ربيع الثورات وإرهاصات المشروع العربي
د. محمد بريك
هناك ثمة اعتقاد أن الثورات العربية – والتي لا تزال تعاني مرحلة مخاض حرجة – هي ثورات محلية غير معنية بالسياق العربي الأوسع، ولا ترى النهضة الوطنية متشابكة مع مشروع التحرر والوحدة في أمة العرب ـ كما آمن الأجداد. واستدل البعض بشعارات الثورات المنحصرة ذاتيا دون مطالب متعدية للسياق الوطني (عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية)، بالإضافة إلى الزهد بمنطق الحلم القومي والغفلة عن التحكمات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تقضي بالتكتل لأجل بناء حيز حضاري وسيادي معتبر في نظام دولي سريع التشكل. وربما كان من أسباب الزهد والغفلة: الفشل التطبيقي للمشروع القومي في مرحلة الستينات، ثم طبيعة الأنظمة التي تسلطت على أوطاننا والتي كانت المجافاة لمشروع الأمة الواحدة أهم المسوغات الأساسية لتعيينها وإعادة تأهيلها في الترتيب الأمريكي للمنطقة ـ كما حدث في الحالة المصرية أواخر السبعينات – وكذلك من أدوات تحكمها في واقعها الشعبي وتدمير حاسة الحلم والممانعة عنده ليبقى سهل القياد.
ربيع الثورات الذي استفتحته تونس كان أبلغ ردّ على من أوغل في تمزيق أمتنا لدويلات مصطنعة .. ففيما حدث دلالة محكمة على أن همنا واحد وحلمنا واحد وطعم العزة ـ والقهر – في فمنا واحد كذلك. وإن شعوبنا حين تتخلص من رذائل نظمها وتبدأ في استعادة عافيتها النضالية وكرامتها تتجه نحو توسيع الحلم وتمديد المصطلحات؛ فالحرية من النظام المستبد الفاسد في قطر تؤسس لبعدا تحرريا من سائر الأنظمة المستبدة ، ثم تشد الأعين الحالمة لتحررالوطن العربي بأسره من الخناق الاستراتيجي الموضوع فيه لقرنين أو يزيد، والعدل الاجتماعي في الوطن لابد وأن يستحيل تبشيرا بعدل اجتماعي شامل بين محاور الأمة الواحدة، وهكذا.
وهذه الدلالة التنظيرية لعروبة الثورة ـ وإن بدأت محلية ـ أيدها التجلّي الواقعي. حين ثارت تونس كتبت: ‘ألقِ سهمك اليوم على أي شبر من خارطة العرب تجد حلما (تونسيا) أصيلا ينمو ويتخلّق، ولا يعوزه غير فخر الشباب (البوعزيزي) يفك طلسمه ويمنحه شهادة الميلاد’. وبالفعل ـ فتونس كان لها السبق، ثم لحقتها مصر فكانت ثورتها ملء السمع والبصر؛ لأن مصر حين تثور وتنتفض تستفتح بذلك مشروع أمة. وتلت مصر اليمن وليبيا وسورية والبحرين مع تعقيدات ارتبطت بكل حالة. وهذه الحالة الثورية المتنقلة – بشكل يشبه نظرية (تداعي الدومينو) التي احتلت مكانا بارزا في الفكر الاستراتيجي الأمريكي في أول الحرب الباردة ـ تحير الكثير من الغربيين خصوصا البعيدين عن مطبخ السياسة والأكاديميا. كم أشار إلي أصدقائي الإنكليز متعجبين من هذه الظاهرة، ولماذا يكون الانتقال بهذه السرعة وإلام يرم وإلى أين يقود؟ ولا أجد حينها إلا التنهد والقول بمرارة – تطغي عليها أمارات التشفي والانتشاء: ‘يبدو أن الكثيرين من رفقائنا على هذا الكوكب نسوا بأننا في الأصل كعرب أمة واحدة، وأن حكوماتكم الكريمة هي التي أعملت فينا معاول التمزيق والهندسة الاستراتيجية لتشكيل خرائط مصطنعة، وأن هذه الثورات تعيد تعريف خارطتنا وموقعنا في هذا الوجود من جديد’.
