رحلة سوري مع المهربين في البحر
العربية نت
نشر الصحافي نجيب مظلوم ماحدث معه في رحلته ما بين الاسكندرية وإيطاليا على صفحته بالفيس بوك، وتطرق إلى تفاصيل ما حدث معه وظروف تلك الرحلة يوماً بيوم وساعة بساعة، العربية نت تنشر رحلة مظلوم كما كتبها بنفسه.
ربما يظن البعض ان رحله محفوفة بالمخاطر عبر البحر في قارب متهالك لبضعة ايام، قد تكون مغامرة خطيرة ، ما ان يجتازوها حتى تنتهي كل مخاوفهم. لكن مخاوف وهواجس البعض الاخر تبدأ عند خروجه من ذاك القارب، هذا ما حدث معي على الاقل، بعد رحلة بحريه استمرت احد عشر يوما، مشاهداتي سأرويها لمن يهمه الأمر..
قررت يوم الثلاثاء 10-6-2014 وبشكل مفاجئ – وغريب على شخص يعمل بالصحافه والافلام الوثائقيه- السفر بشكل غير شرعي عبر البحر من مصر الى ايطاليا. ربما يعود السبب وراء هذه المغامره اضافة الى البحث عن عيشة كريمة بعيدا عن بلاد العرب اوطاني ، هو الرغبة بمعرفة مايمر به المهاجرون من مصاعب في رحلة عبور جسر الحياة والموت بحثا عن حلم في العيش الآمن.
ترتيبات الرحله
النصائح كلها انصبت على تخفيف الحموله بحيث لاتتجاوز حقيبة تحمل على الكتف، تحوي بعض الملابس وبعض التمر والماء، يمكن ان يضاف لها علبتي مرتديلا ومثلثات جبنه. والاغراض القيمه كالموبايل والاوراق الثبوتيه يجب تغليفها بالنايلون واللاصق كي لا تبتل بالماء ووضعها في حقيبة صغيره تعلق على الرقبه. الملابس بما فيها الاشياء التي ستلبسها تتضمن بجامه سميكه، شورط، جاكيت ويفضل بطاقيه، بدلين داخليين او ثلاثه، تيشيرت، قبعه للشمس، صندل. المعدات الطبيه تتضمن واقي شمسي، كريم حروق، حبوب انتنال للاسهال، حبوب درامينيكس لدوار البحر ، وحبوب باربيران للغثيان، اضافه لمعقم او مناديل معطره. لاشيئ اكثر من ذلك لانك قد تضطر للتخلي عن حقيبتك كما فعلت انا.
كان مقررا للرحلة أن تنطلق من القاهره في اليوم التالي عبر “ميكروباصات” الى الاسكندريه، حيث وصلنا عصر اليوم الى شاطئ شعبي غرب المدينه، لتتوافد باصات اخرى, حيث خصص لنا مبنا يضم 12 شاليه، كل منها يحوي 12 شابا او 4 عائلات.
وكان مساء اليوم هو احتمال الانطلاق في الرحله ، لكن تم تأجيلها الى الخميس 12-6-2014 ، ثم جمعنا احر سماسرة الموت وقال بان الرحله ستتأجل الى مساء السبت لكي لا نتخزن في البحر ريثما تكتمل اعداد القادمين.
سماسرة الموت و أسعارهم
سماسرة مراكب الموت في الاصل من الجنسية المصريه، لكن ومع الوقت دخل سماسره سوريين على الخط، خاصة بعد الكوارث التي حصلت في العام الماضي من تسليم السماسرة للناس الى السلطات المصريه و بعض عمليات تشليح اموال المسافرين. فقد طور السماسره السوريين طرق تأمين الرحلة على الركاب، كعدم قبض ثمن الرحله الى ان يصل الراكب الى الشواطئ الايطاليه، حيث يوضع المبلغ المتفق عليه عند كفيل يقبله الطرفين، وعادة ما يكون تاجرا يملك متجرا، ينتظر هاتف المسافر كي يسلم المبلغ.
