دور اليسار في ثورات الربيع العربية: أربعة كتاب من سورية
اليسار موقع وعمل ودور، وليس نسبا أو هوية!
ياسين الحاج صالح
1ــ هل كانت مشاركة القوى اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهيرية مؤثرة في هذهِ الثورات؟ وإلى أي مدى؟
في اليسار التقليدي، الشيوعي، منزعان: منزع مساواتي وعدالي وإنساني، ومنزع تسلطي، ميال إل احتكار الصواب والسلطة. بقدر ما يتغلب المنزع الأخير في تكون اليساريين، فإنه يضعهم في موقع متعالي على العامة والثورات. ولقد كانت الشيوعية الرسمية، وبعض الشيوعية المعارضة تاريخيا،وهما شريكتان في التمركز حول الذات والتلهف على السلطة، أقرب إلى التحفظ على الثورة، أو العداء الصريح لها. شاركتهما الموقف الشيوعية اللبنانية.
هناك بالمقابل يساريون مستقلون، ديمقراطيون وليبراليون، ينحدر بعضهم من المنزع الآخر لليسار الشيوعي القديم، المنزع العدالي والإنساني، كانوا أكثر إيجابية وانخراطا في الثورة. ومساهماتهم أغنت الثورة ونمت بعدها الثقافي، وأسهمت في إنقاذ كرامة اليسار في البلد.
لكن بين المشاركين في الثورة منحازون لقيم المساواة والحرية والعدالة، دون أن يعرفوا أنفسهم كيساريين أو ينحدروا من أصول يسارية تقليدية. أكثرهم شباب على كل حال، وربما من بينهم سيتشكل يسار جديد ما بعد شيوعي.
2- هل كان للاستبداد والقمع في الدول العربية الموجه بشكل خاص ضد القوى الديمقراطية واليسارية دوره السلبي المؤثر في إضعاف حركة القوى الديمقراطية واليسارية؟
يتضمن السؤال حكما ذاتيا منحازا في شأن مراتب التعرض للقمع، يحيل إلى التمركز الشيوعي القديم حول الذات. في الواقع ليست “القوى الديمقراطية واليسارية” هي التي تعرضت للقمع “بشكل خاص”، فقد طال القمع كل القوى السياسية والاجتماعية المستقلة حقا، وفي كل من تونس ومصر وسورية وليبيا تعرض الإسلاميون لوطأة القمع الأشد.
لكن لا ريب أن القمع أضعف تلك القوى. لقد ألحقت بها النظم القمعية هزائم سياسية، وهو ما أفضى إلى تقزيمها وغرس شعور عميق بالنقص في أوساطها، وكذلك أسرها في موقع رد الفعل وإفقادها القدرة على المبادرة الفكرية والسياسية. وقد فاقم هذا كله أنها قلما تمكنت من تجديد منظوراتها الفكرية ورؤاها، بحيث تجدد شبابها وتستعيد القدرة على المبادرة. وهذه النقطة أكثر أهمية من القمع ذاته في رأيي. يشهد على ذلك أن اليسار التقليدي دخل في أزمة حتى حيث تعرض لقمع أقل أو لم يتعرض للقمع. وهذا لأن منظورات هذا اليسار وأكثر مفاهيمه وأدواته لم تعد صالحة لا لفهم العالم وشرحه، ولا لتوجيه العمل فيه، ولا لاجتذاب مؤيدين وتعبئة أنصار على تلك الأرضية. أي أن كل وظائف الإيديولوجية الشيوعية قد تعطلت، الوظيفة المعرفية الشارحة، والوظيفة العملية البرنامجية، والوظيفة الرمزية التعبوية. وهذا التعطل الشامل علامة موت أكيد.
يشهد على ذلك أيضا أن اليسار غير الشيوعي لم يجد صعوبة في الانخراط بأشكال متنوعة في الثورة في سورية.
3- هل أعطت هذه الانتفاضات والثورات دروساً جديدة وثمينة للقوى اليسارية والديمقراطية لتجديد نفسها وتعزيز نشاطها وابتكار سبل أنجع لنضالها على مختلف الأصعدة؟
أرى أن أهم درس أن اليسار ليس مسألة انتساب إيديولوجي، أو أصل أو هوية، بل هو مسألة موقع في الصراعات الاجتماعية والسياسية الفعلية، ومسألة عمل وكفاح فعلي. من هو ضد الثورة ليس يساريا، وإن كان اليساري ينخرط في الثورة بطريقة ربما تغاير انخراط وعلى أسس مغايرة.
والدرس الثاني وجوب إعادة بناء التوجه اليساري على المبادئ الأخلاقية الأولى، العدالة والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، وليس حول تلك التركيبات الإيديولوجية المزورة مثل الممانعة والشيوعية والقومية.
وكذلك أولوية المعرفة المبنية على التجربة الحية والخبرة وليس على اجترار تعاليم الإسلاف.
4ــ كيف يمكن للأحزاب اليسارية المشاركة بشكل فاعل في العملية السياسية التي تلي سقوط الأنظمة الاستبدادية؟ وما هو شكل هذهِ المشاركة؟
بالانخراط في الكفاح الثوري الجاري الآن، بأن تكون جزءا من العملية التغييرية الكبرى التي نعيشها، وبالانحياز المتسق ضمنها إلى قيم المساواة والحرية والعدالة والأخوة الوطنية والإنسانية. وبالتخلي النهائي عن الصلف الشيوعي والانعزالية الشيوعية، وذهنية الملة الناجية في صيغتها الشيوعية. وكذلك القطيعة مع ذهنية الحرب الباردة المستمرة ضد جميع الآخرين، وهي استبطان للحرب الباردة التي كانت خاضتها الشيوعية السوفييتية غير المأسوف عليها (ومثلها في ذلك الليبرالية الأميركية).
المساحة التي سيشغلها يساريون في العملية السياسية بعد سقوط نظم الاستبداد تتناسب مع مساحة مشاركتهم اليوم في الكفاح ضد الاستبداد.
5- القوى اليسارية في معظم الدول العربية تعاني بشكل عام من التشتت. هل تعتقدون أن تشكيل جبهة يسارية ديمقراطية واسعة تضم كل القوى اليسارية والديمقراطية العلمانية ببرنامج مشترك في كل بلد عربي, مع الإبقاء على تعددية المنابر, يمكن أن يعزز من قوتها التنظيمية والسياسية وحركتها وتأثيرها الجماهيري؟
بقدر ما يتعلق الأمر بسورية، فإن الأولوية كانت ولا تزال لمزيد من الفرز بين يسار استبدادي وعلمانية استبدادية وبين يسار وعلمانية ديمقراطيين. الأولوية للديمقراطية والتحرر الشعبي، وليس للقرابات الإيديولوجية. الجبهة المطلوبة هي جبهة الديمقراطيين (ماركسيين، ليبراليين، اجتماعيين…)، وليست جبهة الشركاء الإيديولوجيين.
6ــ هل تستطيع الأحزاب اليسارية قبول قيادات شابة ونسائية تقود حملاتها الانتخابية وتتصدر واجهة هذهِ الأحزاب بما يتيح تحركا أوسع بين الجماهير وأفاقا أوسع لاتخاذ المواقف المطلوبة بسرعة كافية؟
هذه مسألة حياة أو موت. في سورية نشط في الثورة، واعتقل واستشهد في سياقها، شباب، نساء ورجال، لا يشبهون إلا قليلا اليساري الشيوعي التقليدي، ولا يصدرون عن عقيدة محددة أو يبشرون بنموذج اجتماعي جاهز، أو يحتكرون الحق والمعرفة لأنفسهم. أعتقد أن الثورات إعلان موت نهائي للضرب التقليدي من اليسار، وشهادة ميلاد محتملة ليسار مختلف، عملي أكثر، إنساني أكثر، متحرر من أزمة اليسار القديم وماضويته.
