ذبذبات سورية من قَطَر: قسوةُ قلوبٍ وعقول
جهاد الزين
الكلام مع المثقفين – السياسيين السوريين الجدد حول شراسة النظام وقمعيّته… تحصيلُ حاصل. لذلك كلما كان الحديث يصل أسرعَ إلى “الثوار” كلّما ظهر “أنضج”! لا يغيب الحسُّ النقدي لديهم حول ممارسات الفصائل المسلّحة في المعارضة لكن المثير أنه لا تترتّب أية مسؤوليات عن هذا النقد مما يحوّله إلى مجرد روايات مقلقة لا إلى معطى سياسيٍّ يُبنى عليه.
علّمتني التجربة في الحياة العامة أن المثقفين – أعني هذا “القطاع” من ممارسي الكتابة – هم عادةً الفئة الأكثر قلقاً في خياراتها السياسية أفراداً وجماعة. لا يستقيم خطٌ سياسيٌّ يتبنّاه أو ينخرط فيه المثقّف بدون قدْرٍ من القلق الذاتي يسبغ على تناوله الشفهي أو المكتوب طابعاً يبلغ حدّ التردد الناتج بطبيعة الحال عن مستوى “تكويني” من عدم اليقين حيال الأفكار و التصوّرات المتبادلة.
واحدٌ من انطباعاتي التي كوّنتها خلال وجودي لبضعة أيام في مؤتمر في قطر، بعد لقاءات مع عددٍ من المثقفين السوريين المعروفين الذين وجدوا أنفسهم فجأة يلعبون أدوارا سياسية متفاوتة في المرحلة الجديدة التي نتجت عن اندلاع الثورة السورية كآخر موجات “الربيع العربي”… واحدٌ من انطباعاتي هو تلك “القسوة” التي باتت تًسِمُ مواقفَهم وتحليلاتِهم إذا جاز لي استخدام تعبير “قسوة”.
سأسارع إلى شرح هذا الانطباع. نحن هنا نتحدّث عن مثقفين سوريين جاؤوا بمعظمهم من صفوف المعارضة قبل الثورة. بعضهم سُجن وبعضهم قضى معظم شبابه أو جزءاً منه منفياً أو هارباً في الخارج وبعضهم كان مقرّبا من مركز صنع القرار في النظام السوري أو حتى على صلةٍ شخصية بالرئيس بشار الأسد ثم انشقّ مبكراً عن النظام. كنا في الدوحة بدعوة من “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” الذي أسّسه في قطر ويديره السياسي والمثقف الفلسطيني عزمي بشارة في مؤتمرٍ رعاه شخصياً بشكلٍ لافت وليُّ العهد.
ومع أن البيئة العامة للمؤتمر تشكّل إطاراً مألوفاً لهؤلاء “الناشطين” السوريين لا سيما مع حضور مثقفين آخرين كثيرين من العالم العربي هم أيضا فتحَتْ ثوراتُ “الربيع العربي” البابَ أمامهم للتحوّل إلى سياسيّين “فاعلين” لا هامشيين أو مهمَّشين كما كانوا قبل سقوط أنظمة بلدانهم… مع ذلك فقد بدا المثقفون السوريون فئةً مختلفة عن الآخرين بسبب الوطأة الحربْ أهلاوية التدميرية الصارخة التي تلقي بظلّها على كل سوريا. بل بدا جميع السوريين الحاضرين ومنهم قيادات في”الإخوان المسلمين” فئة مختلفة موضعَ اهتمامِ و”مراقبةِ” الآخرين.
تحت هذه الوطأة هناك مفارقة في الوضع الجديد لهؤلاء وأمثالهم: هم الوجوه المدنية البارزة في الخارج لثورة – حرب أهلية لم يعد لديها سوى “وجوه” عسكرية على الأرض السورية. لهذا بالقدْر الذي ازدادت فيه الأهمية السياسية للعديد من المثقّفين السوريين وُلِد في حالتهم وضعٌ جديدٌ من الهامشية: قوة التعبير عن الحالة السورية وفي الوقت ذاته انعدام التأثير الميداني بل الفعلي… فكيف إذا كان المؤثِّرون الميدانيون في معظمهم من “جنس” أيديولوجي يتعلّم هؤلاء المدنيون (يساريون سابقون وليبراليون جدد) أن يتعايشوا معه عن قرب كـ”الإخوان المسلمين” وغالبا لا يعرفونه كـ”جنس” السلفيين.