منذ أن قدم المستعمر الخارجي حافظ على سيطرته الدائمة على الأفق الاستراتيجي في هذه الأمة ـ ومصر كمركز ثقل قيمي وحضاري واستراتيجي ـ عبر ترتيبات متعددة، وتتغير مع المستجدات الكبرى في الوضع العالمي وموازين قواه التي أفرزتها الحروب الكونية الثلاثة في القرن الفائت. والمنتوج الاستراتيجي الدائم لهذه السيطرة الاستعمارية كان في منع أي أفق نهضوي حقيقي يرتبط بالبعد التحرري والوحدوي. الاستعمار كان يعي ـ ربما أكثر كثيرا من النخب العربية – وجود ارتباط وثيق بين المشروع النهضوي والتحرري والوحدوي، وأن كلا منهم هو مطلب عضوي للتمدد في العنصرين الباقيين. كان المستعمريعي أن الإشكال لم يكن في أيديولوجيا بعينها إسلامية أو غير إسلامية.. بقدر أن تدفع هذه الأيديولوجيا ـ أو تمنع ـ الحالة العربية أن تتطور لمشروع نهضة قوامه التحرر والوحدة.
هذا الحس التحرري والوحدوي هو مطلب وجودي للتفلت من السيطرة الاستعمارية من جهة، ومطلب وظيفي لتطوير الحالة النهضوية والبعث الحضاري من جهة أخرى. ولا شك أن التجربة الناصرية كانت تمثل ـ نظريا ـ مشروعا مُلهِما لهذه الأمة يرتكز على ثلاثية النهضة والوحدة والتحرر .. وبالرغم مما عانته هذه التجربة من إشكالات جوهرية في الصياغة والتنزيل ـ كما سنشير ـ إلا أنها كانت روحا جديدا يندفع في جسد الأمة الفاتر فيوقظ حلمها ويحمل بشارات لتغيير كوني يذهب بما خطه المستعمر من تركيبات ومعادلات استراتيجية أثرا بعد عين. وما تكشفت عنه الوثائق السرية البريطانية من أسباب دفعت إيدن ومجلسه لشن حرب 56 لم تكن تأميما لقناة ـ مع حفظ لأسهم الغرب فيها؛ الاستراتيجية العتيقة البريطانية أرفع كثيرا من هذا الطيش، وإنما كما أشار إيدن: خوفا من مسار نهضوي ووحدوي وتحرري يهدد السيطرة الغربية على المنطقة ومواردها. ومن هنا ندرك طبيعة المشروع الحقيقي الذي تحتاجه أمتنا، وهو بذاته ما يستفز المستعمر أيما استفزاز.
وما وصل إليه الأمريكي كقائد مستفرد في عالم ما بعد الحرب الباردة – في الترتيب الاستراتيجي لأمتنا هو: السيطرة عن طريق سلسلة ممتدة من النظم التابعة ورثها من البريطاني بعد الحرب الثانية وتستهدف ـ وتحقق هذا بالفعل ـ السيطرة على النسيج الإقليمي وثرواته ووضعه الجيواستراتيجي، وما يتضمنه ذلك من حماية وجود إسرائيل كأداة ضامنة لهذه السيطرة.
المسألة استقامت على شبكة من الاستقرار الإقليمي ازدادت نوعيا وأحكمت قبضتها بعد خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي وتحلل المشروع العربي، واكتملت بعد انتهاء الحرب الباردة وحرب الكويت: التواجد الأمريكي العسكري في الخليج، والسيطرة على المنافذ والمضايق الاستراتيجية كباب المندب وجبل طارق والمتوسط، ومفارزه البعيدة ذات القدرة على التدخل السريع، ومحور من الحكومات الخاضعة ـ مع هوامش للحركة والمناورة متروكة لها تختلف من حالة لأخرى ـ تقوم بمهمة كبت أي تغيير شعبي قد يسعى لقلب إحداثيات هذا المشهد، ثم إسرائيل كقدرة عسكرية متربصة وقادرة على كسح أي خطر نظامي. وأي محاولة حقيقية وجادة في هذه الأمة لإعادة تشكيل إطارها السيادي وبعث معالم وحدتها وتحررها وتحضرها لابد وأن تشتبك مع هذا المحور بأكمله.