لكني لا أتصور اليسار حزبا أو تنظيما، أو أحزابا… إنه حساسية وحركات اجتماعية وطاقة حية متحركة. أتطلع شخصيا بيسار لا تغريه السلطة على أي مستوى، ولا يدعو إلى المساواة، بل يجسدها في سلوك اليساريين. أحب كثيرا قول غاندي: كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم!
أحب أن أضيف أنه، على المستوى الفلسفي، يبدو لي أن على اليسار ما بعد الشيوعي أن يضع نفسه على مستوى ما يجري ويصير ويحدث، على مستوى الصيرروة (أستند على جيل دولوز)، وليس على مستوى ما هو كائن أو ما سيكون، الطوبى. الانحياز المعرف لليسار هو إلى التغير والحركة والتجدد المستمر، وليس إلى أية أوضاع قائمة أو مثل ربما تقوم يوما.
7- قوي اليسار معروفة بكونها مدافعة عن حقوق المرأة ومساواتها ودورها الفعال، كيف يمكن تنشيط وتعزيز ذلك داخل أحزابها وعلى صعيد المجتمع؟
بالمشاركة المباشرة، هنا والآن، للنساء في التشكيلات الاجتماعية والسياسية القائمة أو الآخذة بالتشكل. ورأيي أن اليسار ينبغي أن يكون أكثر انشغالا بالمجتمع مما بالدولة، وبالتحت وليس بالفوق، وبالآن أكثر مما بالمستقبل. المستقبل يصنع الآن، واليساري التحرري يقوم بالعمل الصحيح الآن.
وبما أن من المرجح أن يكون للإسلاميين حضور ووزن عام أكبر بعد الثورات، فسيكون مهما لليسار أن يجسد نموذجا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا مغايرا، متسقا ذاتيا، وقادرا على مخاطبة قطاعات متململة في مجتمعاتنا من أية سيطرة دينية محتملة. مسألة المرأة في القلب من مثل هذا النموذج. والمهم بالطبع هو التحرر الحقيقي للنساء، وليس التحرر الشكلي المحض.
8ــ هل تتمكن الأحزاب اليسارية والقوى العلمانية في المجتمعات العربية من الحدّ من تأثير الإسلام السياسي السلبي على الحرّيات العامة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والتحرر؟
هذا ممكن إذا كانت هي تجسد الحريات العامة وحقوق الإنسان والمرأة والتحرر. إما إن كانت تعرّف نفسها بهذه القيم دون أن تتجسد في نظمها وعملها فعلا، فبالطبع لا يمكنها أن تحد من أي تأثير سلبي لأي كان.
سألاحظ أيضا أنه في الواقع المعاين كان دور إسلاميين في الجولة الراهنة من الكفاح من أجل الحرية السياسية أكبر من دور “أحزاب يسارية وقوى علمانية”، ليس كل الإسلاميين ولا كل اليساريين والعلمانيين بالتأكيد، لكن يما يكفي لعدم المطابقة بين الهوية الإيديولوجية وبين الموقع والدور الفعليين. وبما يوجب الخروج، مرة أخرى من التمركز الإيديولوجي حول الذات ومن ذهنية الحرب الباردة.
بالمناسبة، ألاحظ أن الإسلاميين ماديون بالمعنى الفلسفي للكلمة أكثر بكثير من عموم اليساريين، يمن فيهم يسار ما بعد شيوعي. الإسلاميون أرجلهم على الأرض وعيونهم على الأرض، رغم “سماوية” عقيدتهم، وهم منشغلون بالواقع القائم فعلا ومشكلاته، وإجاباتهم بسيطة، وربما تبسيطية، على ما يطرحه من تحديات، وهم شعبيون بمعنى قربهم الفعلي الحي من الشعب، ومن البيئات الشعبية الفعلية. فيما أكثر ضروب اليسار لدينا فكروية ومجردة، ومثالية بعمق (فلسفيا). لا يسجل الإسلاميون تقدما في مجتمعاتنا الثائرة لأسباب احتجاجية فقط، ولا لأنهم مفهومون ومثالهم قريب مما يعرفه الناس ويتعارفون عليه، ولكن كذلك لأنهم أقرب فعليا إلى الجمهور العام وأكثر انخراطا في أوساطه. لا مجال لمنافستهم سياسيا أو الحد من أية آثار سلبية محتملة لهم على أي مستوى دون اكتساب احترام المجتمع ووضع النفس إلى جانبه وفي مستواه.
9- ثورات العالم أثبتت دور وأهمية تقنية المعلومات والانترنت وبشكل خاص الفيس بوك والتويتر….. الخ، ألا يتطلب ذلك نوعاً جديدا وآليات جديدة لقيادة الأحزاب اليسارية وفق التطور العملي والمعرفي الكبير؟
بلى. لكن المسألة محلولة منذ أن نفكر أن الثورات هي التجربة المكونة ليسار جديد ما بعد شيوعي. فإذا كان ما يميز اليسار هو انشغال أقوى بقضايا المساواة الاجتماعية وموقف مخاصم لأهل السلطة والامتياز، فإن يسار ما بعد الثورة هو ما يجعل من الانترنت ووسائل الاتصال الجديدة ميدان معركة من أجل الحرية والمساواة، وضد الراسخين في السلطة والمال. هذا غير ممكن دون تمكن طيب من التقانات الجديدة التي قلبت العلاقة التعليمية لمصلحة ألأصغر سنا: الأصغر هم من يعلمون الأكبر. قد يكون واحدا من التناقضات الأهم غدا هو هذا الذي يتواجه فيه شباب يسيطرون على التقانة مع كهول يسيطرون على السلطة والمال. أفترض أن يسارا جديدا هو يسار يقوده الشباب.
ولعل الأكبر سنا يحسنون كثيرون إلى مجتمعاتنا بأن يشتغلوا أكثر في مجال الثقافة. هذا شيء مهم، وسيزداد أهمية في ومن ما بعد الثورات.
10- بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن، كيف تقيمون مكانته الإعلامية والسياسية وتوجهه اليساري المتفتح ومتعدد المنابر؟
السجل متناقض في هذا الشأن في تقديري. من ناحية وسع “الحوار المتمدن” قاعدة الكتابة والمشاركة، فكان له مفعول ديمقراطي لا ريب فيه. لكنه أفسح المجال لمشاركات من كل نوع، ينتحل بعضها العلمانية والحداثة، لكنه يميني اجتماعيا وأقرب إلى الفاشية سياسيا، وأقرب إلى التيارات الأشد يمينية وعدوانية في الغرب. وهذا ما انكشف بخاصة بعد تفجر الثورات، رغم انه لم يكن خافيا جدا قبلها.
