دروس ايرانية لسوريا
مازن السيّد
حدث إقليمي ليس ببعيد عنّا لا في الزمان ولا في المكان ولا في العناصر: الحرب العراقية-الايرانية. منذ انطلاقها في أيلول 1980، بالتدخل العسكري العراقي في ايران غداة الثورة، حتى حزيران 1982 كانت القناعة السائدة لدى الإدارة الأميركية بأن السيناريو الأفضل هو أن تطول هذه الحرب بين طرفين مكروهين (ولو لأسباب مختلفة). لكن في ذلك الشهر من العام 1982، قررت القيادة الايرانية استغلال انتصارها في إحدى معارك الجنوب مع الجيش العراقي والتقدم لاحتلال البصرة، حينها أدلى روح الله الخميني في 21 حزيران بخطاب مشهور قال فيه جملةً تردّدت على ألسنة كثيرين بأشكال مختلفة: “طريق القدس تمرّ في كربلاء!”.
بدأ الأميركيون حينها بإمداد العراق بمعلومات استخباراتية عن الجيش الايراني كما يوضح ديفيد كريست ضابط المارينز الأميركي في كتابه “حرب الغسق” (The twilight war). لم يريدوا تسليح صدام مباشرة لعدم رغبتهم بالدخول في مواجهة مباشرة مع ايران، بل حفّزوا أطرافاً ثالثة كفرنسا وايطاليا على القيام بذلك. حافز التدخل الأميركي كان واضحاً، “لا انتصار صدام حسين، ولكن منع ايران من التمدّد غرباً”.
الاسرائيليون كانت لهم حسابات مختلفة عن الأميركيين، وكانوا يرون حينها صدام حسين كخطرٍ أكبر من الخطر الايراني كما أوضحت وثائق عديدة نشرت عن تلك المرحلة. هذا الموقف الاسرائيلي انكشف بوضوح انطلاقاً من العام 1986 حين سعت القيادة الأميركية إلى مبادلة رهائنها لدى الايرانيين ونواة “حزب الله” بنقل معلومات استخباراتية وشحنات تسليح عبر اسرائيل أدارها مستشار شمعون بيريز ل”مكافحة الإرهاب” اميرام نير وهاشمي رفسنجاني بموافقة مباشرة من الخميني.
يقول كريست عن ذلك “ما فاتنا هو أنه ليس هناك فئة “معتدلة” في ايران، كل الفصائل الايرانية كانت على علم بصفقات السلاح، والمرشد الأعلى وافق عليها. بالنسبة للخميني، لم تكن القضية مسألة انفتاح استراتيجي (على أميركا) بل مسألة الانتصار على العراق ونشر الثورة. لم يكن لديه أي تردّد في إمكانية استخدام أسلحة أميركا ضدها”.
الأميركيون الذين سلّموا الخميني في الثمانينيات لوائح حزب “توده” الشيوعي لينفذ في عناصره إعدامات جماعية، بعد انشقاق مدير مكتب ال”كا جي بي” السوفياتي في طهران إلى لندن، أظهروا في مسار تعاملهم مع الثورة السورية، حتى لحظة أعلن البيت الأبيض رسمياً تسليح المعارضة “المعتدلة” (لاحظ ثبات المصطلح) لمنع انتصار النظام عسكرياً والقضاء على “الإرهابيين”، أنهم قد تعلموا من دروس الثورة الايرانية التي قامت ضد الشاه وحزبه الأوحد “راستخاز”، أي “البعث” بالفارسية. اوباما كان واضحاً في تكراره لعبارات “المصالح القومية” الأميركية كمدخل أساسي لتصعيد خطاب التسليح رسمياً.
فهل تتعلم الثورة السورية من دروس العامين الماضيين وسابقاتها، في ظلال مرحلة جديدة بكل معنى الكلمة لخصتها 24 ساعة شهدت تجلي معادلة المصالح الخارجية في سوريا بإعلان الجهاد في سوريا سلفياً، وتسليح “المعتدلين” أميركياً، وانتخاب الرئيس ايرانياً؟ هل سيستدرك مخلصو الثورة فراغها السياسي الممتلئ بفراغ “الائتلاف”؟
عندما ينقطع حبل الذاكرة، تفرغ ممارسة السياسة من معناها نتيجة جفاف مصادرها المتمثلة بقراءة التجارب التاريخية. هذه القراءة الترشيدية تسمح بتأسيس عمودي الفعل السياسي الخارجي: بلورة الهوية الوطنية المستدامة داخلياً، وفهم أنظمة صناعة القرار لدى القوى الأخرى خارجياً. الأولى تؤسس لمفهوم المصلحة الوطنية وتضيّق مساحة الاختلاف فيه إلى التباين السياسي الداخلي، والثاني يمكّن من إدارة العلاقات الخارجية في سبيل خدمة المصلحة الوطنية.
في الحالة السورية نرى من الواضح أن ما يسمى ب”النظام السوري” –ونعني بذلك المؤسسة الأمنية والعسكرية بالدرجة الأولى التي وضع دعائمها حافظ الأسد-قد صبّ كل جهوده وتوجهاته نحو العنصر الثاني من المعادلة، أي اللعب على أوتار مصالح القوى الخارجية، معولاً على اليد الأمنية-العسكرية لتجاهل استدامة الهوية الوطنية الإقصائية التي وضعتها الثورة السورية سريعاً على المحكّ في انهيار غطّى على سرديّتي النظام والثورة معاً.
أما ما يروّج له على أنه “المعارضة السورية”- والمقصود هنا بالذات معارضة الخارج-فهو بطبيعته البنيوية “فصيل دبلوماسي” يغوص أيضاً في معادلة مصالح القوى الخارجية، دون التمكّن من التقدم خطوة في اتجاه طرح العقد الاجتماعي الداخلي وتحويله إلى رؤية لمصلحة وطنية يقع عليها عاتق واجب إضافي هو الواجب الثوري، أي أن يكون التغيير بمستوى تطلعات السوريين وتضحياتهم. ولا بدّ لنا من أن نرى في ذلك، واحداً من الأسباب التي دفعت بكثير من الناشطين الثوريين السوريين إلى إعطاء صفة “البعثية” لخطابات المعارضة.
إنّ التحالف بين قوى المعارضة الداخلية وعلى رأسها الشباب المدني وصولاً إلى فلك “هيئة التنسيق”، تستطيع وحدها بلورة الهوية الوطنية وتنقيتها من العناصر الإقصائية القومجية والدينية والايديولوجية عبر الرسملة على مجموعة من القيم والمفاهيم الايجابية الجمعية التي أنتجتها الثورة، والانطلاق منها سريعاً لايجاد توافق حول ثوابت المصلحة الوطنية.
قد يبدو هذا الطرح مستبعداً في ظل الدعم الدولي الذي تتلقاه “معارضة الخارج”، وفي ظل الخلافات الموجودة بين القوى الداخلية المعارضة. ولكن علينا أيضاً أن نلحظ المساحة المشتركة الكبرى في مضمار الهوية الوطنية بين الشباب المدني و”الهيئة” وأطراف عديدة من “معتدلي الجيش الحر”. كما أن قوى الداخل هي التي تملك القدرة الفعلية على إدارة العلاقة مع الخارج على أساس امتلاكها للحضور الميداني، مدنياً وعسكرياً.