وتختلف اسعار الرحل بحسب الموسم وحسب العرض والطلب، وعادة ماتكون في اشهر الصيف فقط بسبب طول المسافة والخوف من تقلبات البحر في الخريف والشتاء.
بعد أن كثرت الرحل عبر تركيا الى اليونان بسبب قلة مخاطرها سواء البحريه او لجهة ردة فعل السلطات التركيه، انخفضت تكاليف رحل مصر -ايطاليا. ولكن الذهاب من اليونان الى اوربا اكثر تكلفة في النهايه ، لاستحالة العبور برا بسبب حدودها مع اوربا الشرقيه ، وبالتالي يستلزم الامر الانتظار في اليونان ريثما يتأمن للمسافر بطاقة اوربيه ليتمكن من السفر جوا، وهذ يزيد المصاريف سواء لجهة تكاليف تزوير البطاقه او لجهة تكاليف الانتظار.
وقد يبدأ سعر الرحلة من مصر الى ايطاليا من 1800 دولار الى 2000 بحسب معرفتك بالمصادر الاكثر قربا من المهرب الكبير. وعموماً هذه الاسعار تشمل الكبار فقط بينما الصغار يسافرون مع ذويهم بالمجان.
لكن دخول المهربين السوريين على الخط يرفع من سعر الرحله لتتراوح بين 2200 و 3000 دولار، بحجة أن رحلهم أكثر أماناً وانسانيه واضمن في طريقة الدفع، وبالتالي ولكي يقبضوا أموالهم لا بد من ايصال المسافر اولا الى بر الأمان. علماً أن السماسرة المصريين والسوريين كلهم يعملون تحت سلطة رجل مصري واحد ونافذ ، معروف بلقب “الدكتور” وجميع قوارب التهريب تخضع لسلطاته، وله طرقه في التعامل مع الحكومة المصريه وباقي حكومات دول البحر المتوسط.
تفاصيل الرحله كما يرويها السماسرة للركاب
بعض السماسره يجعل البحر طحيناً للمسافر، حتى ظن بعض المهاجرين أن هنالك اوقات لوجبات الطعام التي تحوي ما لذ وطاب توزع على الركاب. وفي المجمل يقول السمسار للمسافر انهم سينطلقون بمراكب صيد صغيره من شاطئ ما مسافة قصيره الي مراكب اكبر هذه المراكب تمشي حوالي ساعتين لتصل الى مركب حديدي كبير الذي بدوره يبحر حتى يصل الى مسافة من شواطئ ايطاليا حيث سيكون بانتظارهم البوارج الايطاليه. في مدة تتراوح بين 4 الى 6 ايام.
تفاصيل رحلة الموت كما عاينتها
14-6-2014 ، خرجنا من المجمع البحري غرب الاسكندريه حوالي الساعه السابعه مساءً ، حوالي عشرة ميكروباصات كانت تقلنا من المجمع متجهة غرباً على طريق مرسى مطروح مسافة ساعتين ونصف تقريبا، كل باص يحوي حوالي 16 راكب، ثم تأخذ الباصات طريقا جانبياَ في حقول القصب ليتم انزالنا منها وتحميلنا في شاحنتين متوسطتين كما الاغنام ووضع فوقنا “شادر” مسافة نصف ساعه، لتعود الشاحنتين الى الطريق العام ثم تذهبا في طريق ترابي يوصل الى منطقة قريبة من الشاطئ. حيث ننزل ونتجمع قرب باب “عزبه” ثم ننطلق مهرولين على الاقدام باتجاه الشاطئ مسافة تبلغ كيلو متر ونصف نصفها رمال كثيفه تثقل علينا احمالنا..
، لنصل اخيرا الى البحر غائصين حتى الخاصره حيث مركبي صيد صغيرين بانتظارنا يحمل الواحد منها 15 شخصا تحملهم الى مركب صيد يبعد مسافة دقائق في البحر.
نصل القارب ذي الخمسة عشر متراَ منتظرين وصول باقي الدفعات من المراكب الصغيره، لتصل حمولته الى 150 راكباَ ضمنهم 65 مراهقاً مصرياً. كلنا جالسين القرفصاء بسبب ضيق المركب بنا.
