ذاكرة عام في البرزخ: شهادة عن السجن والعمل الصحافي
عامر مطر
البرزخ، هو التعبير الأنسب لعالم الفروع الأمنية السوريّة… أن أعيش الموت في حيّز ضيّق مغلق؛ بين عالمين. أعيش الموت فيهما.
كان بشار الأسد يضحك على بعد أمتار من بيتي، وكنت أتعرّض للتعذيب في غرفة نومي. وتُبعثر أحذية السجانين ملابسي ودفاتري في 28 آذار 2011. كان الديكتاتور يضحك بصخب في مجلس الشعب السوري، وكان صوت ألمي عالياً في شارع العابد الدمشقي.
رموني في منفردات متعددة، وعرفت أبسط أنواع التعذيب ‘الكرباج’، لأن العمل الصحافي في سورية بمثابة أبشع الجرائم. كان محقق فرع أمن الدولة يقرأ مقالاتي ويشتمني.
حين نقلوني مرّة، من قسم لآخر، سألني ثلاثة سجانين عن جريمتي، فأخبرتهم: ‘صحافي’، وبدأ الضرب العنيف. ضحكوا في نهاية التعذيب وقال أحدهم: ‘عم تصعّبوا علينا الكلمات المتقاطعة يا حيوانات’.
دخلت إلى منفردتي، وبدأت أفكّر بمادة صحافيّة عن كوميديا العتمة، عن حجم المواقف المضحكة لفرط غباء المحقق ورجال التعذيب والسجانين… كانوا أغبياء لدرجة الضحك.
جلدوني مرّة بسبب عملي في جريد ‘النهار’ اللبنانية، لأن الأزرق، هو لون اللوغو، ولابد أن تكون اسرائيلية كونها تحمل لون العلم الاسرائيلي، وبالتالي أنا عميل للموساد؛ أكتب للنهار، ولا أعمل مع تلفزيون الدنيا أو جريدة ‘الثورة’.
خرجتُ بعد 16 يوم من العتمة والكوميديا المرافقة للتعذيب، وعدت إلى عملي في تغطية الثورة السوريّة. وكتبت وصيتي إلى أبي: ‘اطلب ديّتي حياتي. قل: أريده حياً هنا. وادهن باب بيتنا بدمي. واغسل جثتي بالغيم الذي أحبه، ثم ادفني في مقبرة واسعة، مزدحمة؛ لأرفع رأسي بين الأموات’.
انتهت الوصيّة، أن ‘أطلب ديّتي حريّتك’. ونزلت إلى الشارع مع الآلاف، لأن العمل الصحافي، قد يساعد في تحقيق الحلم السوري بالحريّة. واسست مع مجموعة من الصحافيين السوريين المستقلين مؤسسة الشارع للإعلام والتنمية.
بدأت ‘الشارع’ بتوثيق ما يجري في مواقع الأحداث، من خلال العمل في صناعة أفلام وثائقية، وتأسيس شبكة أخبار منتشرة في كل المدن السورية، والعمل على مواد استقصائية صحافيّة من مواقع الحدث.
وأجرى فريق العمل أكثر من خمسين مقابلة تلفزيونيّة مع أهم الشخصيات المؤثرة في الساحة من المعارضة.
وعملت المؤسسة على إنتاج برنامج: ‘حوارات من الساحة السورية’ الذي عرض على قناة العربية، وعرض مجموعة من المقابلات التي صورنها بالسرقة، عن عيون أجهزة الأمن.
كما تم انجاز مجموعة من الأفلام، منها: ‘تهريب 23 دقيقة ثورة’ وهو أول فيلم صوّر عن الثورة السورية، يُقدّم شكل الأحداث في حماة قبل دخول الجيش السوري إليها، وعرض على قناة العربية.
إضافة إلى الوثائقي ‘آزادي’ الذي صوّر في آب (أغسطس) الماضي في منطقة القامشلي والمناطق الكردية الأخرى الواقعة شمال سورية، وحاز الجائزة الفضية في مهرجان روتردام بعدما جسّد يوميات من الثورة. وعرض على تلفزيون فرانس 24.
كما فيلم ‘حماة 1982 حماة 2011’ الذي يقارب بين مجزرتين ارتكبهما النظام، ومجموعة من التقارير التي تصوّر قصص من مدن سوريّة مختلفة.
اعتقلت بعدها، في كمين نفذه عناصر الأمن العسكري في دمشق، ليلة 3- 9- 2011، ضربني العناصر ليلتها كثيراً لمعرفة موقع منزلي، وبالتالي مصادرة كل أجهزة العمل. لكن صبري الصغير أنقذ بيتي.
