ربيع الجامعة العربية!
خضير بوقايلة
ثورة الياسمين في تونس كانت هبة ربانية للشعوب العربية، العناية الإلهية هيأت الظروف المناسبة لذلك وأشعل محمد البوعزيزي الشرارة في جسده، لم يكن أحد من المحللين ولا حتى من المنجمين يتوقع أن يحصل ما حصل في تونس ثم في مصر وفي كثير من أرجاء الرقعة العربية، فهل لنا أن نتوقع انتفاضة أو ربيعا ثوريا يهز كيان الجامعة العربية فينسفه أو على الأقل يحوله إلى مؤسسة مختلفة عما كان عليه حالها سابقا؟ هذا ليس مستحيلا ولا مستغربا لأن العكس هو الذي سيكون غير طبيعي.
الجامعة العربية مثلما أنها لم تكن يوما تمثل أو تعكس طموحات شعوب المنطقة فإنها لم تكن أيضا طيلة عقود وجودها تشكل حالة انسجام ولا قوة سياسية تحسب لها المنظمات الإقليمية والدولية حسابا حقيقيا. مهما حاول الحكام والأنظمة إخفاء ذلك والظهور بمظهر البنيان الواحد والصلب.
كثيرا ما كنا نسمع ونشاهد لقطات مسروقة عن خلافات وصدامات بين أعضاء هذه المنظومة العربية لكن المصلحة العامة للجميع كانت تقتضي من الحكام أن يتفقوا على نهايات رومانسية تتجسد في عبارات المجاملة وجلسات التبويس والابتسامات المصطنعة المتبادلة بين هذا القائد وذاك. لا تهمنا الآن الخلافات المصلحية والشخصية على فسيفساء الحكام العرب، بل ما يمكن أن ننتظره هو أن تتفاعل هذه المنظمة وترتج على وقع الهزات التي تضرب الشارع العربي، ولا بأس أن يكون اجتماع الرباط اليوم شرارة حقيقية لانطلاق هذا الحراك الرسمي العربي. الخلافات الرسمية حول كيفية التعاطي مع الانتفاضات الشعبية منذ ثورة تونس كانت ظاهرة للعيان، حكومات تجاوبت على غير العادة مع رغبات وصيحات الشعوب ووصل بها الأمر إلى حد تقديم دعم سياسي ومادي علني لها مقابل حكومات آثرت التضامن العضوي مع الأنظمة المغضوب عليها وذهبت إلى حد المشاركة إيجابا وسلبا في قمع وتقتيل المتظاهرين أملا في إسكات صوت الثورات وجعل الحالتين التونسية والمصرية طفرة وشذوذا.
الاجتماع الوزاري الأخير في القاهرة وما حدث فيه من توتر بين الوزراء العرب غاب عنا كثير منه ورأينا وسمعنا بعضه وكان فيه كثير من قلة الحياء وسوء الأدب الذي يعكس في الحقيقة واقع ومستوى الذين يحكموننا ويتحدثون ويقررون نيابة عنا. قد يقول قائل إن الخلافات بين الحكام ظاهرة صحية وطبيعية وهي موجودة داخل كبريات الهيئات والمنظمات الغربية، هذا صحيح لكن خلافاتهم غير خافية وهي في الغالب خلافات يقصد من ورائها الحفاظ على مصالح الشعوب بينما خلافات العرب في موجتها الجديدة صارت بين أنظمة مصرة على دحس إرادة الشعوب وأنظمة أخرى فهمت أن الزمن تغير وأن قمع الناس واستباحة دمائهم لم يعد لها مكان في قاموس المرحلة الجديدة.
أصعب الأمور بداياتها كما يقولون، وقد رأينا كيف كانت ردود فعل بعض الحكام على الحراك الشعبي محتشمة ومقلقة في أحيان كثيرة، لكن الأمور تطورت في اتجاه تصاعدي على مر الشهور حتى رأينا حكومات وقادة منضمين تماما إلى صف الشعوب ولا يتورعون عن انتقاد زملاء قضوا معهم سنوات من الود والوئام والتلاحم. الخلاف الآن لم يعد خافيا على أحد، فريق من الحكام على قلته اختار أن يتخلى عن عباءة التضامن الطبقي ويلتف حول شعوب أخرى ثارت ضد حكامها، وفريق آخر يرفض تصديق الواقع الذي يتغير من حوله ويصر على الاستمرار في سياسة القمع والتقتيل ضد شعوب قررت أن تنفض عنها غبار المذلة إلى غير رجعة.
