دوناتيلّا بيزوتّي: أتسمح لي أن أُجرّب حياتك؟
تقديم وترجمة: خالد النجار
دوناتيلّا بيزوتّي الشاعرة الإيطالية التي صحبتها ذات مساء في الظلمة الزرقاء لشوارع ألسندريا. سرنا تحت الأشجار نحو منتزه صغير، كانت تتحدث كامل الوقت عن الحب والشعر وعزلة الإنسان الأنطولوجية ومكابداته وهشاشته والمجهول الذي يحيطه… تتكلم بفرنسيتها ذات اللكنة الإيطالية عن الخلق الشعري والإبداع عامة كجواب الإنسان للسلب الذي يعيشه. الإبداع كتحقق للذات وانخراط سعيد في العالم، بل إقبال نيتشوي على العالم.
كانت دوناتيلا تبدو وكأنها تقرأ من كتابها النثري “الشعر ينقذ الحياة” الذي صدر منذ سنوات عن دار مندادوري الإيطالية وكان في حينه “بست سيلر”… وقبلها لقيتها ذات ربيع في الرباط، كنّا أمام البحر في تلك الظهيرة المتوهجة، وكأننا داخل لوحة لماتيس بلطخة الشمس الصفراء الكبيرة وأزرق البحر السماوي اللانهائي، ولم تكف يومها أيضاً عن الحديث عن الشعر والقصيدة واللغة في تشابكها مع الحياة.
الكتابة لديها إعادة صياغة للذات، وبالتالي إنقاذ للحياة، وليس فعل تهويم لغوي ضبابي يتكئ على البلاغة الخاوية، كما هو الشأن لدى كثير من الشعراء الذين أهملوا الحياة وانشغلوا بتنميق الكلام، ونسوا أن القصيدة تتأسس على مفارقة، لأنها وإن كانت تتحقق من خلال البنى والتراكيب اللغوية؛ إلا أنّها تقع فيما وراء اللغة، لأن الشاعر الحقيقي هو ذاك الذي يشحن الكلمات بما هو أبعد من معانيها القاموسية، ويمرر من خلالها سرّ الشعر الأبدي الذي يمسّنا، نحسّه، نعايشه بعمق، ولكننا لا ندركه ولا نعيه… يظل سرّاً مغلقاً.
هكذا عرفت دوناتيلا المستغرقة بكاملها داخل ساحات الشعر الغامضة. تنبثق القصيدة لديها -كما تقول- من التركيز على شيء مرئيّ من رؤية حشرة أو جرافة أو أي شيء ثم تبحر في التجربة.
برنار نويل اختصر الأمر، يقول، العالم في قصيدة دوناتيلا يتجلى في الكلمات، ولو أن الكلمات لا تنتمي إلى العالم.
أما دوناتيلا فهي لا تحب التنظير، لأن التّنظير- كما تقول- يضع حدودا تجريدية، في حين أنّ التّأمّل هو في ذاته امتداد لفعل الخلق. بيد أنها انتمت إلى جماعة شعر التحوّل الذين نظّروا للشعر عبر المانيفستو الذي أصدروه في 1982 وعرضوا خلاله رؤيتهم للكتابة والقراءة في عصر طغيان الميديا وتسارع التاريخ.
جاكتة
تعجبني حياتك ـ أتسمح لي أن أجرّبها
أريد أن أرى كيف تكون إذ ألبسها
وسوف أعيدها لك فوراً.
حبّ
كلّيـّاً ـ جسد وروح
التقيا في لحظة
حـادّة ـ
هدوء شامل
وتركيز على الأعماق
في ذروته ـ
إنّه كأيّ شيء جامد
لا توجد ضرورة لتأكيد حضوره.
من المستحيل التحكم فيه
ـ تمزّق في النسيج
نعمة الألم القصوى تلك
التي من المستحيل تثبيتها
دفقة حاسمة
و.. وحده تأوّه ينفلت.
المحبة لا تحتمل سوى المحبّة
هناك أطفال ولدوا
من رجل وامرأة
تحابّا بعمق
وتستطيع أن تتخيل أجسامهم
موسومة بختم
يرمز للرّغبة ـ
أطفال ولدوا من حبّ متفاقم ـ
وهم الأكثر توحّداً
والأقل رغبة فيهم
هم شهود على حب ـ وأحياناهم ذكرى حب مات ـ
بولادتهم ينتقصون شيئاً
فالمحبّة لا تحتمل سوى نفسها
ولا تقبل الغرباء.
غرف
انتحبت للحظة، ثمّ
شرعت في التجوال بين الغرف
وأنا أكرر على نفسي أني كلب بائس وأنّي
خيشة تنظيف
والحال أنّ لي أصدقاء يتحملونني
حتّى عندما أكون مضجرة ـ
يحبّني رجلان
رجلان أليس كثيراً!؟
وبنت تعاملني بشيء من السوء
لتتمكن من محبتي.
بيد أنّي أفتقد
الحب الكبير ـ
الذي يجب أن يكون أنا نفسي.
ورقة
أهي يد؟
لا تتشبّث ولا تقبض على شيء
لا تستجدي.
يد شبه ناعمة.
مثل قارب في المرسى
مدفوع نحو عرض البحر
مهتزّ.
رغبة منشدّة إلى الغصن.
مستسلمة ـ هي في الأخير
وفية لجذع
بلا مشاعر.
درس الركوب على الدراجة
دراجتي الأولى بدولابين
كنت تمسك بي من الكرسي
أمام المشهد الصيفيّ
الخاوي.
إلى أن ينفد صبرك
أتذكّر
صفعاتك المدوية فوق خديّ
بهذه الطريقة دفعتني
نحو اللانهائي
وأنا تعلمت ركوب الدراجة لأفرّ منك
وفي اضطرابي وجدت دوّاسة الدراجة
وسيلتي الوحيدة للتّخلّص منك
وبشيء من التوازن
واجهت الحياة
بخوف.
الحب
أنت أيها العاشق الذي لا يعرف شيئا
سوى محبّة نفسه
أنت أيها المرتبك
فوق دربك
لا تلتفت أبداً
إلى الوراء
كما فعل أورفيوس
ولا تتردد
وإلاّ أصابك القدر بضرباته
وافتكّ روحك
التي هي أوريديس.
* ولدت دوناتيلا بيزوتي في مدينة ميلان عام 1948. من أعمالها الشعرية: “سراب بصري”، و”ذاك الذي يأتي” و”الليل في حصاره الدموي” و”حبّ بساعدين”، وأخيراً مجموعة “من الظلمة إلى الأرض”. لها عمل روائي مفرد: “أريد أن تكون لديّ عيون زرقاء”، وكتابات كثيرة للأطفال. أسست موقع الشعر الصوفي، ولها مقال شهري في مجلة شعر حول الشعر المترجم إلى الإيطالية.
العربي الجديد