يبحر القارب بنا وقد اشتد برد الليل في عرض البحر، ويزيد برده بللنا وتعبنا من الركض فوق الرمال. لنعد الدقائق بانتظار الساعتين علهما تنقضيا بسرعه، لتمر الساعات وينقضي الليل ، وتلفحنا شمس النهار الحاده، ولا سقف يحمينا ولا يوجد حمام لقضاء الحاجه، ويبدأ بعض الركاب بالتقيؤ على حواف المركب واحيانا فوق بعضهم البعض، خاصة المصريين بسبب عدم اخذهم لحبوب دوار البحر، والاطفال تبكي والنساء تتذمر. بعد عشر ساعات نلتقي بمركب آخر كمركبنا يحمل باقي الركاب. يطعمنا الطاقم المؤلف من 4 اشخاص سليطي اللسان الخبز اليابس مع جبنة الفيتا المالحه ويسقونا بعض المياه.
بعد 32 ساعه والكثير من اتصالات الثريا نلتقي بمركب حديدي بطول 28 مترا، وتبدأ عملية الصعود على متنه .
لحظات الصعود الى المركب اخافت الكثيرين، فتلاطم الامواج يجعل القاربين تارة يلتصقان وتارة يبتعدان في ارتفاع وانخفاض، تنزلق قدم امرأة هنا بين القاربين حيث كان يمكن ان تنهرس لو ارتطم القاربين في نفس اللحظه، وترتطم قدم رجل هناك بحديد المركب لدى وصوله فتسبب له خدوشاَ ورضوض.
المركب الحديدي
مركب مطلي بلونين ، احدهما ازرق، ومؤلف من عنبرين كبيرين في الاسفل لتخزين طعام الطاقم والسمك الذي يتم اصطياده، سطح المركب من الخلف يحمل تلة من الشباك وماكينة كبيرة لرفع الشباك من البحر، وبكرة كبيرة للجر صدئة بالكامل. تفصل مؤخره المركب عن المقدمة ثلاث غرف للبحاره ومطبخ صغير وحمام واحد و”كريدورين” ، عند المقدمة يوجد سلم الى الاعلى حيث قمرة القياده تتضمن غرفة نوم صغيره للقبطان خلفها مؤخرة اخرى للمركب فوق المؤخرفي الطابق الاسفل ولكن اصغر منها ولا تغطيها بالكامل. وتحمل تلة من الصناديق الخشبية التي توضع فيها الاسمالك عادة.
طاقم المركب مؤلف من قبطان اربعيني و15 بحاراً يتكلمون بلهجة تجمع بين المصرية والليبيه. وزعوا علينا الصناديق الخشبيه لننام عليها ، وتوزعنا في جميع ارجاء المركب، العائلات في الاسفل في الغرف والكريدورين ومؤخرة المركب . والشباب على المقدمة المكشوفة والمؤخرة العليا المكشوفة ايضاً وبين جهتي قمرة القياده.
الطعام والشراب في المركب الحديدي
كان الفطور متشابهاَ حيث الحلاوة والمربا مع الخبز الرديء، كذلك العشاء إما قليلا من الجبن المالح او مرتديلا مع ذات الخبز، طبعاَ كل شيء بكميات قليله. اما الغداء فكان بعد قضاء الليلة الاولى رز وفوقه بضع اسماك مقليه صغيرة تشبه السردين، وفي اليوم الثاني نفس الكميه ولكن مع قريدس صغير، في الثالث بعض المعكرونه، في اليوم الرابع رز مع علب طون، في الخامس كاليوم الاول رغم سوء الاحوال الجويه وبالتالي انتشار حمى القيئ والدوار، في السادس بعض الجبن مع الخبز بسبب استمرار ارتفاع الامواج.
اما الشراب فهو الماء النظيف في البدايه، بعض الشاي صباحا او عصراً، الماء المذاب من الثلج بطعمة زنخة الاسماك، واحيانا ماء بنكهة المازوت والذي يسحب من عملية تبريد المحرك بمياه البحر وتصفيه المياه من الملح.
