيسيا، ولا حتى نظام عيدي أمين في أفريقيا، بدليل ان معظم هذه البلدان شهدت ثورات، او تحولات ديموقراطية، أودت بالدكتاتورية، من دون أن يحصل فيها ما حصل في البلدان العربية.
مع ذلك ثمة ما هو أعمق بكثير من كل ما تقدم قد يساهم بتفسير الخراب الحاصل، لاسيما في اليمن والعراق وسورية وليبيا، يتعلق بالغياب التاريخي للدولة في العالم العربي، والذي يقدر بحوالى ألف سنة، أي منذ تضعضع دولة الخلافة العباسية وتمزّقها، والذي ترافق مع التحدي الذي مثلته الغزوات الصليبية والمغولية، مروراً بالمرحلة المملوكية، ثم الحكم العثماني، وصولاً إلى حقبة الانتدابات الاستعمارية الأوروبية.
وفي حين أن الحقبة العثمانية دامت أربعمئة سنة فقط! فإن الانتداب الاستعماري استمر بضعة عقود، وهي الفترة منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، إلى انتهاء الحرب العالمية الثانية، في النصف الأول من القرن العشرين (باستثناء الجزائر).
القصد أن غياب الدولة يجعل من عملية تكون المجتمعات، وبالتالي الإجماعات الوطنية، مسألة في غاية الصعوبة، بل مستحيلة، ولعل ذلك يوضح بقاء المجتمعات العربية عند تصوراتها عن ذاتها، في مكوناتها الأولية قبل الوطنية، التي تتمحور حول العصبيات الطائفية والإثنية والعشائرية والمناطقية، يفاقم منها أنها تأتي محمولة على تاريخ متخيّل، وليس على التاريخ الواقعي.
تبعاً لما تقدم فإن الدولة العربية المعاصرة لم تأت كامتداد لدولة سابقة، إذ هي مدينة بولادتها للتجربة الاستعمارية، وربما ان هذه مأساتها أيضا، إذ ظل النظر إليها، لاسيما في المشرق العربي، باعتبارها نتاج مؤامرة خارجية، أو باعتبارها اجهاضاً لحلم دولة عربية، بدلاً من الاستناد إليها لقيامة المجتمعات العربية، على نحو ما فعلت دول أخرى في العالم عانت من التجربة الاستعمارية لكنها استفادت منها وتجاوزتها.
المفارقة، انه في الغضون، وعلى أساس تلك الشبهات، تمت مناصبة العداء للغرب وللحداثة، لكونها غربية أيضاً، في حين تم تناسي ألف سنة، هي الأساس في جمود العالم العربي، وبقائه خارج التاريخ. يستنتج من كل ذلك أن الأنظمة العربية أهدرت ستة عقود من عمر الدولة العربية انشغلت خلالها بتثبيت سلطاتها، كأنها باقية إلى الأبد، بحيث انها لم تفعل شيئاً يتيح قيام الدولة والمجتمع والمواطن، لأن ذلك يتعارض مع مصلحتها كسلطة، بل إنها فعلت كل شيء لإفساد الحياة العامة، وضمنها مؤسسات الدولة، بما في ذلك القوانين والقضاء، والحط من مستوى التعليم، وتحويل الجيش وأجهزة الأمن الى مجرد ذراع للسلطة، ويأتي ضمن ذلك التلاعب بالمجتمع وتعزيز انقساماته.
وفي المحصلة بتنا إزاء دول فاشلة بكل معنى الكلمة، بسبب هذه النوعية من الأنظمة، التي تفتقد الوعي الوطني، أو المسؤولية الوطنية والأخلاقية، أقله بالقياس حتى للنظم الديكتاتورية في آسيا او أميركا اللاتينية.
على ذلك فإن حال الانفجار الذي تعيشه المجتمعات العربية هذه الأيام ليس غريباً، على رغم كل آلامه وأخطاره، فهو بمثابة تحصيل حاصل لحال الجمود والإحباط والظلم، الذي عاشته طوال قرون عديدة من الزمن، والذي فاقمته طريقة حكم الأنظمة الشمولية العربية، وربما كان هذا الانفجار، على الأهوال المتضمنة فيه، الثمن لقيامة المجتمعات العربية وصوغ اجماعاتها التاريخية.
وكانت المجتمعات الأوروبية اختبرت مثل هذه التجربة في حروبها الدينية والقومية، التي تخللتها أهوال وفظائع، أقسى بكثير مما باتت تشهده بلداننا، وهي لم تخرج من هذه التجربة، ولم تتصالح مع ذاتها، ولم تصبح على نحو ما هي عليه اليوم من سلام، إلا منذ عقود، فقط، وبثمن باهظ تم دفعه في حربين عالميتين. كثيرون لا يعرفون التاريخ العربي إلا بوصفه تاريخ معارك وحروب وحكام، ولكن لا احد يعرف أو يتحدث عن تاريخ المجتمعات العربية، على امتداد ألف سنة، وذلك لسبب بسيط انها كانت خارج التاريخ، ويبدو ان الدخول فيه صعب ومؤلم ومكلف.
* كاتب فلسطيني – سوري
الحياة