أثناء التحقيق، نفر الدم من رأسي للحصول على اعترافي بقبض مبالغ مالية من قناة العربية مقابل عملي، صبري الصغير أنقذني مجدداً من البوح بأسرار قد تؤذي المؤسسة وتؤذيني.
لكني خرجت من غرفة التحقيق بجرح في رأسي، وآثار كثيرة للسياط وأقدام المحققين. كان المحقق يُصرُّ على انتزاع اعتراف إجباري أن ما نفعله هو تضليل إعلامي، وأن كل ما ينشره الإعلام العالمي كذب. كان يقف على ظهري ويحاول اقناعي بإنسانيتهم.
بعد 54 يوم تحت الأرض في الفرع 215، أرسلوني إلى القضاء العسكري في دمشق، ليشتمني القضاة هناك، ويرددون: ‘تستحقون الموت’، لأنني صحفي يخون وطنه.
في زنزانة المحكمة، سلّموني ورقة صغيرة، كتبوا عليها تهمتي: ‘إذاعة أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسيّة الأمة’. وغادرت إلى سجن دمشق المركزي مع مذكرة التوقيف.
وجدت هناك أصدقائي اللذين اعتقلوا قبل شهر من اختطافي، وأخبروني أن فيلمي ‘آزادي’، فاز بجائزة.
حاولنا ادخال كاميرا صغيرة إلى السجن، وفشلنا. فكتبت مع أحدهم تحقيقاً صحافياً عن السجن. فلابد من الثورة حتى خلف القضبان.
كانت تصلنا الأخبار كلّ سبت، وهو اليوم الوحيد للزيارات. كانت حبيبتي تهرّب رسائل عشق لي، وكتبت مرّة وسط رسالة حب، مقالا لكاتب سياسي معروف يشرح فيه وضع الثورة.
في الزنزانة، أشفقت على أبي، الذي يحمل وصيّتي كل الوقت في جيبه، فأرسلت إليه: ‘لا يخاف الرجال على الرجال يا أبي، كما لا يخاف الأحرار على الأحرار. أضربت عن الخوف، وكتبت إليك رسالة حياة، ضد الوصايا والموت. فمن مَسّته الثورة، يصير أغنية لا تُكسر’.
أضربت عن اليأس أيضاً حينها، وعملت مع أحد شركائي في الثورة والسجن، على مشروع احتفالية الشارع السوري. فسجونهم أصغر من مساحات أحلامنا.
خرجت في الرابع من كانون الثاني 2012، بعد أن صادر الأمن السوري كل كاميرات المؤسسة وأجهزتها، واعتقلوا أغلب كوادرها. ‘صرنا على الحديدة’، بحسب تعبير السوريين.
حاولنا اعادة تفعيل دور مؤسسة الشارع، وتنظيم احتفالية ‘الشارع السوري..عام من الثورة’. التي امتدت من 15/ 22 آذار، موزّعة على عدّة أماكن وساحات داخل سورية، وساحات في عواصم عالمية. وتعرض فعاليات ثقافية وفنيّة متنوعة؛ سينما ومسرح وموسيقى وتشكيل وتجهيز بالفراغ. لكننا لم ننجح بالقدر الكافي.
تم تصوير عدّة أفلام قيد الإنجاز حالياً، منها فيلم يصوّر معارك الزبداني التي قامت بين الجيش الحر والجيش النظامي. وسيظل عمل المؤسسة مستمرا، في صناعة مواد إعلاميّة تحاول تجاوز إطار الخبر السريع، بحيث تعرض يوميات الناس وتفاصيل صناعتهم للثورة.
أحاول الآن البقاء خارج السجن قدر الإمكان، لكنهم اعتقلوا أبي مدّة عشرة أيام، لأنه انجب صحافياً مجرماً؛ يُحاول تصوير الحقيقة مع مجموعة من زملائه. مثل آلاف السوريين الذين يحملون الكاميرات في هواتفهم الجوالة لتوثيق الحقيقة، والموت اليومي.
ما قدمته، هو أقل بكثير من الثمن الذي قدمه آلاف السوريين، وأقل من حجم الحلم ببناء سورية الحرّة المتطورة.
أكتب شهادتي عن عمل عام من تغطية الأحداث وصناعتها من بيتي الدافئ، في حين يركض العشرات في هذا اللحظة من زملائي بين أزقة حمص وحماة وإدلب. أجلس في بيتي، ويرقد الكثير من زملائي الصحافيين في قبورهم بفعل رصاص النظام السوري؛ لذلك أخجل من بيتي ومن كلماتي.
صحافي من سورية
القدس العربي