اما الخروج الى التواليت فقد لايصح الا مرة واحدة في النهار، خاصة مع وجود 300 شخص على سطح المركب نصفهم اطفال ونساء وعجائز.
ستة ايام لم توصلنا إلى أي مكان
اكتشفنا باننا على مركب مؤقت لان المركب الذي يفترض به ان يقلنا لم يأتي فتم الاستنجاد بهذا المركب ريثما يتم تأمين مركب اخر لنا، وفي الانتظار يبحر المركب في المياه الدوليه بين مصر وليبيا ذاهبا عائداً ، وفي اليوم الرابع لصعودنا على متنه يتجه الى نقطة بين مرسى مطروح والحدود الليبيه لنرى ليلا المركب الذي يفترض به ان يوصلنا الى ايطاليا، خشبي بطول 17 مترا بعنابر صغيره قيل ان المصريين سيوضعون بها، وسطح يحوي قمرة قيادة مع حمام صغير، بغطيها مع مؤخرة المركب سطح رقيق لايحتمل ثقل اكثر من عشرين شخصاً. وفيه 3 بحارة صغار.
رفضت مع بعض الناس صعود 300 شخص على سطح هذا المركب ولكن اخرين قبلوا لانهم يخشون الرجوع ودخول السجون المصريه، فتعهد القبطان نتيجة اعتراضنا ان نبقى على متن مركبه لغاية الوصول قريبا من المياه الاقليميه الايطاليه وهناك سيحملنا على المركب الصغير ويبتعد بينما نطلب نحن النجدة عن طريق هاتف الثريا لتصل البوارج بعد ساعتين او ثلاث، ومن لا يريد منا النزول يرجعه معه. فوافقنا على مضض بعد أن حاولنا اقناعه بان نبقى على متن قاربه ويسلمه، ولكنه رفض متحججا بانه غير مستعد لتسليم مركبه وبحارته.
لكن اظن بان السبب الاساسي هو ان المهرب الاكبر “الدكتور” لا يسلم مركب كبير يساوي مليون جنيه مصري اذا لم يكن عدد ركابه يتجاوز 600 ، وعلى اعتبار ان كل مدة ابحارنا لم يتأمن معهم المزيد من الركاب فقد قرروا نقلنا على مركب صغير.
اليومين الاخيرين على متن القارب الحديدي كانا سيئين للغايه الامواج الى قرابة 4 امتار وسرعة الرياح، وبالتالي عاد دوار البحر مع الغثيان وحالات الاغماء بسبب المياه السيئه.
نزلنا اخيرا بعد هدوء البحر الى المركب الصغير على اساس اننا اقتربنا جدا من ايطاليا ، ولكن كان مؤشر الـ GBS على هاتفي وهاتف الدكتور فراس الى اننا جنوب جزيرة كريت، اي على بعد اميال كثيره من الحدود الاقليميه الايطاليه.
حاولت اقناع الناس بعدم النزول ولكن سبق السيف العذر ، وكان البحاره قد بدؤا باظهار امتعاضهم منا.
المركب التائه
لم تخطرني الا رباعية صلاح جاهين:
نوح راح لحاله والطوفان استمر… مركبنا لسه تايهه مش لاقيه بر
اه من الطوفان وآهين يا بر الامان… ازاي تبان، والدنيا مليانه شر
وعجبي
نزلنا الى المركب الصغير، متجمعين فيه كيوم الحشر، العنابر التي من المفترض ان تسع المراهقين المصريين، لا يمكنها ان تتسع لثلثهم. حاولنا الاتصال بالصليب الاحمر فقالوا لنا اننا بعيدين جدا عن اي بوارج، ويجب ان نبحر مسافة يوم قبل ان تصل الينا اي وسيلة انقاذ.
المياه بدأت في التدفق الي المركب من احد العنابر، فتعاون الشباب على تفريغ المياه، اما مياه الشرب فقد بدأت بالنفاذ بعد اقل من 10 ساعات من صعودنا اليه.