اجتماع الرباط، إذا سارت الأمور بمنطق الحراك العربي الجديد، يفترض أن يكون فاصلا بين أنظمة استوعبت منطق الصيرورة التاريخية وأنظمة مستمرة في دفن رؤوسها في الرمل. الجامعة العربية لا يمكن أن تستمر على حالها مهما حاول البعض الوفاء لسياسة التكتم والنفاق، الزمن تغير ولا بد لهذا الكيان أن يتغير هو أيضا، والطريقة الوحيدة للتغير هي الانكسار الذي يولد من رحمه بنيان جديد تلتحم فيه القيادات والشعوب لصناعة مستقبل مشرق للمنطقة وفاء لقوافل الشهداء والضحايا الذي سقطوا لحد الآن قربانا في مذبح الحرية. الشعوب ثارت ليكون مستقبلها مختلفا عن عقود الظلام والجهل الديكتاتوري الذي خيم عليها عقودا طويلة، مستقبل لا يمكن أن يكون تصادميا بين القيادة والقاعدة. والقيادات التي انفتحت على الواقع العربي الجديد وتلك التي بدأت تفرزها الثورات المتألقة لا يمكنها بأي حال أن تسلك طريق القمع والاستهانة بالشعب، كما لا يمكنها أن تتورط في مستنقع النفاق العربي مرة أخرى فتبقى مرتبطة بعلاقات رسمية مع أنظمة فاسدة متسلطة باغية.
الجامعة العربية لم تعد تتسع للجميع بعد اليوم، فإما أن يتغلب تيار الإصلاح والتغيير فيطرد منها أنظمة البغي والفساد ولا يسمح لأي نظام بالعودة إلا إذا نال رضا شعبه، أو أن يعترف بضعفه وينسحب من ذلك الفضاء ويتركه للفاسدين يواصلون إفساده حتى يهوي الهيكل بمن فيه. حان الوقت لكي تجد الشعوب العربية سندا عربيا تحتمي به من بطش الطغاة، فنور الفجر قد بزغ ولم يعد هنالك مكان لوضع رجل هنا وأخرى هناك كما صار مستحيلا الاحتفاظ بالذئاب والخرفان تحت سقف واحد.
الصحف الجزائرية تعج هذه الأيام بأخبار ومقالات تتعلق بالموقف الرسمي الجزائري من الربيع العربي ومن الأزمة في سورية على وجه الخصوص. كثير من المعلقين انتقدوا ما وصفوه بالموقف السلبي للدبلوماسية في بلدهم، منهم من تباكى على أيام عز الدبلوماسية الجزائرية خلال عقدي السبعينات والثمانينات ومنهم من وصل به تفكيره إلى المطالبة بإقالة وزير الخارجية مراد مدلسي عقابا له على أدائه الهزيل خاصة بعد أن أطلق السفير السوري لدى الجامعة كذبته وقال إن رئيس اللجنة الوزارية العربية أعلن عن تبني الجامعة لقرار عزل سورية في الوقت الذي كان فيه الوزير الجزائري يتحدث ليتبين في ما بعد من خلال تصريحات رسمية جزائرية أن مدلسي لم يتناول الكلمة أصلا في تلك اللحظة أو ربما في ذلك الاجتماع. الخطأ الفادح الذي يرتكبه الداعون إلى إقالة الوزير هو أنهم يوهمون الرأي العام وقراءهم أن لمنصب الوزير في عهد الرئيس بوتفليقة وزن وأن الوضع سيتغير بتغير الوزراء. الجزائر صارت فعلا مضحكة أمام العالم ووزنها على الساحتين العربية والعالمية يزداد ضعفا، لكن ذلك لا يتعلق مرة أخرى بالوهن الذي صار إليه الرئيس بوتفليقة لأن البلاد لا تسير فقط برؤسائها مهما بلغت بهم القوة والفطنة. ومع ذلك فعندما تجتمع، كما في حالة الجزائر، مجموعة من العوامل من رئيس منهك وغائب عن الساحة ووزراء مترنحين ونظام فاسد وشعب تائه مسلوب الإرادة والتفكير وآفاق مسدودة فإن النتيجة الحتمية هي أن البلد لن تبقى له أية قيمة ولا وزن في أي فضاء، فلا تلوموا حكومتكم لأنها اتخذت هذا الموقف أو ذاك، فهي تفعل هذا أو لا تفعل ذاك لأنها لا تملك خيارا آخر غير ما تظهر به من تناقض وتخبط.
‘ كاتب وصحافي جزائري
القدس العربي