ديموغرافيا جديدة ولاجئون/ زيـاد مـاجد
كثُر الحديث في الآونة الأخيرة حول “تعديل الخرائط في الشرق الأوسط” وحول “سايكس بيكو” جديد. واعتبر البعض أن التطوّرات السورية والعراقية المتسارعة، لا سيّما بعد إعلان “داعش” دولتها، دليل على الأمر.
الأسطر التالية لا تهدف الى نقض الزعم السالف أو تأكيده. فتعديل الخرائط ليس قراراً تتّخذه أطراف في غرف مغلقة، ولا هو نتيجة تطوّر عسكري آني وموضعي. تعديل الخرائط هو نتاج توازنات قوى بين أطراف أو أقوام محلّية في لحظات تقاطع مصالح إقليمية ودولية، ولا يمكن النظر إليه بوصفه أمراً حتمياً أو شأناً ميدانياً يتمّ بمعزل عن الملابسات الأعمّ وتفاعلات العواصم النافذة المعنيّة به وشكل العلاقات الدولية السائدة خلال حدوثه. وكلّ هذا لم تتضّح ديناميّاته واتّجاهاته بعد، لا في ما خصّ العراق ولا في ما خصّ سوريا.
على أن تعديلاً من نوع آخر طرأ على المنطقة في السنوات الأخيرة هو ما تتطرّق إليه هذه العجالة: تعديل الديموغرافيا. ذلك أن تبدّلات كبرى حصلت بعد العام 2003 في العراق، نتيجة الصراعات الأهلية في ظل الاحتلال الأميركي ثم بعد انكفائه، بما تسبّب بنزوح أكثر من مليونين ونصف المليون شخص (10 في المئة من السكّان تقريباً)، مليونان منهم ظلّوا داخل الحدود العراقية، لكنّهم انتقلوا الى مناطق تسودها أكثريّات مذهبية أو قومية ينتمون إليها، على نحو عمّق الانسلاخات الجغرافية-المذهبية والقومية في البلاد.
وفي سوريا، حصل تبدّل ضخم في الانتشار السكّاني. فالخراب المعمّم والدمار الذي أحدثه (ويحدثه) النظام الأسدي والتهجير المنهجي المرافق للمجازر منذ العام 2011، غيّر خريطة البلاد. إذ نزح تسعة ملايين شخص على الأقل (أي قرابة 40 في المئة من السكان) عن ديارهم، لجأ ستة ملايين منهم الى محافظات سورية بعضها مختلط وبعضها ذات أكثريّات مذهبية أو قومية، فيما اضطرّ ثلاثة ملايين الى مغادرة البلاد نحو دول الجوار.
على المقلب الآخر، أي في دول الجوار، تستقبل تركيا اليوم مليون لاجئ سوري، أضيف إليهم في الأسبوعين الأخيرين حوالي مئة ألف لاجئ، من الأكراد السوريّين الذين هاجمت “داعش” بلداتهم وقراهم. ورغم أن الرقم لا يُعدّل كثيراً في واقع تركيا نظراً لحجمها وتعداد سكّانها وضخامة اقتصادها، إلّا أنه يؤثّر حكماً في الأوضاع التركية العامة جنوب البلاد حيث يبدو السكّان الأتراك أقلّ ترحيباً باللاجئين من حكومة أنقرة.
الأثر الكبير للنزوح في الجوار السوري يظهر في الأردن وفي لبنان. ففي الأردن، يفوق عدد اللاجئين السوريين 600 ألف شخص وينضمّون الى 400 ألف من العراقيّين، ويعيشون في ظروف متفاوتة. لكنّ وجودهم الذي قد يطول في بلد يبلغ تعداد سكّانه سبعة ملايين نسمة (نصفهم من أصول فلسطينية)، يشكّل تعديلاً في التركيبة السكانية وفي المشهد الأردني العام، ويجعل من مخيّم الزعتري مثلاً ثالث “مدن” الأردن من حيث الحجم البشري.
ويبدو الأمر أشدّ أثراً في لبنان. إذ إن عدد اللاجئين السوريّين بات يشكّل ربع تعداد السكّان تقريباً، بما يغيّر الوضع الديموغرافي وتوازناته التي لطالما كانت من محدّدات الاستقرار السياسي وهواجس العلاقات الطوائفية اللبنانية.
بهذا المعنى، يبدو “الشرق الأوسط” اليوم في لحظة تتبدّل فيها معالمه الديموغرافية الوطنية. ويبدو التبدّل نتيجة لتصاعد نزعات مذهبية ترافق همجية الاستبداد والقمع والصراع الإقليمي، وتتسبّب بدورها بصراعات جديدة ومعاناة وتفاقم ظواهر مرضيّة عنصرية، يعيش لبنان أقبحها وأخطرها
وكل هذا يشي بوضع مضطرب قد يطول، لن تكون حلوله سهلة، والأرجح أن الديموغرافيا فيه لن تعود الى جغرافيّاتها أو معادلاتها السابقة..
موقع لبنان ناو