ويبدو لي أن “الحوار المتمدن” ساحة تجاذب بين منحدرين من النزعتين المتأصلتين في اليسار التقليدي اللتين ذكرتهما في الإجابة على السؤال الأول: نزعة إلى العدالة والمساواة والأخوة الإنسانية، ونزعة إلى الاستئثار بالسلطة والحقيقة والقيادة. الميول الفاشية هي استمرار لهذه النزعة الأخيرة في اليسار الشيوعي. وبعض معتنقيها هم موالون للأنظمة التي تتفجر ضدها الثورات. كلاهما، النزعة التسلطية في اليسار التقليدي وتحولها الفاشي، يتعالى على العامة وعفويتهم، وكلاهما ينسب لنفسه رسالة، لكنها كانت رسالة “تغيير” عند اليسار الشيوعي، انقلبت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والشيوعية السوفييتية إلى رسالة “تنوير”.ويعرض كلاهما منزعا عصبويا طائفيا، وعداء أكيدا للديمقراطية. وأكثر المنورين الفاشيين هم شيوعيون استبداديون سابقون أو شركاء لهم في الذهنية.
ويبدو لي أن هذين التيارين، الشيوعي الماضوي والحداثي الفاشي، يهيمنان على “الحوار المتمدن”، أكثر من اليسار الاجتماعي والديمقراطي.
أرى أن يتوقف الموقع عن خطة التوسع الأفقي، ليس فقط لاجتناب أصوات لا قضية لها ولا مبدأ، ولا كي يطابق هويته المعلنة كموقع يساري وديمقراطي وعلماني، ولكن كذلك لأن المنابر الافتراضية صارت كثيرة، وهناك الفيسبوك وتويتر، والقارئ يغدو أكثر انتقائية، وسيقصد “الحوار المتمدن” لأنه يسعى وراء توجه بعينه ولون فكري محدد، وليس من أجل كشكول يحتوي ألوان متعددة فلا يبقى له لون خاص به.
دور اليسار في ثورات الربيع العربية
جورج كتن
مشاركة القوى اليسارية في ثورات الربيع العربي لم تكن مؤثرة ، فهي آخر من شارك في انتفاضة عفوية انطلقت من الشارع مباشرة ومن قوى شبابية ليس لها علاقة بأي من القوى اليسارية، ودورها فيما بعد أحد الأدوار الثانوية، وخاصة أن القوى اليسارية المتعارف على أنها إشتراكية أو شيوعية، بعيدة أصلاً عن الشارع في البلدان التي شهدت هذه الثورات، وذلك لأسباب متعددة، قد تختلف من بلد إلى آخر، ولكن يمكن إجمالها في أنها بعيدة عن روح العصر، ما زالت تعيش في إطار أيديولوجيا فات زمانها، وهو ما أكدته التغييرات العالمية العاصفة التي بدأت مع إنهيار أنظمة بلدان كتلة الدول “الإشتراكية” في التسعينات من القرن الماضي، وتحول هذه البلدان لأنظمة ديمقراطية، ليبرالية سياسياً واقتصادياً، بعكس كل التنظير “اليساري” حول أولوية الشعارات الإشتراكية واعتبار الليبرالية عدواً يجب محاربته، وذلك بالإعتماد على النصوص القديمة التي لا علاقة لها بالوقائع الراهنة في هذه البلدان وفي العالم.
القوى اليسارية رغم شعاراتها الملحقة حول الديمقراطية، ما زالت بعيدة عن الهم الشعبي الذي عبر بوضوح تام مثل الشمس أن ما يريده هو الحرية والكرامة والعدالة بإنهاء الاستبداد من أية جهة أتى من اليمين او اليسار أو الوسط وهي تقسيمات لم تعد تهم سوى من يتعبدون النصوص القديمة الماركسية وغيرها التي تشوش رؤيتهم للاوضاع الراهنة، وكمثال على هذا التشوش الذهني سعي كتاب يساريون للبحث في وصف الثورات حسب دور الطبقات فيها، علما بانها شاملة لجميع الطبقات بلا تمييز والإنقسام الرئيسي فيها بين القوى الديمقراطية التي تشمل كل الطبقات من جهة، والقوى المؤيدة للديكتاتورية وفيها قطاعات من كل الطبقات من جهة أخرى. تفسير اليسار الخيالي يمكن إشتقاقه بسهولة من نصوص ما زال يتبناها ويعتقد أنها العلم الوحيد الصحيح القادر على تفسير كل ما يجري في العالم.
قد يعتقد البعض أن الإستبداد والقمع في الدول العربية كان موجهاً بالدرجة الأولى للقوى اليسارية مما اضعفها بالنسبة للقوى الاخرى، ولكن هذا غير دقيق إذ أن القمع كان موجها للجميع ولم يختص بها، ورغم هذا القمع فقد انطلقت الثورة دون علم الجميع. فيما أطراف محسوبة على اليسار تحالفت مع الانظمة المستبدة لتأمين مصالحها على حساب الشعب المضطهد والمهمش، وكمثال على ذلك الأحزاب “اليسارية” التي تشارك في الجبهة الوطنية التقدمية التابعة للنظام السوري والتي تضم أحزاب شيوعية واشتراكية إلى جانب حزب السلطة.
لا أرى أن هذه الثورات قد اعطت دروساً جديدة لليسار لتجديد نفسه وتعزيز دوره، فإذا كانت التغييرات العاصفة في العالم لم تدفعه للتخلي عن نظرياته القديمة فإني أشك ان الثورات من أجل الحرية ستدفعه لذلك. لكي يجدد نفسه يجب بالدرجة الاولى ان يتخلى عن كل الأيديولوجيا التي لم تعد مناسبة للعصر، ولا يكفي إجراء تجميل بلصق الديمقراطية ويضيفها لشعاراته، فإذا لم تكن الديمقراطية والليبرالية هي أولويته الرئيسية فأي تغيير او تجديد هو ديكور لن يقنع أحداً، يبقه حياً من بقايا عهود سابقة، غير مؤثر أو مقبول من الغالبية التي تريد بناء نظام ديمقراطي حقيقي سيستغرق زمناً طويلاً ويحتاج إلى جهود مضنية. لذلك أتوقع أن القوى اليسارية ستكون مشاركتها محدودة وغير فاعلة فيما يلي سقوط الانظمة الإستبدادية، فالتغيير المطلوب لا يتناول الشكل بل المضمون ومعظمه.
كما لا أظن أن الاحزاب اليسارية ستقبل قيادات شابة ونسائية تقود حملاتها الانتخابية، “فالقيادات التاريخية” ما زالت مهيمنة في صفوفها ولن تتخلى عن مناصبها للشباب في أغلب الحالات، وستقاتل من أجل بقائها على رأس الهياكل المتبقية من أحزابها، فهي مفصلة أصلاً لتناسب قياسها. فإذا كانت الستالينية قد دحرت في الإتحاد السوفييتي السابق فإن بقاياها ما زالت حية في أحزاب اليسار الباقية ونماذجها التي تقلدها هي للبعض القيادة “التاريخية” الكوبية والكورية وهي “جمهوريات وراثية”، وربما لآخرين الصينية والفييتنامية التي لا تزال تطبق “ديكتاتورية البروليتاريا” الموكل بها للحزب وأمينه العام. هل سيتخلى الرفيق نايف حواتمة مثلاً لصالح الشباب عن أمانة عامة الجبهة الديمقراطية التي يحتفظ بها منذ تأسيس الجبهة في العام 1969، وهي نفس المدة التي حكم فيها القذافي ليبيا إلى أن أطاحت به الثورة؟ لا أظن ذلك، فالأمناء العامون لا يتركون كراسيهم عادة إلا لحملهم للقبر
أما أن يتمكن اليسار من الحد من تأثير الإسلام السياسي السلبي على الحريات العامة وقضايا المرأة فلا أعتقد أن ذلك ممكن، فالاحزاب اليسارية والقوى العلمانية عامة تدعو لهذه الحقوق منذ زمن بعيد فلا تلقى الإستجابة من غالبية الشعب، الذي بحكم تغييب وعيه في مرحلة الانظمة الاستبدادية الطويلة يعطي تأييده بشكل واسع لقوى الإسلام السياسي. هذا التأييد لن ينتهي بجهود اليسار أو العلمانيين، دورهم سيساعد ولكنه ليس الحاسم والرئيسي. القطاعات الشعبية التي ما يزال الإسلام السياسي مؤثراً في حشدها خلفه ستتعلم من تجربتها الخاصة ومع الزمن في ظل الديمقراطية، أن الإسلام السياسي لا يمثل مصالحها وتحديثها وتـأمين حقوقها التي اقرتها الشرائع الإنسانية، وأنه يسعى لإبقائها متخلفة، وحتى يمكن أن يجردها من المكاسب القليلة التي تحققت أثناء الحكم الديكتاتوري. وأظن أن المثال الإيراني افضل نموذج لذلك، فقد حظيت الثورة الإيرانية بقيادة الإسلام السياسي بتأييد الملايين من الشعب الإيراني، ثم بعد تجربة الحكم الديني لولاية الفقيه بدأ الشباب والنساء بالتمرد على النظام الإسلامي وتصاعدت انتفاضاتهم حتى باتت مليونية منذ عامين، والنصر في النهاية سيكون لهم. أما عن دور اليسار الإيراني في هذه الانتفاضات فهو تقريباً لا شيء.