ولاشك أنه كان هناك وعي قديم بما نطرحه من العلاقة بين فكرة النهضة والوحدة العربية والتحرر من المستعمر. هذا الوعي الذي أثارته نخبة مثقة من العروبيين كان يفتقد لبعد رسالي حقيقي يتماشى مع الخصوصية القيمية والثقافية لأمتنا؛ فالبعد الإسلامي ـ كحضارة وثقافة تشترك فيها طوائف الأمة مسلمين وغير مسلمين – له علاقة بخصوصية البيئة البشرية في المنطقة وكيفية تفعيلها وتعبئتها. وهذه كانت مشكلة في المشروع الناصري، وإن تسبب فيها تجربة كثيرة الاحتقان مع الحالة الإسلامية في الإقليم والداخل ـ كانت الأولى حصان طروادة للمستعمر، والثانية اصطدمت مع عبدالناصر على مساحاته السلطوية وتفرده.
وحين بدأت التجربة القومية تحوز على وضع سلطوي كما ظهر في الفترة الناصرية وغيرها ظهرت مشكلة أعمق وهي: الطبيعة الاستبدادية والشخصانية لهذه النظم السياسية. هذه الطبيعة عوّقت كل هذه المشاريع النهضوية والتحررية والوحدوية بشكل كبير. كان عبدالناصر مثلا حائزا على فكرة استراتيجية سليمة تقول بأن الصراع الوجودي مع إسرائيل لا يمكن حسمه إلا عبر حرب شاملة لايمكن القيام بها ـ فضلا عن تحقيق الانتصار ـ إلا عبر تنمية القابلية الاستراتيجية للأمة عبر مشاريع نهضوية وتعبوية ووحدية، ولكن سياسات النظام الاستبدادية وفساد الكثير من طبقاته القيادية التي تمترست بآلة البطش أفشلت معظم خطواته الكبرى ـ كما أقر هو بنفسه بعد 67، فضلا أن نزعته الشخصانية شوّشت على هذه الفكرة الاستراتيجية نفسها في أهم لحظة فيصلية ـ حرب 67 ـ حين اضطرته هذه النزعة إلى اختراق مايعلمه من بديهيات استراتيجية لنمط الصراع ومنحنياته، وكل هذا من طبائع الاستبداد. ومن هذا يتأكد أن الإلحاح على البعد النهضوي وذراعيه في الوحدة والتحرر، لايجوز أن يطغى على إبراز المسألة الديمقراطية والحرية السياسية والتعددية. هذا البعد الديمقراطي ليس مطلبا قيميا وحضاريا وجماليا للمشروع العربي وحسب؛ بل مطلبا استراتيجيا، وبدونه تتعثر أغلب مشاريع النهضة وبناء الإنسان والممارسة الاستراتيجية والتعبوية لمراحل الصراع نفسها. وليس هذا حكرا على التجربة العربية ؛ بل كان خلاصة التحليل الاستراتيجية في الحروب الثلاثة العالمية في القرن السابق، و كيف أن الخاسرين كانوا ـ بلامنازع- يحوزون على أعلى درجات الملكة العملياتية والعسكرية، ولكن الحروب ـ وكل أشكال الصراع عموما – لاتقاد بالجيوش فقط ؛ وإنما أساسا بالشعوب، والبعد الديمقراطي هو مطلب حتمي لتنمية الشعوب وتفعيلها وتطوير حاستها النقدية وقابليتها الاستراتيجية كذلك.
أرأيتم؟ تُقرّبنا الثورات العربية ـ أو هكذا نأمل ـ للمشروع العربي واستحقاقاته النهضوية والتعبوية من حيث ما يحسب البعض أنها تبعدنا. هذه الثورات لاتعيد تكريس الحلم الوحدوي والتحرري ولا يكون من منطقها ـ النظري والواقعي ـ تمديد الأهداف ومساحات التداخل فحسب ؛ ولكنها تؤكد على مساحات كان افتقادها هو السبب المباشر في إفشال التجارب العربية السابقة، وأعني البعد الديمقراطي والبناء الداخلي النهضوي والإنساني في كل قطر عربي على حدة.
فإن تقرر هذا، فما يكون مصير هذه الثورات؟ وماهي مساراتها المقبلة؟ ومايفعل الأمريكي والإسرائيلي مع ظاهرة التداعي الثوري تلك وهي تكاد توشك أن تقلب كل المعادلات المستقرة لثلاثة عقود على الأقل ـ بغية إجهاضها أو احتوائها؟ وهل من المعقول أن نجد الأمريكي محتفيا بصياغات وتطبيقات ثورية بعينها ومحتضنا لها؟ لهذا حديث آخر.
‘ باحث في الدراسات الاستراتيجية جامعة ريدينج