بدأنا بشرب مياه تصفية المحرك المشبعة بالمازوت، في اليوم الثاني كان الوضع خطرا جداً، الناس تتذمر من شدة الحر ونقص المياه الشديد والازدحام في المركب وهزال الأجسام ، فكثرت المشاداة لأتفه الأسباب ، وأصبح من الاستحالة بمكان السيطرة علي اليافعين المصريين الذين تطور النزاع بينهما الي استعمال الأيدي .
القبطان أو البحار بالاحرى شاب صغير سيسلم نفسه ككبش فداء “للدكتور” ، ليحبس مدة 7 سنوات تذهب من زهرة عمره ، مقابل 5000 دولار لاغير. في لعبة متكامله متورط بها حتى الحكومة الايطاليه.
وطلب منه وبمجرد وصول البارجه او طائرة الاستطلاع ان يرمي جهاز الثريا في البحر كي لا يتعقبوا الاتصالات مع المهربين.
اتصالنا اخر النهار بالصليب الأحمر مجددا وأعطني اهم الإحداثيات وعدوان خلال بضع ساعات بالانقاذ،. ولكن ليلا ظهر ضوء بعيد في الأفق فظن البعض انها بارجه او طائره وصححوا بتكهناتهم عاليا، مما أخاف الشاب البحار وجعله يرمي جهاز الاتصال الوحيد على المركب جهاز الثريا. فانقطعوا تماماً عن العالم ، لا يمكن لأجهزة الخليلي التقاط اي إشارة ونحن في وسط المياه الدولية جنوبنا بنيغازي وشمالنا اليونان ورغبنا إيطاليا ، بعيدين عن اي منها مسافة تتجاوز ٤٠٠ كم.
اليوم اليائس
لا ماء حتى للأطفال ، نحل بقايا مياه تصفية المحرك مع الحليب ليشرب الرضع ، التجفاف بلغ أشده كذلك الإعياء والعصبية والاغماء المتكرر للأشخاص ، خاصة الذين تحت لهيب الشمس.
قرر البعض استعمال مياه البحر للشرب بعد تحليته بالسكر، وشرب بعض المصريين بضع جرعات ، ولكننا ردعناهم ، وأقنعناهم بان هذه المياه تزيد العطش وتؤدي الى الفشل الكلوي.
لا غيارات كافيه للأطفال، وبعض الأكبر سنا منهملا يتوقف عن التقيؤ كل ما حاول أهلهما طعامهم شيئا، بعض الأشخاص يطالب بالعودة الى مصر وبعضهم يطالب التوجه شمالا الى قبرص، واحدهم تساءل لما لا ننزل الى بنيغازي ، خاصة بعد ان استلمنا دفة المركب لأننا وجدنا على الجي بي آس ان البحار لايبحر بطريقة صحيحة، فاختارنا عدة أشخاص لننفذ الموقف ، فاعتمدوا على أجهزتنا الخلي وفيه في التواصل مع الأقمار الصناعية لتحديد الموقع بلا إنترنيت او اتصال طبعا، وتناولنا على قيادة القارب أنا ودكتور شاب دمشقي وآخر من درعا، متجهين مباشرة نحو الشمال الغربي الى إيطاليا ، والناس تصرخ وتضج وتقاتل بعضها بكل أنانية ، مما جعلنا أنا صديق الرحلة ابو بحر ترديد أغنية سميح شقير بصوت منخفض:
لهفي عا سفينة بين رياح وموج
مكسورة الصواري من رياح الهوج
ورجال السفينة اختلفوا.. ضيعانك يا سفينة..
بارقة أمل
لاحت لنا في الأفق الشمالي ناقلة نفط اسمها ليماصول ، قبرصية على الأرجح . غيرنا الاتجاه ولحقنا بها، ملوحين بستر النجاة ، تجربتنا وتوقفت عند مسافة ، وبان قبطانها مع ناضوره المكبر، وطلب منا بعد عشرة دقائق من الانتظار الابتعاد.