هذا مع الأخذ بعين الإعتبار أن الإسلام السياسي لا يمكن وضعه في سلة واحدة، رغم ان مراجعه واحدة، فالإسلام السياسي المعتدل كحزب العدالة والتنمية التركي قبل بالحكم من خلال العلمانية وفصل الدين عن السياسة وتخلى عن تطبيق الشريعة في شؤون المجتمع والدولة وقدم نموذجاً للحكم حداثياً ومتقدما يكاد يشابه الأحزاب المسيحية الديمقراطية في الغرب. وربما لا تكون تجربة حزب النهضة التونسي بعيدة عن هذا الإتجاه، فإذا حدث ذلك وهو امر غير مستحيل، فسيشكل عندها الإسلام السياسي منافساً قويا على الاصوات الانتخابية مع القوى العلمانية والليبرالية واليسارية لفترة طويلة، علما بأن مثل هذا التطور لأقسام رئيسية من الإسلام السياسي لا يعني أن المتطرفين والسلفيين ضمن هذا التيار سينتهي دورهم ولكنه سيهمش كما اتوقع بشكل كبير، والمثال التركي ايضاً واضح في هذا المجال حيث الأحزاب الإسلامية المتطرفة ما زالت موجودة وتمارس نشاطاتها ولكنها محدودة التأثير حيث الكتلة الرئيسية في الشارع مع الإسلام الحداثي للعدالة والتنمية.
من المؤكد أن تقنية المعلومات الحديثة قد أدخلت تطويراً كبيراً على شكل العمل السياسي، لكنها لم تدخل وسائل اخرى مكان وسائل سابقة، بل أدخلت وسائل أحدثت ثورة في المفاهيم السياسية والإجتماعية نفسها فغيرت العالم.. فيما الاحزاب اليسارية متخلفة مرحلتين: الأولى عن الشكل الديمقراطي الليبرالي للأحزاب الحديثة من نموذج الحزب الإنتخابي غير الأيديولوجي، بسبب إستمرار تبنيها للمركزية الديمقراطية التي هي مركزية على الاغلب مع غطاء ديمقراطي، وهي ستتخلف بالتأكيد عن المرحلة الثانية الجديدة التي يدخلها المجال السياسي بعد عصر تقنية المعلومات والذي تجاوز الحزب الإنتخابي نفسه لأشكال جديدة من تحشيد الانصار لتحركات سياسية من خلال شبكات التواصل الإجتماعي، ودون الحاجة لتنسيبها لحزب سياسي ما حسب التقاليد القديمة في احزاب اليسار.
كما أن الخطاب السياسي التقليدي لليسار لم يعد يجتذب المهتمين بالشأن السياسي العام بقدر التعليقات القصيرة والمناقشات التي تشرك الجميع دون قيود، فمعظم أحزاب اليسار ما زالت تعمل في إطار ما تسميه “الأقنية التنظيمية” التي تقنن النقاش بحدود لا تتجاوز ما تريده القيادات الحزبية “التاريخية”. وحتى الإعلام الحزبي تجاوزه آلاف الإعلاميين السياسيين المستقلين الذين يرصدون الحدث ويكتبون عنه ويصورونه ويبثونه دون الحاجة لوسائط مثل الصحف الحزبية. لذلك فالأحزاب اليسارية “من النموذج اللينيني” أو غيره من النماذج لن تستطيع الإستفادة من التقنية الحديثة طالما انها لم تتخلص من مسألة رئيسية تحكم عملها وهي مطابقة الوقائع للنصوص بدل العملية العقلانية وهي مطايقة النصوص للوقائع الحديثة المتغيرة باستمرار.
– ديسمبر 2011
دور اليسار و مستقبله مرهون بالكفاح من أجل الكرامة و العدالة والمساواة
بدرخان علي
1ــ هل كانت مشاركة القوى اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهيرية مؤثرة في هذهِ الثورات؟ و إلى أي مدى؟
في الواقع اختلفت المشاركة هذه بحسب البلدان، أي بحسب المجال السياسيّ و طبيعة النظام والسلطة والقوى الاجتماعيّة والسياسيّة؛ ففي تونس كان هناك دور معروف لبعض النقابات والجمعيّات كـ”الاتحاد العام للشغل” مثلاً. في مصر كان هناك دور نشط للحلقات والقوى الشبابية التي تشكّلت في السنوات الماضية وبعض الأحزاب السياسية التي كان لها دور في الإبقاء على معارضة مصريّة سياسيّة وحقوقيّة لنظام حسني مبارك. لدينا في سوريا الانتفاضة عفويّة إلى حدّ كبير، أي لا تقف وراءها قوى منظّمة بعينها. أما النقابات في سوريا فهي جزء من الجهاز التأطيري للمجتمع، أي تحصينه من السياسة والمطالب والاحتجاج، أي عكس ما هو متوقع من اسمها. صحيح أن لنشطاء سياسييّن، من بقايا الوسط النخبويّ المعارض الذي تعرض لسحق فظيع من السلطة، ونشطاء من المنظمات المعنيّة بحقوق الانسان والمبادرات المستقلّة، لها وجود ملحوظ في الانتفاضة السورية سيما في الترويج الاعلاميّ والسياسيّ، لكن الانتفاضة شعبيّة-عفويّة إلى حدّ كبير.. ليس هذا بالشيء المفرح كثيراً بالطبع، بالنسبة لي على الأقل. لكن هذا هو واقع الحال. فوجود قوى سياسية متمرّسة وراء الحراك الشعبيّ، إن لم تكن أمامه ، كان لها أن تركّز الجهود بشكل أكبر في سبيل تحقيق أهدافه التي تتلخّص بالكرامة والحريّة. والتخفيف من التضحيات الهائلة المترتّبة حتّى الآن، و بالتأكيد كان لها أن تخفّف من الأخطاء الجانبية الحاصلة في سياق الانتفاضة وتلك المحتملة من جرّاء حراك شعبي عفويّ يواجه آلة عملاقة من القتل والتدمير والإذلال. السبب طبعاً ليس خافياً على كل متابع للشأن السوريّ؛ فالسلطة الديكتاتورية في دمشق قضت على كل معارضة موجودة وسحقت نويات ومشاريع المعارضة من أيّ لون.
