دليل… إلى المنفى/ عبده وازن
المنفى هو المنفى أياً تكن أحواله، لكنّ المنفيين عندما يكونون كتّاباً، لا يتشابهون دوماً، حتى في لحظات البؤس الشديد. ولئن ساور معظمهم شعور دائم بالاقتلاع والاستلاب حتى عندما يصبح المنفى وطناً ثانياً لهم أو بديلاً، فهم يحــيون هذه التــجربة الأليــمة كل على طريقته ووفق سلوكه. بعضهم ينتقل الى منفاه مكّرماً، مرفوع الرأس، وبعضهم يدخل متسللاً وشبه ذليل فيعاني ما يعانيه رفاقه في مخيمات اللاجئين قبل ان يصبح مواطناً في عالم جديد.
الروائي البوسني فيليبور كوليك كتب احدى اجمل روايات النفي، بعدما انتقل من كونه لاجئاً غير شرعي الى موقع الريادة في الأدب الفرنكوفوني. روايته «دليل الى المنفى» التي كتبها بالفرنسية مباشرة ليست فقط شهادة بديعة عن حال النفي واللجوء، بل هي ايضاً عمل نادر في أنسنة المنفى ورد الصفة الإنسانية الى المنفي الذي جرده منفاه منها. وأرفق كوليك عنوان الرواية التي تميل الى المذكرات او اليوميات بجملة طريفه هي «كيف تنجح في منفاك عبر 35 درساً»، والدروس هذه هي فصول الرواية او يوميات هذا الكاتب الذي فقد لحظة اجتيازه الحدود صفته كاتباً شاباً معروفاً ليمسي نكرة ورقماً في جدول اسماء اللاجئين.
قد تكون السخرية من المنفى والمنفيّ، من العالم والذات، هي ما اضفى على هذه الرواية فرادتها وملامح خصوصيتها. فالسخرية هنا هي الوجه الآخر للحال التراجيدية التي تزخر الرواية بها، وعبرها يكسر الكاتب المعايير التي باتت تتحكم بما يسمى «ادب المنفى» والأبعاد التي باتت شبه مستهلكة في تراث هذا الأدب عالمياً. ولعله لم ينس بتاتاً أنه جندي فار من الجيش البوسني ومن «ساحة» الحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة التي انقسمت خمسة بلدان. جندي فار، سجين سابق بتهمة الخنوع والجبن، لا قضية له سوى ايجاد بلد يؤويه. لكنه طبعاً لم ينس وطنه – الأم ولم يتخلّ عن لغته الصربية – الكرواتية إلا بعدما أصبح فرنكوفونياً.
ليس كوليك مناضلاً إذاً ولم يحمل حرب بلاده الى منفاه، ترك الحقد والكراهية هناك ليشعر هنا أنه فعلاً مقتلع تماماً. ولم يتورع عن الهزء من نفسه قائلاً: «لم يبق لي اسم، لم أعد صغيراً ولا كبيراً، لم أعد إبناً او أخاً، إنني كلب يبلله النسيان، في ليل طويل لا فجر له». كان في الثامنة والعشرين عندما هاجر خلسة الى فرنسا عبر مدينة رين عام 1992، ولم يكن يحمل معه سوى حقيبة صغيرة فيها وثائق خدمته العسكرية وخمسون ماركاً ألمانياً وقلم حبر ناشف ومخطوط وصابونة. ولم يكن يعلم من اللغة الفرنسية كما يقول سوى ثلاث كلمات: جان وبول وسارتر، وهو اسم الفيلسوف الوجودي الذي قرأه جيداً مترجماً إلى لغته – الأم. كان بدأ حينذاك في شق طريقه الأدبية وله روايات واسمه معروف، لكنه وجد نفسه في مكتب طلب اللجوء نكرة و»لا شيء، مجرد لا شيء». عندما قابل السيدة التي استقبلته في المكتب بادرها قائلاً: أنا جامعي وكاتب وصاحب روايات، فأجابته للفور: «لا أهمية لهذا يا بنيّ، هنا ستبدأ حياة جديدة». ثم سألته : هل تجيد الفرنسية؟ وعندما تُرجم له السؤال أجاب بالصربية: «أجل أجيد الفرنسية تماماً». ثم طمأنته: ستتعلم الفرنسية، ثلاثة أيام في الأسبوع.
يقول كوليك: «بؤس العالم كله حدد لنفسه موعداً هنا في رين، نهاية صيف 1992». لكنه لم يعلم ان كان رفاقه في طلب اللجوء، من افارقة وجنود روس فارين ومواطنين من اعراق شتى، قد شعروا بهذا البؤس. وخلال فترة التأهيل، عاش معركته القاسية مع الذكريات في «عالم جديد» ملؤه الخطر والعزلة. ويقول واصفاً حال اللجوء بأسى ومرارة: «اكتشفت شيئاً فشيئاً، أنني اللاجئ. الإنسان الذي لا هوية له ولا وجه، لا حاضر ولا مستقبل».
لكن الكاتب الشاب الذي تسلل خلسة الى منفاه الفرنسي، فقيراً ومعدماً، نجح في تخطي مأساته ليصبح كاتباً في وطنه الثاني، كاتباً بالفرنسية مرموقاً ومعروفاً. إنها الكتابة التي حرّرته من بؤس الماضي واللجوء، بؤس الاقتلاع والاستلاب.
الحياة