الكلام مع المثقفين – السياسيين الجدد السوريين حول شراسة النظام وقمعيّته… تحصيلُ حاصل. لذلك كلما كان الحديث يصل أسرعَ إلى “الثوار” كلّما ظهر “أنضج”! لكن الذي لفتني هو تلك “القدَريّة” الكاملة في نظرتهم إلى تطور الصراع بدون أية أوهام أو “نظرة إلى الوراء”: انخراط كامل. لا يغيب الحسُّ النقدي لديهم حول ممارسات الفصائل المسلّحة في المعارضة لكن المثير أنه لا تترتّب أية نتائج أو مسؤوليات عن هذا النقد على تصوّراتهم السياسية لمستقبل الوضع مما يحوّله إلى مجرد روايات مقلقة لا إلى معطى سياسيٍّ يُبنى عليه.
سُئل أحد البارزين منهم: ماذا سيكون ثمن سقوط النظام؟ فأجاب فورا: تدمير دمشق. مع الأسف لا خيار آخر في ظل كثافة القوة العسكرية للجيش النظامي فيها.
ألا يستحق وضعٌ تراجيدي كهذا – أي إنقاذ دمشق – تعديلٌ ما في خطط المعارضة؟ لا جواب.
سألتُ “ناشطا” قيادياً آخر: إلى أين سيصل هذا المسار التدميري؟ أجاب: أريد أن أعترف أمامك أنني أحيانا وعبر الاتصالات التي نجريها أو تُجرى معنا أرتاب أن الهدف “الدولي” الحقيقي هو تدمير سوريا وليس إسقاط النظام.
أحدهم، أي المثقّفون – السياسيون الجدد، يقول انه سأل مؤخّراً المبعوثَ الأخضر الإبرهيمي لماذا يتأخّر في إعلان موقف “أكثر تقدّما” ضد النظام السوري وأن الإبرهيمي أجابه بأن لديه أولوية رئيسية هي “منع صوملة سوريا”.
لا ينضح من كلام الوجوه المدنية المعارضة هذه أيّة رغبةٍ بالتسوية – ومن هنا “الريبة” بالأخضر الإبرهيمي – لا بل إن “المناخ” السائد هو انتظار سقوط النظام عسكرياً لا غير. أما بأي ثمن؟ مجرى الدم لم يعد يسمح بالاستدراك في منتصفه حتى لو كان الاستدراك نظريا بسبب ضغط هائل ضاع فيه كلُّ فارقٍ بين الثورة و”لعبة الأمم”. وهذا ليس فقط “مناخا” قطَريا وإنما اسطنبوليٌّ وباريسيٌّ بل أوروبي رغم أن مجرّد التواجد في بيئة سياسية كهذه في الدوحة يعني غلبةَ لغةٍ قاطعةٍ مع النظام السوري يبرّرها معارضو الخارج من المثقفين باعتبارها العقوبة الملائمة لنظام استبدادي لم يُصغِ طويلا للآخرين دون اعتراف بأنها تلبية لا خيار فيها لقرار قوى دولية وإقليمية هائلة ضد هذا النظام الذي اعتمدته هذه القوى لعقود.
باختصار: تُعلّمنا الثورة – الحرب الأهلية السورية أن بعض البلدان يدخل إلى مصيره القاتل كما لو أنه قضاءٌ وقدَر… فكيف إذا كان المنخرطون يشعرون بالقوة القِيميّة للشعار التعبوي التغييري بما يبرّر أمامهم الانهيار الكامل لبلد كسوريا بصفته انهيارا لاأخلاقياً بكل معاني الكلمة. هي قسوة قلوبٍ وعقولٍ معاً في واحدة من تلك “اللحظات” التي تبدو فيها كلمة كارل ماركس التي لا أكفّ عن تذكّرها (حتى في إمارة قطر) نفّاذةً إلى أعمق درجات النفاذ كأنها اختراق في جيولوجيا التاريخ. يقول: “التاريخ يتقدّم دائماً من ناحيته الخطأ”.
هكذا كنا في لبنان في السنتين الأوليين للحرب الأهلية. والعياذ بالله من الأثمان التي بات علينا أن ندفعها لتغيير الأنظمة السياسية.
السؤال الأخير هنا هو: هل فات الأوان في المشهد السوري المروِّع أن نسمع موقفا يطالب بوقف القتال – التدمير مهما كانت الحسابات السياسية خاسرة؟
هذا موقف يحتاج إلى قائد سياسي “تاريخي” أو مثقف استثنائي.
النهار