2- هل كان للاستبداد والقمع في الدول العربية الموجه بشكل خاص ضد القوى الديمقراطية واليسارية دوره السلبي المؤثر في إضعاف حركة القوى الديمقراطية واليسارية؟
بالتأكيد.على أن الاستبداد أضعفَ جميع القوى السياسيّة والاجتماعيّة وليس اليسارية والديمقراطية وحسب. لدينا في سوريا قمعٌ معمّم طال الجميع. اغتيلت السياسة تماماً وتم إبطال فاعلية من لم يمت تماماً فيزيائياً عبر تشكيل ما سمي بـ”الجبهة الوطنية التقدمية” التي هي المسمّى “الشرعيّ” لغياب الأحزاب والتعددية الحزبيّة والاستلحاق بالسلطة من موقع التابع وليس المشارك أو المساهم الصغير حتّى. و “الجبهة” العتيدة هذه، بمناسبة الحديث عن القوى اليساريّة، تضمّ أكثر القوى المنتسبة لليسار في سوريا!! وهذا ما يعني أن بعض اليسار قد ارتضى الالتحاق بأكثر النظم استغلالاً وتهميشاً و ظلماً. هذا ما يؤدي بنا القول إلى أن مسألة العقائد الايديولوجيّة المعنلة ليست عنواناً أو ممرّاً إجبارياً لموقع مماثل في الواقع الملموس، أي في السياسة والمجتمع.
3- هل أعطت هذه الانتفاضات والثورات دروساً جديدة وثمينة للقوى اليسارية والديمقراطية لتجديد نفسها وتعزيز نشاطها و ابتكار سبل أنجع لنضالها على مختلف الأصعدة؟
صيغة السؤال تقول نعم. وأنا أقول من المحتمل. لكن كل القوى أمام اختبار جديد ومعركة دائمة. هذه هي الديمقراطية التي بديلها هي الاستبداد والقمع والإقصاء. أن تكون حظوظ القوى اليسارية قليلة بالمقارنة مع تلك الإسلامية مثلاً فهو يرتّب أعباءً كبيرة على ما تبقّى من يسارييّن حقيقييّن في بلداننا بعد انهيار المنظومة الاشتراكية التي كانت السند الايديولوجي والرمز السياسي لليسار في منطقتنا.
الانتفاضات الحاصلة بمجرد إطاحتها بالنظم القمعيّة والشموليّة المستولية فتحت المجال السياسي على جميع المواطنين للمشاركة السياسية والاهتمام بالشؤون العامة و الاحساس بقيمة الصوت الاحتجاجيّ أو الانتخابيّ فيما بعد. على هذا الأساس دخلنا من مرحلة اسقاط السلطة الحاكمة إلى مرحلة طويلة ومعقّدة هي بناء الديمقراطية وبناء الدولة، وإعادة الاعتبار للسياسة.
4ــ كيف يمكن للأحزاب اليسارية المشاركة بشكل فاعل في العملية السياسية التي تلي سقوط الأنظمة الاستبدادية ؟ وما هو شكل هذهِ المشاركة ؟
أرجح أن الاحزاب اليساريّة المتبقيّة لن تقدر على لعب دور مميّز في الواقع الجديد في المدى المنظور.وهذه مسألة محليّة و إقليميّة وعالميّة؛ رغم أن المجال فتح للجميع، ورغم أن هناك انتعاش عالمي نسبيّ لحركات اليسار الجديد في سياق العولمة و الأزمات الاقتصادية العالمية وهناك عودة لدراسة ماركس مثلاً..
في كل الأحوال ينبغي الانخراط في مشكلات الواقع المعقّد وعدم الاكتفاء بذمّه( أي الواقع) والبكاء على ماضٍ ورديّ، أو الاستسلام للواقع غير المُرضي والقول بأن شعوبنا لا تتقبّل سوى القوى الاسلاميّة والدينيّة والطائفيّة. أمام اليسار اختبار كفاح عمليّ كي يثبت جدارته. لكن في نفس الوقت يطلب من القوى المنسوبة لليسار إجراء مراجعة عميقة لماضيها ولدورها وإمكان تعزيز مكانتها. المراجعة تكون فكريّة ونفسيّة وسياسيّة وتنظيميّة. سيما وأن اليسار التقليديّ عندنا بقي في حدود اجتهادات فكرية ضيّقة أو غائبة. المواضيع المطروحة للتجديد عديدة ومنها ذات طبيعة مجتمعيّة ونضاليّة وأخرى معرفيّة فكرية.
5- القوى اليسارية في معظم الدول العربية تعاني بشكل عام من التشتت. هل تعتقدون أن تشكيل جبهة يسارية ديمقراطية واسعة تضم كل القوى اليسارية والديمقراطية العلمانية ببرنامج مشترك في كل بلد عربي, مع الإبقاء على تعددية المنابر, يمكن أن يعزز من قوتها التنظيمية والسياسية وحركتها وتأثيرها الجماهيري؟
ألاحظ أنّ الأسئلة عموماً تدور حول نقطة واحدة وبصيغ متعددة تقول كلّها أن اليسار وحده من وقع عليه الظلم وإن هناك موانع مخصوصة وغيبيّة تحجم اليسار عن لعب دوره المفترض. وتوحي الأسئلة أكثر أنّ اليسار هو محور السياسة والمجتمع في بلداننا. أو من المفروض أن تكون كذلك. الواقع ليس كذلك طبعاً فلا “اليسار” هو يسار واحد( وكما نوّهنا أن بعضه التحق بأبشع النظم استغلالاً واضطهاداً) ولا هو محور السياسة كما توحي الأهمية التي أوليتموها في الأسئلة المطروحة بمعزل عن الوضعيّة السياسيّة العامة ومأزق المجتمعات والدول. نحن أمام مرحلة جديدة في تاريخ بلداننا. هي فتح المسرح السياسيّ للجميع. وعلينا القول أن مجتمعاتنا ودولنا في أمس الحاجة لتيارات وأفكار وطنية ديمقراطية غير ذات طبيعة إيديولوجية لأن مشكلاتنا ليست إيديولولوجيّة أساساً بل تتصل بنمط ممارسة السلطة والسياسة تحديداً، وواقع التمييز والاستغلال والظلم. القليل من مشكلاتنا تاريخيّ أو إيديولوجيّ.
“الجبهة” التي تشير إليها في السؤال( وليس من الضروري أن تكون بالاسم الذي اقترحته) يجب أن تكافح عملياً من أجل القضايا المركزيّة التالية: العدالة والمساواة والمواطنة والكرامة، مقابل التمييز والتهميش والإقصاء والطغيان وقانون القوّة العارية. وهذا يمكن أن ينجز على أرضية ايديولوجيات يسارية جديدة أو وطنية ديمقراطية أو حقوقية صرفة حتّى، أي بلا ملامح إيديولوجية أو” منطلقات نظرية”. وهذا ممكن طبعاً. أمام اليسار فرصة ممتازة إذن أن ينخرط في صراعات الواقع بعد أن يتحرّر هو نفسه من أوهام الطليعيّة وامتلاك الحقيقة العلميّة و”الحتميّة التاريخيّة”. فالقضايا أعلاه من صلب العقيدة اليساريّة سيما العدالة الاجتماعية التي هي القضية المركزية في الفكر اليساريّ التحرريّ. استدخال قضايا المجتمعات سيما حاجات المهمّشين في المجتمع و الترويج لثقافة حقوق الانسان والسلم الأهلي والعالمي و حقوق المرأة و والنسويّة وحقوق الأقليات والعلمانية و المشكلات الطائفية وقضايا البيئة والاتجار بالبشر والمخدرات وتجارة السلاح… جزء لا يتجزّأ من هذه المراجعة الضرورية. ولنتعرف على تجارب اليسار الجديد في أوربا مثلاً. على اليسار أن يتغيّر فعلاً وخطاباً مع الاحتفاظ بنواته الفكرية الأساسيّة: النضال ضد الاستغلال والاضطهاد والتمييّز بكافة أشكاله، والانتصار لكرامة الإنسان -المواطن .الشيوعية التقليديّة لا تملك حظوظاً أبداً. الحساسيّة العالمية والمفاهيم المهيمنة باتت تناقض كلياً مع شعارات الشيوعية التقليدية من قبيل ديكاتورية البروليتاريا وما شابه..