فهبطت الآمال مجددا، وأعدنا الدفة صوب الاراضي الإيطالية ، ولكن لاحظت بأن الناقلة، لم تكمل الإبحار باتجاه خطها بل أصبحت تتابعنا من بعيد، فأمهلت بأنها ووفقا للقوانين البحرية ستتصل بفرق الإنقاذ، بعد إبحار اربع ساعات ضج الناس كثيراً، فقررنا المحاولة ثانية مع الناقلة ولكن هذه المرة من اجل ان تزودنا بالمياه فقط، وفعلا حولنا المسار باتجاهها ولوحنا لها بقناني المياه، بعد ربع ساعة ألقوا لنا بشيء في المياه، وبنفس اللحظة ظهرت طائرة استطلاع، ظن البعض بان الذي أنزلوه في الماء مجرد إشارة لكي ترشدنا الى الاتجاه الذي يتوجب علينا سلوكه، لكن قررنا التوجه الى المكان ليتبن انها “غالونات” مياه مربوطة بسترة نجاة كي تعوم.
تهيأت للنزول ولكن سبقني احد الشباب للنزول بينما كنت وراء الدفه، ثلاث غالونات طارت بدقائق حاولت تخصيصها للأطفال فقط ولكن عبثا.
بعد ساعة ظهرت بارجة حربية قادمة من الشمال جهة اليونان، وحاولت الناقلة قطع طريقنا لكي نتجه نحو البارجه، ولكننا قررنا عدم تسليم نفسنا بعد هذه المشقة للسلطات اليونانية، خاصة وان الناقلة حولنا في حال حصول اي طارئ، فرمت لنا الناقلة مجددا مياه الشرب، فنزلنا أنا وشاب من الساحل بإحضارها على اعتبار ان الكمية اكبر، وفعلا ورغم الاقتتال على المياه الا ان الجميع استعاد الحياة بعدما شرب.
وكنت في الانتظار أسفل المركب ريثما ينتهون من التنازع على المياه لكي يسحبوا الحبل واصعد، فلقد عجزت عن تسلق الحبل لشد عضلي في ظهري، وتم الامر.
تابعوا مسيرنا بضعة ساعات حتى وجدتنا بارجة بحرية إيطاليا بعيدا عن المياه الإقليمية الإيطالية مسافة ٢٠٠ ميل بحري.
رحلة الإنقاذ
في ٢٤-٦-٢٠١٤ نزلت المراكب المطاطية السريعة من البارجة ووزعت بعض المياه وستر الإنقاذ علينا، وبدأت في عملية التحميل على دفعات الأطفال والنساء اولا ثم الرجال، صورة للمركب بعد فراغه.
على البارجه بدونا كالجراثيم امام بدلات التعقيم التي يلبسها الطاقم ابتداء من الكمامات الي الأكف الى الستر.
عند الساعه الخامسة عصرا، وضعوا الرجال على سطح البارجه في مدرج طائرات الهيليكوبتر ، والنساء داخل حظيرة الطائرات ، بعد التفتيش وزعموا علينا الكثير من المياه وبعض الطعام. ثم قامو بتوزيع ارقام علينا بعد السؤال عن العمر والجنسية، وقدموا سوائل منع التجفاف للأطفال والنساء.
بقينا على ظهر الناقلة مبحرة بنا يوما كاملا، لنصل عصر يوم ٢٥-٦-٢٠١٤ الى ميناء Taranto جنوب إيطاليا حيث كان باستقبالها مجموعة من الصحفيين وسيارات الإسعاف، والشرطة، وتم وضع الشباب في مخيم قرب مدينة Bari على بعد ساعة شمال مدينة النزول ، المخيم مخصص للاجئين السياسيين حيث تمكنا اخيراً من الاستحمام ودخول المرحاض ، والتهام الطعام ، والاهم من كل ذلك التفاح الأخضر.
وفي اليوم الثاني عرضنا على الطبيب لمعالجة اثار الرحلة، وهربوا من المخيم في عصر ذلك اليوم كي لا نضطر الى الخضوع لبصمة إيطاليا، توجهنا شمالا الى ميلانو، لكي ينطلق كل منا في رحلته الجديدة الى البلد الذي اختاره، ولكن الأكيد ان في نفس كل شخص شرخ اسمه رحلة قارب الموت ، وعبئا على ضميره عند تذكر لحظات الأنانية التي عاشها، ومدى هشاشة الحياة.