والتلاقي مع قوى أخرى ممكن بل ضروري على طريق استعادة دولة المواطنين، كل المواطنين.
6ــ هل تستطيع الأحزاب اليسارية قبول قيادات شابة ونسائية تقود حملاتها الانتخابية وتتصدر واجهة هذهِ الأحزاب بما يتيح تحركا أوسع بين الجماهير و أفاقا أوسع لاتخاذ المواقف المطلوبة بسرعة كافية ؟
بالطبع هذا ممكن. لكن لا تنسى أنّ القوى الاسلامية أيضاً تملك وبدرجة أكبر قيادات شابة تعمل في الجامعات وعلى كل صعيد. في الماضي كان الشباب المتعلّم والجامعيّ منخرطاً في إطار القوى اليساريّة الديمقراطيّة أو القوميّة بدرجة اساسية، أي كان جمهوراً مضموناً لها. لكن الواقع تغيّر كما أود ان أركز في مداخلتي هنا.. وليس سرّاً أن الشباب غير اليساري أيضاً يتقن الانترنت والفيسبوك والتويتر وتنظيم الاحتجاجات…. والقوى الأكثر أصولية وظلامية استفادت كثيراً من التقانة( القاعدة مثلاً).
7- قوي اليسار معروفة بكونها مدافعة عن حقوق المرأة ومساواتها ودورها الفعال، كيف يمكن تنشيط وتعزيز ذلك داخل أحزابها وعلى صعيد المجتمع؟
صحيح؛ القوى الديمقراطيّة واليساريّة والعلمانيّة كان لها دور أساسيّ في نصرة المرأة وإبراز دورها في الحياة العامة.هذا شيء يسجّل لها. مع ذلك لا يمكن أن نحكم على تيار أو حزب من خلال مدرك أو معطى واحد فقط، وهو هنا النظرة العلمانية للمرأة وحقوقها. في سوريا مثلاً كثير من العلمانييّن العقائدييّن(بينهم مثقفون معروفون) يصطفّون مع الجلّاد أو يسكتون عنه على الأقل(بحجة أن النظام علمانيّ و”حامي الأقليات” أو أنه بديله إسلامويّ أصوليّ…) وبنفس الوقت ينادون بتحرّر المرأة. لا أكترث لهؤلاء كثيراً. لا يمكن فصل الخطاب عن الموقع السياسيّ أو الموقف من السلطة، كلّ سلطة؛ سيما سلطة الأقوى والمتجبّر، فما بالك لو كان متوحّشاً وغولاً!
تحرير المرأة هو جزء من عملية تحرير شاملة للمجتمع سياسيّاً وثقافيّاً والمعركة طويلة.
8ــ هل تتمكن الأحزاب اليسارية والقوى العلمانية في المجتمعات العربية من الحدّ من تأثير الإسلام السياسي السلبي على الحرّيات العامة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والتحرر ؟
من كل قلبي أريد رؤية تيارات متنوعة تحدّ من هيمنة الإسلاميّين على الحياة العامة في بلداننا وتكبح رغباتهم في الاستيلاء والنفوذ. مع تسليمي المبدأي أيضاً بحقّ الإسلاميين في اللعبة السياسيّة وحقّ التعبير والمنافسة، لكن بشرط نبذ العنف في العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة و الإقرار بالتعددية في المجتمع والسياسة والثقافة، وهذا الشرط يسري على الجميع.
لكن حجم تأثير “الإسلام السياسي” يختلف من بلد لآخر. في سوريا، ولأسباب متعددة، نزعم أن فرصة الإسلاميين أقل منها في مصر وتونس، على الأرجح. حتى في مصر وتونس وليبيا واليمن … ليست السلطة والدولة ملكاً مضموناً للإسلامييّن، كما يروج قطاعات منهم وبعض خصومهم، أو أرضاً خصبة لهم يصلحون فيها كيفما شاؤوا، رغم انتصاراتهم الانتخابيّة. الواقع عنيد على الكلّ ورغبة الإسلامييّن الجامحة للحكم والسلطة سوف تصطدم قريباً بالوقائع والحيثيات.وليكشتفوا هم أنفسهم كم ينبغي عليهم أن يتغيّروا ويتكيّفوا لا أن يغيّروا وحسب.
9- ثورات العالم أثبتت دور وأهمية تقنية المعلومات والانترنت وبشكل خاص الفيس بوك والتويتر….. الخ، ألا يتطلب ذلك نوعاً جديدا وآليات جديدة لقيادة الأحزاب اليسارية وفق التطور العملي والمعرفي الكبير؟
ظهر هذا الشيء في الانتفاضات الراهنة. التشبيك الالكتروني أضحى وسيلة تنظيمية فعّالة ولا بدّ من استدخالها في العمل السياسيّ والجماهيريّ. لكن من المبالغة كذلك القول أن ثوراتنا الراهنة هي ثورات فيسبوك وتويتر كما يروّج البعض(خاصة في الغرب) على أهمية الشبكة الالكترونية الكبيرة في التواصل و الترويج والدعاية.
10- بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن، كيف تقيمون مكانته الإعلامية والسياسية وتوجهه اليساري المتفتح ومتعدد المنابر؟
موقع الحوار المتمدن، الذي له أفضال على كثيرين منّا، مقروء بكثافة وينشر لكتاب متنوعين جداً. لكن اسمحوا لي بالقول أنه يعوزه الضبط و التحرير. المقالات على سويّات متفاوتة جداً. والتوجهات كذلك مختلفة وهذا ليس انتقاصاً طبعاً لكن يجب وضع بوصلة ما . القارئ وهو يتصفّح الموقع يحصل لديه تشويش ذهنيّ، وربما لا يعود إلى الموقع كثيراً نتيجة كثرة المواد المنشورة والسويات المتفاوتة كتابيّاً والمشتّتة الاتجاهات. أبارك لكم هذه التجرية الإعلامية، وهذا الجهد الكبير الذي تبذلونه يومياً وبإمكاناتكم الماديّة البسيطة.
حوار مع منذر خدام حول دور القوى اليسارية في الربيع العربي
1ــ هل كانت مشاركة القوى اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهيرية مؤثرة في هذهِ الثورات؟ و إلى أي مدى؟
باستثناء الثورة التونسية لم تشارك النقابات بصفتها هذه في مجريات الأحداث الثورية التي جرت في البلدان العربية الأخرى، بل شارك أعضاؤها. يبدو لي أن خصوصية الحياة السياسية في كل بلد عربي كانت عاملا حاسما في تحديد مشاركة الفئات الاجتماعية أو الأحزاب السياسية والنقابات في مجريات الأحداث الثورية التي جرت فيها. في تونس لعب الاتحاد الوطني للشغل وكذلك حزب العمال الشيوعي دورا بارزا ومستقلا نسبيا في مجمل الأحداث الثورية إلى جانب القوى الإسلامية والديمقراطية الأخرى، في حين كان الدور الأبرز للإسلاميين والقوى القبلية في ليبيا ، وفي مصر كان الدور الحاسم للشباب اللامتحزب، بالرغم من أن القوى السياسية التقليدية هي التي احتلت أخيرا المشهد السياسي بعد أن عملت مع المجلس العسكري على رسم وتحديد ملامحه. في اليمن كان دور الأحزاب المنضوية في تحالف اللقاء المشترك بارزا منذ البداية إلى جانب الشباب والبنى القبلية، وقد لعب توازن القوى على الأرض دوره في تحديد الخيارات السياسية للتغيير. في سورية المشهد أكثر تعقيدا، بالنظر إلى طبيعة النظام السياسي الأمنية وشدة انغلاقه ومحافظته هذا من جهة، ومن جهة ثانية بسبب القضاء على الحياة السياسية الطبيعة للسوريين خلال عقود من السنين. لذلك فقد شكل الفتية وأهاليهم القوة التي أشعلت الانتفاضة في البداية، لكن سرعان ما أخذت تتوسع من خلال انخراط الشباب العاطل عن العمل فيها ليشكلوا القوة المحركة للانتفاضة التي أخذت لاحقاً تستجمع مزيد من القوى الاجتماعية بحيث تحول الحراك الشعبي إلى حراك جماهيري في درعا وريف دمشق وحمص وحماه وإدلب ودير الزور قبل أن يقمعها النظام بشراسة، في حين بقي الحراك في دمشق ومحافظة حلب والرقة والحسكة محدوداً. في الوقت الراهن وتحت ضربات النظام بدأ الحراك يأخذ طابعا مسلحاً. في سورية كان دور الأحزاب السياسية المعارضة في الانتفاضة محدودا وشكليا إلى أبعد الحدود، مع أنها تملأ الواجهة السياسية في الخارج اليوم.
2- هل كان للاستبداد والقمع في الدول العربية الموجه بشكل خاص ضد القوى الديمقراطية واليسارية دوره السلبي المؤثر في إضعاف حركة القوى الديمقراطية واليسارية؟
هذا مؤكد، لأن الأنظمة الاستبدادية كانت شديدة البأس على القوى السياسية اليسارية بصورة عامة، في حين أنها كانت تجد دائما وسيلة للمصالحة مع القوى الدينية، خصوصا عن طريق خلفياتها الاجتماعية. بالطبع هناك أسباب أكثر جوهرية تتعلق بأزمة القوى اليسارية والديمقراطية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تلك الأزمة التي لا يزال لها مفاعيلها السياسية على القوى المعنية هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الحضور الكثيف للإسلام الطقسي، والحراك النشط للإسلام السياسي المعتدل منه بصورة خاصة لعب دوره أيضا في إضعاف حضور القوى اليسارية والديمقراطية.. يبدو لي أن المرحلة الراهنة هي مرحلة الإسلام السياسي يحاول أن يدخلها عبر بوابة الديمقراطية مدعوما من الغرب بصورة خاصة. من الناحية الموضوعية يخدم ذلك أيضا قضية اليسار والقوى الديمقراطية ففي ظل الديمقراطية يمكن لهذه القوى أن تعمل على بناء ذاتها، ويمكنها أن تنجح في حال تقدم فيها الخطاب السياسي على الخطاب الأيديولوجي.
3- هل أعطت هذه الانتفاضات والثورات دروساً جديدة وثمينة للقوى اليسارية والديمقراطية لتجديد نفسها وتعزيز نشاطها و ابتكار سبل أنجع لنضالها على مختلف الأصعدة؟
ينبغي الاعتراف أن الأحزاب اليسارية في الدول العربية بصورة عامة لم تكن معدة بنيويا للعمل في ظروف الديمقراطية، بل ولم تتبناها كقضية راهنة إلا في سياق التغيرات التي حصلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهناك البعض منها يدعم الأنظمة الاستبدادية كما في سورية. أضف إلى ذلك تراجعت كثيرا القضايا المطلبية من خطابها السياسي والدعاوي، لتنشغل في قضايا أيديولوجية وفي نقاشات ثقافية صارت مفوته،أو على الأقل لم تعد تثير اهتمام الجمهور بصورة عامة. إضافة إلى ذلك فقد انشغلت كثيرا إلى حد الاستنزاف في قضايا انشقاقاتها. من الأهمية بمكان إعادة تكوينها كتنظيمات ديمقراطية أولا، وهذا يتعلق بشفافية حياتها الداخلية ، وتحديد زمن بقاء القادة في مناصبهم، كمقدمة ضرورية لإعادة تكيفها مع ظروف الديمقراطية. ينبغي أيضا أن تتحول من أحزاب أيديولوجية إلى أحزاب سياسية تشتغل على أساس برنامج انتخابي وليس على أساس رؤى إستراتيجية أو مرحلية كما كانت في الماضي.
4ــ كيف يمكن للأحزاب اليسارية المشاركة بشكل فاعل في العملية السياسية التي تلي سقوط الأنظمة الاستبدادية ؟ وما هو شكل هذهِ المشاركة ؟
ليس هناك من قاعدة عامة تنطبق على جميع الدول العربية، فلكل بلد خصوصيته. مع ذلك فإن التركيز على قضايا التنمية وعلى القضايا المطلبية، وعلى قضايا الحريات، إلى جانب القضايا التي لها علاقة بكرامة الإنسان والوطن يمكن أن تشكل رافعة لقوى اليسار بصورة عامة، خصوصا وأن قوى الإسلام السياسي التي تتقدم الواجهة ليس لديها حلول للمشكلات التي تعاني منها الدول العربية، وفي مقدمتها قضايا التخلف والفقر والحرية.
5- القوى اليسارية في معظم الدول العربية تعاني بشكل عام من التشتت. هل تعتقدون أن تشكيل جبهة يسارية ديمقراطية واسعة تضم كل القوى اليسارية والديمقراطية العلمانية ببرنامج مشترك في كل بلد عربي, مع الإبقاء على تعددية المنابر, يمكن أن يعزز من قوتها التنظيمية والسياسية وحركتها وتأثيرها الجماهيري؟
لنأخذ حالة اليسار في سورية، فلدينا نحو أربعة أحزاب شيوعية متناحرة كانت في الأصل حزبا واحداً، وهناك خمسة فصائل ماركسية مؤتلفة في إطار تحالف القوى الماركسية( تيم)، وهي أيضا في صراع مع الأحزاب الأولى. وهناك أيضا أحزاب يسارية قومية مشتقة من البعث أو من التيار الناصري، وكل منها يكفر أصله. هذه الوضعية بلا شك تؤثر سلبا على سمعة هذه الأحزاب في وسط الجماهير، وتفقد خطابها المصداقية. في مواجهة ذلك يقف الإسلام السياسي كقوة واحدة أو على الأقل قوى غير متناحرة. ثم أن قضايا الخلاف بين الأحزاب الماركسية تحديدا غالبا ما تتركز من حيث الشكل في مسائل أيديولوجية أو مسائل تنظيمية، في حين يغلب عليها في الحقيقة والواقع العامل الشخصي. من هنا تأتي أهمية الجبهات الموحدة التي تشتغل على برنامج سياسي يركز من حيث الأساس على قضايا التنمية والقضايا المطلبية. في ظروف الديمقراطية التنافس يكون على أصوات الناخبين ولذلك من الحنكة السياسية تركيز الخطاب السياسي والبرنامجي على ما يهم الناخبين. أعتقد لا خيار أمام قوى اليسار عموماً لكي تواجه الإسلام السياسي المنتشية بعض الشيء نتيجة التحولات الديمقراطية الجارية في بعض الدول العربية، إلا من خلال تحالفها على أساس برنامج سياسي واضح.
6ــ هل تستطيع الأحزاب اليسارية قبول قيادات شابة ونسائية تقود حملاتها الانتخابية وتتصدر واجهة هذهِ الأحزاب بما يتيح تحركا أوسع بين الجماهير و أفاقا أوسع لاتخاذ المواقف المطلوبة بسرعة كافية ؟
بل هذا بالضبط ما هو مطلوب، لأن ما يسمى بالقيادات التاريخية صارت عبئا على قوى اليسار عموما. هذا لا يعني رميها جانبا بل الاستفادة من خبرتها في إطار الهيئات الاستشارية لهذه الأحزاب. ثم من الأهمية بمكان إعادة النظر في طريقة اتخاذ القرارات بما يقلل من البيروقراطية، وكذلك ضرورة تواجد القادة بين الناس.
7- قوي اليسار معروفة بكونها مدافعة عن حقوق المرأة ومساواتها ودورها الفعال، كيف يمكن تنشيط وتعزيز ذلك داخل أحزابها وعلى صعيد المجتمع؟
الدفاع عن المرأة عامل تفوق لقوى اليسار، لكن ينبغي أن لا ننسى البيئة الإسلامية الضاغطة في هذا المجال. المرأة العربية تعاني اضطهاداً مركباً، في البيت والشارع ومكان العمل، الجميع ينظر إليها للأسف كعورة. من الأهمية بمكان العمل على تأسيس كثير من منظومة القيم العامة على العمل وعلى المعاملة وليس على العرض والشرف. لا أستطيع تقبل أن تخرج المرأة اليمنية إلى الشارع لتطالب بالحرية وهي مقيدة بغلالة سوداء، أين القوى اليسارية من كل ذلك. كثيرا ما تساءلت في كتاباتي وفي حواراتي لماذا لا يكون لدى اليسار رجال دين خاصين به، يدافعون عن القيم التنويرية في الدين، لكن لم اهتدي إلى سبيل واضح لتحقيق ذلك. ربما تجربة الحزب الشيوعي السوداني مفيدة في هذا المجال. لا يجوز ترك الحقل الديني وهو حقل أصيل في مجتمعاتنا العربية والإسلامية للمشعوذين، بدعاوى التطهر منه. لنفكر في ذلك ربما نهتدي إلى سبيل معين. بدون اختراق الثقافة الدينية سوف نظل هامشيين.
8ــ هل تتمكن الأحزاب اليسارية والقوى العلمانية في المجتمعات العربية من الحدّ من تأثير الإسلام السياسي السلبي على الحرّيات العامة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والتحرر ؟
لا ينبغي أن تعمل القوى اليسارية بدلالة القوى الإسلامية، بل بدلالة مطالب الناس وحاجاتهم وما ينفعهم. لتجرب القوى الإسلامية حظوظها في الحكم، ولنراقب ماذا تستطيع أن تقدم لمجتمعاتها؟! أعتقد أن هذه القوى لن تستطيع حل المشكلات الكبرى التي تواجه شعوبنا، وخصوصا تلك القضايا المتعلقة بالتنمية والفقر والبطالة والحريات وغيرها. إن مقارنة الإسلام السياسي العربي بحزب العدالة والتنمية مقارنة خاطئة، فلا ينبغي أن ننسى أن حزب العدالة قد تكون في ظروف ديمقراطية بصورة عامة ، وفي مناخ الثقافة العلمانية، أما الأحزاب الإسلامية العربية المعتدلة فإنها تكونت في ظل الاستبداد وهي كغيرها من الأحزاب الأخرى تحمل الكثير من سماته.
من جهة أخرى لا يستقيم حديث الأحزاب اليسارية والقوى العلمانية بصورة عامة عن الحريات العامة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة وغيرها وهي تمارس عكسها في داخلها ابتداء من البيت إلى الأحزاب ذاتها. تحضرني في هذا المجال نقاشات كثيرة جرت بيني وبين الأصدقاء والرفاق اليساريين وكنت أقول لهم انظروا حولكم كيف تعاملون نسائكم وبناتكم؟ فكان الجواب الحاضر دائما المجتمع لا يرحم!!! ماذا يعني المجتمع لا يرحم؟!! هل يعني أن نخضع له بدلا من تغييره؟
9- ثورات العالم أثبتت دور وأهمية تقنية المعلومات والانترنت وبشكل خاص الفيس بوك والتويتر….. الخ، ألا يتطلب ذلك نوعاً جديدا وآليات جديدة لقيادة الأحزاب اليسارية وفق التطور العملي والمعرفي الكبير؟
هذا مؤكد…لقد أحدثت ثورة الاتصالات تغيرات حقيقية وعميقة في جميع مجالات الحياة، ومنها بالطبع الحياة الحزبية الداخلية، لقد صارت تؤدي أدوارا حاسمة في الحياة السياسية. لقد صار بالإمكان اليوم صناعة الرأي وتوجيهه نحو أهداف محددة بفضل تقنيات الاتصالات والمعلومات. للننظر اليوم في دور الجزيرة مثلا في الثورات العربية، بغض النظر عن مدى تقيدها بالمهنية كوسيلة إعلامية. لقد صار بالإمكان على سبيل المثال عقد اجتماعات القيادات الحزبية واتخاذ القرارات عن بعد، كما صار بالإمكان بذات الطريقة استفتاء أعضاء وكوادر الأحزاب بالقضايا المطروحة أمامها. باختصار وسعت التقنية الحديثة كثيرا من إمكانية ممارسة الديمقراطي في الحياة الحزبية الداخلية، هذا عداك عن توسيع دائرة التفاعل بين الأحزاب والجماهير.
10- بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن، كيف تقيمون مكانته الإعلامية والسياسية وتوجهه اليساري المتفتح ومتعدد المنابر؟
لقد صار الحوار المتمدن حاضرا دائما في الحياة العامة العربية بصورة عامة، وهو يشغل اليوم المقعد الأول تاركا خلفه فراغا ً كبيرا لتأتي بعده جميع مواقع الحوار والتفاعل الثقافي والسياسي العربية الأخرى. وأكثر من ذلك صار رأس حربة ضد الظلم والاستبداد في عالمنا العربي، لذلك نجد أغلب الحكومات العربية تحجبه عن شعوبها.
الحوار المتمدن هو كذلك حقيقة من خلال تنوع منابره ورصانة وجدية ما ينشره بصورة عامة، أو الحورات التي يجريها أو الملفات التي يعدها. لقد كان لي الشرف بأن فتح لي الباب مبكرا لنشر بعض ما أكتب على صفحاته، وكانت تحزنني كثيرا فترات انقطاعي عن التواصل معه بسبب حجبه المتكرر في سورية. الحوار المتمدن ولد ناضجا وهو في كل يوم يزداد حكمة دون أن يشيخ. فتحية مني لجميع العاملين فيه للجنود المجهولين العاملين على استمراره ونجاحه وتقدمة، وإلى عقود آخر كلها نجاح وتقدم.
الحوار المتمدن